ماذا فعلت بهم الأزمة؟ الأطفال.. انخراط كامل في حمل أعباء العمل والحياة المعيشية.. وأجيال تتخلى عن العلم لصالح البقاء

ماذا فعلت بهم الأزمة؟ الأطفال.. انخراط كامل في حمل أعباء العمل والحياة المعيشية.. وأجيال تتخلى عن العلم لصالح البقاء

أخبار سورية

الثلاثاء، ٣١ مارس ٢٠١٥

على أحد أرصفة منطقة البرامكة جلس «فراس» كما أطلق على نفسه الاسم خجلاً من سؤالنا له، لينادي بأعلى صوته على المارة جيئة وذهاباً“ أي قطعة بمية ليرة”.. ويبدو أن سؤاله عن الأحوال وواقع العمل  شحن عصبية فراس ليعبر مباشرة عن استيائه من قلة العمل وسوء الوضع المادي، فمن بين كل عشرين شخصاً عابراً يقف زبون واحد ويشتري منه.. ابن السنوات العشر لم يعد يذهب للمدرسة منذ سنتين بعد أن طحنت الحرب منزل أهله آخذة معها والده وأخاه المعيلين الوحيدين لأسرته المكونة من أربعة أطفال، هنا لم يبق أمام الأم إلا أن تنشر فلذات كبدها في شوارع العاصمة بحثاً عن عمل يؤمن لهم لقمة العيش الحلال بعد ما ذاقوه من مرارة تشرد وجوع.. ولم يكن عمل أخ فراس الأكبر منه بثلاث سنوات أفضل حالاً من عمل فراس، على حد قوله،  فبعد أن فقد الأخ الأمل بالعثور على عمل يؤمّن له دخلاً مادياً جيداً اتجه إلى العم محمد الذي تبنى مجموعة من الأطفال للعمل لديه على عربات جوالة في شوارع دمشق تحمل عليها قطعاً من الخبز المحلى ، ليعودوا آخر النهار حاملين النقود التي يتقاسمونها مع هذا الرجل..
هذا مثال من بين آلاف الأمثلة على عمالة الأطفال، التي لا شك في أنها ليست وليدة للأزمة، لكن الظروف الحالية بكل ما فيها من أزمات وتداعيات تركت بصماتها الواضحة على هذه الظاهرة ، ومع عدم وجود أي أملاك أو معيل للعائلة بإمكانه العمل فإن الأطفال مجبرون على المساهمة بتغطية المصاريف الشهرية، وبالتالي مجبرون على ترك الدراسة وعوضاً عن الجلوس على مقاعد الدراسة في المدارس انتقلوا للجلوس على أرصفة الشوارع، وفي ورشات التصليح ومعامل الأغذية، واضطرت أجسادهم الصغيرة إلى تحمل مشاق العمل منذ الصغر….
بين البقاء والنزوح
أصبحت ظاهرة عمالة الأطفال منتشرة بشكل كبير في أغلب المدن السورية وفي البلدان المجاورة، فبات الطفل السوري ضحية العمالة في بلده وفي مخيمات اللجوء بسبب الفقر وصعوبة الحياة المعيشية بعد أن حولت الأوضاع السيئة في البلاد عدداً كبيراً من الأطفال إلى أيتام دون معيلين وكل واحد يحمل مأساة وقصة وإن اختلفت تفاصيلها إلا أنها تتشابه في النتيجة وهي العمل في سن الطفولة والتي غالباً ما تنتهي بنتائج قاسية على الأطفال في صغرهم أو حتى عندما يكبرون، فابن التسع سنوات تسببت إحدى قذائف الهاون بفقد رجل والده، ولم يبق من يعيل الأسرة سواه، فهو أكبر إخوته لذا ترك كتبه وأقلامه حاملاً جسده النحيل ليعمل في مغسل للسيارات و لسجاد المنازل، حين التقيته كان يحمل سجادة على ظهره وهي مبتلّة بالمياه لينشرها على الحبل، لكنه لم يكن يحمل من الجرأة ما يكفي ليصرح باسمه الحقيقي مكتفياً بمقولة” الأزمة يا خالة أوصلتني إلى هنا” كان هذا الطفل يملك من الوعي ما يكفي ليخبرنا بأن الطريق الذي اختاره أفضل بكثير من الانحراف وراء الأطفال والشبان الذين حاولوا جرّه للخروج معهم بمظاهراتهم لقاء مبلغ مادي يعيل أسرته بعد أن فقد الأب رجله وعمله.. وفي مشهد آخر تحدث لنا أحد الأصدقاء في لبنان عن طفل سوري  بعمر الخامسة عشرة اضطر للنزوح مع أهله بعد أن فقدوا منزلهم ومصدر رزقهم باحثين عن مصدر رزق لهم في لبنان ليعملوا أخيراً في ورشة بناء  سقط فيها هذا الطفل عن سطح البناء وهو يحمل كيساً من الرمل فاقداًً حياته أمام عيون والده الذي جلس يشكو همّه لصاحب الورشة الذي اكتفى بالقول “يموت هون أحسن ما يموت بالحرب”…
هذا نموذج بسيط عن ما تشهده الدول المجاورة من عمالة للأطفال السوريين واضطهاد لهم، وكانت وزارتا العمل في الأردن وفي لبنان قد اعترفتا بارتفاع مؤشرات عمالة الأطفال اللاجئين السوريين إلى 60 ألفاً في الأردن و50 ألفاً في لبنان.. وحسب احصائيات “اليونيسف” فإن أعداد اللاجئين من الأطفال السوريين في الفئة العمرية من 6- 18عاماً يقدر بنحو 200 ألف طفل، منهم 120 فقط على مقاعد الدراسة، في حين ان نحو 80 ألفاً يعدون متسربين عن الدراسة، ويرجح أن تكون غالبيتهم من الذكور المنخرطين في سوق العمل وعرضة لابتزاز أسواق دول اللجوء.

