غادة السمان

غادة السمان

نجم الأسبوع

الثلاثاء، ٧ يناير ٢٠١٤

(ألف ليلة وليلة) كتاب الشرق الخالد الذي لا يعدله في القيمة معنى ومبنى ومغنى سوى كتاب الغرب الخالد أيضاً (دونكيشوت) الذي جمع بين دفتيه، عدا الحكايات والأخبار والقصص والحادثات، جماليات الواقع والحلم، ومعاني الفروسية الصادقة، والنبل الطافح بالشوق إلى الحب السامي، والثبات على المبدأ أياً كانت الكواره والأذيات وعواصف الحياة الغالبة.

ومثلما كان كتاب (دونكيشوت) مدرسة للسرد، والقيم، والثنائيات، والتضاد، والخيال، والجمال، والأشواق، والأسفار، والمحلومات، والمرتجيات.. كان كتاب (ألف ليلة وليلة) صاحب الأسبقية في التاريخ والإبداع والقيمة، مدرسةً محتشدةً بكل أسرار الاجتماع، والتحالف، والتعالق الوجداني، والمعرفة، والأسفار، والخيال، والأشواق التي تجول بالنفوس مثلما تجول أصابعٌ عاشقةٌ في وجه معشوق تجلّى على صفحة ماء.
 
غادة السمان والتجلي
 
أدفع بهذا التقديم الطويل نسبياً، وأنا أهم بالحديث عن الأديبة المتجلية غادة السمان التي أعدها وريثة شهرزاد إبداعاً، واجتماعاً، وفكراً، وإحاطة، ومخيلة، وجمالاً، والتي غدت ـ منذ خطواتها الأدبية الأولى ـ ظاهرة كتابية بسبب موهبتها الثقيلة، وثقافتها الواسعة، وإبداعها الرائق، واشتقاقاتها البكر، ومضايفاتها الغنيات، ومساهراتها الطوال، وطموحها الذي لا يحد، ودقتها المحيرة، وإخلاصها الجم، واختياراتها النابهة،.. لا بل غدت غادة السمان، ونحن على أكتاف تجربتها الأدبية الممتدة من الثلث الأول لعقد الستينيات في القرن الماضي وحتى هذه الساعة، واحدة من أهم العلامات الظواهر في تاريخ الأدب العربي قديمه وحديثه في آن.
وحين ألتفت إلى الوراء زمنياً لأرى أديبة عربية لها مثل هذه التجربة الأدبية التي أنجزتها غادة السمان لا أجد اسماً واحداً بادياً في العصر الأموي ولا في العصر العباسي، ولا في العصور المترادفات تترى، لا بل لا يجد المرء كاتبةً عربيةً لها قيمتها ومكانتها، أعني قيمة غادة السمان ومكانتها، في كل المحيط العربي، وفي السنوات الخمسين الأولى التي تنصف القرن العشرين، وهو قرن الثقافات، والإبداع، والصحافة، والأحزاب، والاستقلال، والترجمة، ووزارات الثقافة العربية، والطباعة، والنقد الأدبي، والجامعات، كان من الممكن لـ غادة السمان أن تتقفاها في دربها وتجربتها، شأنها في ذلك شأن كوليت خوري النجمة المشعة على الدوام، وألفة الإدلبي الكبيرة منذ إطلالتها الأولى، وقمر كيلاني الباهرة، وسلمى حفار الكزبري صاحبة التقاليد الأدبية الرصينة، فهولاء الكاتبات المعدودات على أصابع الكف الواحدة لم يكن لهن من أمهاتٍ حقيقيات في الكتابة الأدبية، ولهذا حفرن دروبهن على مهل وريث شديدين، ولم يكن لهن جميعاً من معين أو سند سوى أمرين اثنين: الثقافة والتحصيل الجامعي أولاً، والثاني هو التقاليد الأُسرية العريقة التي جعلت من الكتاب إماماً. وهنا أستثني الأديبة ألفة الإدلبي التي لم تكمل دراستها بسبب زواجها المبكر. وهؤلاء الكاتبات كن في صلب الحياة الدمشقية الفكرية، والثقافية، والاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، وقد كن محطَّ الأنظار ليس بسبب إبداعهن فحسب، وإنما بسبب جمالهن البهَّار أيضاً.
 
غادة والشام
أعود إلى غادة السمان، فأقول، إنها شامية المولد والحياة والهوى، سليلة بيت ثقافي واجتماعي وسياسي عريق. فأبوها أحمد باشا السمان رجل القانون المعروف الذي حاز شهادات الجامعة السورية جميعاً، ثم حاز شهادة الدكتوراة من فرنسا في علوم القانون الجنائية، وقد كانت بكره، وليس له عداها سوى ابن ذكر يصغرها بأعوام، وقد درست الآداب الإنكليزية في الجامعة، وكانت من أنبه الطلبة وأبداهم رتبةً، لذلك أُوفدت إلى بريطانيا لاستكمال دراستها للآداب الإنكليزية، وحازت شهادة الماجستير، ولم تمكث طويلاً في بريطانيا فعادت إلى دمشق لتدرس في الجامعة طلبةً يماثلونها في العمر تقريباً. وشرعت في الكتابة للصحف والمجلات السورية، وبدا اسمها يلمع ويظهر وينوف على غيره من الأسماء، فكانت في موضع المدح والمحمدة، وهذا ما كان يسر والدها أحمد باشا السمان الذي غدا رئيساً للجامعة السورية. وقد بدأت بنشر قصصها الأولى التي صارت أخباراً طالعة في الوسط الأدبي، فدارت حولها الأسئلة، وراح الأدباء يتابعونها كلما نشرت نصاً من نصوصها، كما راحوا يستقطبونها من أجل المشاركة في الأمسيات الأدبية داخل مدينة دمشق وخارجها كيما يتحسس الواحد منهم حقيقة موهبتها الأدبية كتابةً وقراءة، وقد كانت غادة السمان جديرة بالامتحانات والاختبارات التي أعدت لها من دون أن تدري، وقد تخطتها بنجاح مذهل، لذلك أرادت الحلقات الأدبية الدمشقية أن تحوز عليها كـ اسم وقيمة، وجل تلك الحلقات الأدبية كانت مسيّسة، أي تتبع تيارات سياسية تمشي في ظلها أو تكتب وفق إيقاعها، وأولى تلك الحلقات التي أرادت الاستحواذ عليها كانت حلقة الأدباء التقدميين الذين يؤمنون بالفكر الاشتراكي الذين سموا بالكتّاب الحمر، وقد سعوا إلى استقطابها، لكن الخلاف ما لبث أن دبَّ بينهم فاختلفت الآراء حولها لا بسبب إبداعها وثقافتها وتوجهاتها التقدمية (كدت أقول الانتحارية) وإنما بسبب منبتها الطبقي، فقد عدّها بعضهم كاتبة أرستقراطية، ومن المعيب للفكر التقدمي، فكر الطبقات الفقيرة، أن يهادن أهل الطبقات الأرستقراطية الذين عاشوا على حساب الفقراء والكادحين، لكن آراء أخرى قالت، وما الضير لو كسبنا أحسن ما في هذه الطبقات الأرستقراطية لمصلحة الطبقات الفقيرة؟ طبعاً مثل هذه الآراء كانت تدور بعيداً عن أسماع غادة السمان، وقد كان الشأن ذاته قائماً وعاصفاً في حياة الأديبة كوليت خوري أيضاً التي عدتها حلقات الأدب التقدمي كاتبةً أرستقراطية من الواجب مقاطعتها ومعاداتها والحمل على أدبها، مثلما عدّتها طبقتها الأرستقراطية متمردة على تقاليد أسرتها وأنها تمشي في درب التقدميين الذين لا تخلو خطواتهم وأفكارهم من رعونة ومراهقة فكرية وسياسية. لا بل أقول أكثر من هذا أن بعض هؤلاء الكتاب، وقد عُدوا اليوم أصحاب تجارب كبيرة حاولوا أن يكتبوا نصوصاً أدبية (شعراً وقصة قصيرة) وأن يوقعوها باسم غادة السمان شريطة أن توافق هي عليها، لكنها رفضت بحزم ونفور وأرادت أن تشهّر بهم جميعاً لولا أن تدخل آخرون فحالوا دون ذلك، وهذا بالضبط ما أوجد قطيعةً بينها وبينهم امتدت سنوات طوالاً، ولعلها مازالت قائمة حتى هذه الساعة. وكذلك حاولت بعض المؤسسات الإعلامية الرسمية الاستحواذ على غادة السمان لتصير موظفة لديها لكنها رفضت، كما حاولت بعض الصحف والمجلات الخاصة أن تستحوذ عليها أيضاً لقاء مرتبات شهرية لكنها رفضت أيضاً؛ وقد بدا لي أن الآخرين كتَّاباً ومؤسسات وجهات إعلامية لم تع بأن روح غادة السمان هي روح طائر حر من الصعب جداً أن يدخل قفصاً برجليه، حتى ولو كان قفصاً ذهبياً (كدت أقول حتى لو كان قفصاً ملكياً)! كما لم يع الجميع تقريباً أن غادة السمان كاتبة من طينة خزفية أخرى غير معروفة