محافظة على المهن
لم يكن ما بقي ممن رأيناهم من أطفال يعملون هم من الفئة التي لا تملك دخلاً ولا معيلاً ، بل كانوا ممن يملكون آباء لا زالوا متمسكين بأفكار تحكي عن مهنة الآباء والأجداد، تلك المهن التي لا يجب أن تموت برأيهم، مؤمنين بمقولة ” العلم ما بطعمي خبز”.. طبعاً يمكنك رؤية هؤلاء الأطفال ببساطة بين أزقة سوق الحميدية وفي محلاتها يساعدون آباءهم بالعمل ليتعلموا المهنة على أصولها، إضافة إلى محلات تصليح السيارات وبيع الأدوات المنزلية و…
أبو عيد الستيني في العمر كان من هؤلاء التجار الكبار الذي فاجأنا برأيه المختلف عندما قال “لم أكن يوماً من هؤلاء التجار الذين يخشون أن تندثر مهنتهم بعد موتهم، بل تركت المجال مفتوحاً أمام أولادي للدراسة وتحقيق ما يرغبون، لكن الصدمة كانت بعد تخرجهم حقوقيين وخريجي تجارة واقتصاد وعودتهم للعمل معي في المحل التجاري، هنا تحولت قناعته بأن عمالة الأطفال ليست هي المشكلة بل تلك البطالة التي تصيب أغلبية الشباب بعد تخرجهم، مطالباً الدولة بتأمين فرص للخريجين بدلاً من الحد من عمالة الأطفال وقطع أرزاقهم.

مقترحات وخطط
ويحظى موضوع عمالة الأطفال باهتمام الحكومة السورية والمجتمع الأهلي قبل الأزمة وبعدها، وقد نظم الفصل الثاني من الباب السابع من قانون العمل رقم 17 موضوع تشغيل الأحداث، حيث تمنع الأحكام النافذة تشغيل الأحداث من الذكور والإناث قبل إتمام مرحلة التعليم الأساسي أو إتمام الخامسة عشرة من عمرهم، كما يحظر تشغيل الأحداث أكثر من ست ساعات يومياً على أن تتخللها فترة لتناول الطعام والراحة، ولم يجز القانون لصاحب العمل تشغيل أي حدث قبل أن يقدم وليه شهادة صحية تثبت مقدرته الصحية على العمل الذي سيوكل له.
لكن، ومع تشعب الأزمات التي أفرزتها الأزمة التي نعيش بها كان لا بد من تكاتف الجهود للحد منها لذا توجهنا للهيئة السورية لشؤون الأسرة لمعرفة ما الذي قدمته لخدمه هذا الموضوع حالياً، حيث شرحت لنا رنا خليفاوي مديرة القضايا الأسرية في الهيئة مقترح خطة عملهم الجديدة  لمكافحة عمالة الأطفال خلال الأزمة والتي شملت تنفيذ دراسة ميدانية حول مشكلة عمالة الأطفال في ضوء الأزمة، مع تفعيل دور المرشدين الاجتماعيين والنفسيين في المدارس بشكل أكبر، وإدخال الإرشاد المهني ضمن مهامهم، وتفعيل مراكز التوجيه المهني، والعمل على ربط التعليم المهني بسوق العمل، ورفع الوعي بقضايا عمالة الأطفال في مراكز الإقامة المؤقتة، والتوعية حول عمالة الأطفال عبرة المنابر الدينية، ونشر رسائل توعوية ضمن الخطب الدينية وعبر الداعيات، وتفعيل حملات إعلامية حول أسوأ أشكال عمالة الأطفال (التجنيد القسري) ومناهضتها وكيفية الوقاية منها وعلاجها، وتدريب المفتشين، وخلق مجموعات متخصصة بالتفتيش بأماكن تواجد الأطفال، مشيرة إلى تأسيس شبكة جمعيات تعنى بالحد من عمالة الأطفال لدعم الأسر التي اضطرتها الظروف لتشغيل أطفالها، وتفعيل الجانب القانوني والرقابي، وإقامة ورشات عمل في كافة الجهات حول قانون العمل رقم 17 المتعلق بعمل الأحداث والعمالة القسرية والاتجار بالأشخاص، والربط بين كافة الجهات والوزارات التي تعمل في مجال مناهضة عمالة الأطفال وحقوقهم وبين إدارة مكافحة الاتجار بالأشخاص.

قلة المفتشين
ومما لا شك به أن الأزمة الراهنة انعكست سلباً على كثير من الأسر لا سيما الأسر المهجرة أو التي فقدت معيلها ودفعت بأطفالها للعمل من أجل مساعدتها على تكاليف الحياة، لذا قامت وزارة العمل بالتعاون مع عدد من الوزارات بإعداد خطة وطنية تضمن مجموعة من البرامج للحد من هذه المشكلة في الظروف الصعبة الراهنة، والعمل على إعادة تأهيل الأطفال الذين دفعتهم الظروف للعمل في ظروف صعبة والعودة بهم إلى المدرسة بالتعاون مع المعنيين في تلك الوزارات لاسيما وزارة التربية، وتقديم الدعم اللازم لأسرهم من قبل وزارة الشؤون الاجتماعية والجمعيات الأهلية.. لكن وزارة العمل وعلى لسان رزان العمري” مديرة العمل” نقلت لنا جملة من معاناتهم في ضبط هذه الظاهرة أهمها صعوبة الوصول إلى جميع المناطق من اجل إعداد الدراسات أو جمع البيانات الخاصة بهذه المشكلة، إضافة إلى قلة عدد مفتشي العمل في المحافظات.. وأشارت العمري إلى التقارير الصادرة عن منظمة العمل الدولية والتي تفيد بارتفاع نسبة عمل الأطفال بين الأطفال السوريين المهجرين إلى الأردن ولبنان لاسيما في القطاع الزراعي. ووضعت لنا مديرة العمل جملة من المقترحات بضرورة تكاتف جميع الجهود الحكومية بين الوزارات والمؤسسات المعنية والجهات الأهلية والقطاع الخاص ومنظمات الأمم المتحدة العاملة في القطر من أجل دعم الأسر المتضررة بما يكفل سد احتياجاتها وتخليها عن الدفع بأبنائها إلى العمل في سن مبكرة، إضافة إلى رفع الوعي بين الأسر بأهمية الاستثمار بالطفل ودفعه إلى استكمال تعليمه المتوسط والعالي وتقديم الدعم المستمر لها.

أسر متصدعة
عند التحدث عن عمالة الأطفال لا تستطيع إلا وأن تفكر بالآثار السلبية لهذه الظاهرة، لكن علم الاجتماع كان له رأي إيجابي بالموضوع حيث يوجد هناك من يرى أنها تؤمّن في ظل الأزمة الحالية دخلاً يحمي الأسرة من الجوع، ويقيها من سؤال الآخرين من الناس إذا وافقت شرطاًَ لخّصه لنا الدكتور طلال مصطفى بضرورة أن يتناسب العمل مع قدرات الطفل الجسمية والذهنية والعمرية، وأن  يترافق عمل الطفل بوجود أحد أفراد الأسرة “أب، أم ، أخ”، ففي هذه الحالة لا يطلب الأب من ابنه العمل فوق طاقته، بل القيام بأعمال مناسبة لأجسادهم، في المقابل إن كل طفل يعمل خارج هذا الشرط سيلحق به الأذى من كافة الجوانب بسبب ظروف العمل الحالية غير الآمنة كما هو الحال في المصانع ومحال البناء، إضافة إلى الضغوط النفسية الرهيبة والاستغلال والقسوة مما يؤثر سلباً على عاطفتهم وسلوكهم الاجتماعي والأخلاقي داخل أسرهم ومجتمعهم، واليوم وفي ظل الأزمة التي نمر بها ازدادت هذه الظاهرة بشكل رهيب مما اضطر الأطفال للخروج إلى العمل لتأمين لقمة العيش بعد فقد معيلهم أو منزلهم وهذا ما جعل أغلب الأطفال يخرجون من مدارسهم بالتالي فقدان الجانب التعليمي ومنه سيكون لدينا جيل كامل فاقد للتعليم مستقبلاً وهذا ما سيؤثر اجتماعياً واقتصادياً على مجتمعنا، إضافة إلى غياب السلطة الأبوية الذي يفتح المجال للانحراف، لذلك نجد أغلب الأطفال في معاهد الأحداث هم أطفال خرجوا من مدارسهم واتجهوا للعمل في مهن الحدادة والصيانة، ومما لا شك فيه أن الأطفال الذين يجوبون ساحات العمل هم منحدرون من أسر متصدعة أساساً، واليوم وفي ظل الظروف السيئة التي نعيشها وما أفرزته الأزمة من ظواهر سيئة غير تلك التي كانت موجودة فإن أغلب ما نسمع به من نتائج سلبية لعمالة الأطفال هو ما يتعرض له الطفل من اعتداءات جنسية اليوم في عمله وغيرها من الانتهاكات التي ستنتج جيلاً قادماً مشوهاً.

تقيّحات اجتماعية واقتصادية
عوامل كثيرة أسهمت في زيادة هذه الظاهرة في سورية خلال سنوات الحرب  فرضها الواقع الراهن على أبناء هذا البلد أهمها فقد الكثير من العائلات لمنازلهم ومصادر رزقهم ، إضافة إلى عدم وجود اليد العاملة الشابة التي فقدها البلد نتيجة ذهابهم لخدمة الوطن أو سفرهم لخارج البلاد، وهنا وجد أصحاب المهن والمصالح والورش الصغيرة والكبيرة أمامهم خيار تشغيل هؤلاء الأطفال الذين أفرزتهم الأزمة، فالفقر وما تترتب عليه من ظروف صعبة تمر بها الأسرة يؤديان إلى دفع أبنائها للعمل و عدم رغبة الكثير من العائلات في إرسال أطفالها للمدارس نتيجة الخوف أولاً والوضع المادي السيئ ثانياً، وانعدام المعرفة بقوانين عمالة الأطفال في بلدنا.. والأزمة التي نمر بها هي أهم أسباب انتشار هذه الظاهرة بشكل مخيف خلال السنوات الأخيرة، حسب رأي المحلل الاقتصادي محمد كوسا، وللأسف نحن في ظل الظروف الراهنة لا يمكننا اعتبار عمالة الأطفال ظاهرة سيئة تماماً لأننا اليوم بحاجة لها لعدة أسباب منها الحاجة التي يعاني منها المواطنون، وعدم كفاية الدخل في ظل غياب شديد للآباء نتيجة الظروف الراهنة، إضافة إلى تلك العمالة الموجودة في الأرياف والتي يزج بها الأهل أطفالهم للعمل بالقطاع الزراعي وبالتالي يتم تأطيرهم بإطار تنموي ليصبحوا منتجين ومسهمين بعائد اقتصادي لا يستهان به، كذلك تحدث لنا كوسا عن تلك العمالة الموجودة في المدن والتي يصر عليها التجار من خلال تعليم أطفالهم لمهنهم وتجارتهم منذ الصغر. وما لاحظناه خلال الأزمة هو زيادة هذه الظاهرة نتيجة زيادة الاستهلاك وزيادة الطلب على المنتجات وقلة اليد العاملة الشابة، في المقابل وجد كوسا أن عمالة الأطفال البعيدة عن القطاع الزراعي ومهن الآباء هي عمالة ذات آثار سلبية اجتماعياً ونفسياً وبالتالي اقتصادياً نتيجة خسارة طاقات بشرية كان من الأفضل تأطيرها بشكل فعال أكثر في ظل الأزمة، فعند خروج الأطفال للعمل بعد انتهائهم من مرحلة التعليم الابتدائي المجانية هنا ستكون التكلفة المادية التي وفرتها الدولة لتعليم هؤلاء الأطفال وعدم استفادتها لاحقاً من نتيجة هذا التحصيل العلمي تكلفة اقتصادية ضائعة، ناهيك عن أن القسم الأكبر من الأطفال الذين خرجوا بمظاهرات خلال الأزمة هم أطفال غير متعلمين خرجوا للعمل في أزقة وشوارع البلد بمردود مادي ضئيل سهّّل انحرافهم بالتالي ما تسبب بتقيحات اجتماعية واقتصادية انتهت بخسائر مادية فادحة للدولة.

مأساة لنا
أمثلة كثيرة استطعنا جمعها عن عمالة هؤلاء الأطفال الذين دفعتهم الأزمة لترك منازلهم ومدارسهم ووطنهم وخوض تجارب البحث عن مصدر رزق لهم، وربما حققت لهم ربحاً مادياً لكنها في النهاية حققت مأساة جسدية واجتماعية لهم ومأساة اجتماعية واقتصادية لبلدنا، لذا وجب على الجهات المختصة وضع ضوابط وقواعد وقوانين تحفظ كرامة الطفل، وتقلل من مخاطر عمله خاصة في سن مبكرة لما لهذا العمل من تأثير سلبي يؤدي إلى الإعاقة عند الأطفال خاصة في ظل ما نمر به من ظروف معيشية سيئة.

ميس بركات