أو مسبوقة، كاتبة تعتز بتفردها وحضورها وثقافتها وخصوصية الدرب الذي افترعته لنفسها؛ أقول هذا لأن غادة السمان، وعلى الصعيد الاجتماعي، لم توافق على زواجها المبكر الذي لم يكتب له النجاح إلا من أجل أن تهدأ نفس أبيها الذي أراد أن يراها عروساً لها بيت وأولاد وزوج يظلها اجتماعياً، إن غادة السمان النفور من تقاليد الكتابة القصصية والروائية المعروفة، والدروب التي شقها الكتّاب الذين عرفتهم أو الذين تعرفت إليهم، كانت بالضرورة نفوراً من التقاليد الاجتماعية، لا بل كانت نفوراً من الأمكنة وما تبديه من عواطف قد تحيل منتجات العقل والطموح إلى سذاجات ليس إلا، كما كانت نفوراً من الأماديح المجانية، والثقافات السطحية، والترويج الإعلامي المضحك لبعض الصحف والمجلات التي اهتمت بصورها على حساب كتابتها مخافة أن يقرأ الناس صورتها ويتفرجون على كتابتها! لذلك طارت غادة السمان إلى بيروت لتعيش عالم الكتابة والإبداع والنشر بعيداً عن كل المعوّقات الوظيفية، والعاطفية، والمكانية، والقولات الساذجة.. ولأن الصحافة أقرب الشواغل للأدب مناوشةً ومناورةً وتحريضاً فقد عملت في مجلة (الحوادث) جنباً إلى جنب مع أدباء ومثقفين وصحفيين من طينة غسان كنفاني النادرة، وفي بيروت وعبر قصصها وكتاباتها الصحفية المدهشة، وتحقيقاتها المثيرة للقلقين الوجداني والاجتماعي لفتت غادة السمان الانتباه إليها فغدت الصباحات، والمقاهي، ونوادي الأدباء، ودوائر الوظيفة، والمكاتب الصحفية والإعلامية، ووكالات الأنباء، كلها بانتظار ما ستقوله غادة السمان، وما جاءت به من جديد، بعدما تقحمت أمكنة كانت لها سطوتها وأسرارها، فكشفت من خلال كتابتها وحواراتها مع الناس الذين يعملون فيها أو الذين يرتادونها، عن البؤس الاجتماعي الحارق، وعن الأخلاقيات المتهافتة، والنفوس الضعيفة، وسطوة (أخلاق المال) على جميع الأخلاقيات الأخرى، وتسيّد حالات السفاهة على أدبيات النبل عامةً. لقد رمت غادة السمان نفسها أدبياً في أحد أفران الثقافة العربية الأكثر شدة وصرامة، أعني بيروت، لكي تصير نصوصها رُقماً باديات نقشاً على يد الزمان، وقد كان في ذلك من التحدي ما فيه، ومن المواجهة ما فيه، ومن الأسئلة الكاويات ما فيه أيضاً، لأن بيروت كانت غابة ثقافية فنية محتشدة بالأسماء الشعرية والفنية والقصصية والسينمائية والمسرحية والصحفية، ولعل ذكر بعض هذه الأسماء يشير إلى أهميتها: مثل: سعيد عقل، وتوفيق يوسف عواد، وغسان كنفاني، وجبرا إبراهيم جبرا، ويوسف الخال، ونزار قباني، وبدر شاكر السياب، والطيب صالح، وكمال ناصر، وميشيل طراد، وعبد الوهاب البياتي، ومعين بسيسو، وغسان تويني، وسليم اللوزي، وسعيد فريحة، وشفيق الحوت، وأنيس صايغ، وفيروز، والرحابنة، وصباح، ونصري شمس الدين، ومحمد الماغوط،.. إلخ مثلما كانت محتشدة بدور النشر، والصحف والمجلات، ودور السينما والمسارح، والمقاهي الموسومة بالثقافة اجتماعاً وحواراتٍ وأسئلةًَ. بلى، كان من الممكن لـ غادة السمان، وهي في عتبات العشرين من عمرها أن ترضى برتبتها العلمية كأستاذة جامعية تدرّس الآداب الإنكليزية لو لم تكن بين جنباتها أشواق نفس لا ترضى إلا بالنجوم العوالي، لقد أحسَّ كل من هم حولها آنذاك، وفي مقدمتهم أبوها (رئيس الجامعة السورية) أن التدريس في الجامعة قصبٌ لا يطرب ذاتها المبدعة كما تشاء وتطمح، ذلك لأنها أرادت قصباً يعزف لإبداعها ليس محلياً فقط، وإنما خارج الحدود أيضاً. والحق أنني من مؤيدي الرأي الذي قاله عارفو غادة السمان إن لها طموحاً راعباً، لأنه ما كان يدير رأسها نصٌ أدبيٌّ مهمٌ أنجزته، ولا صدور كتاب جديد لها، ولا كتابة نقدية لافتة تدور حول أدبها، ولا مشاركة في تجمع أدبي حافل تكون هي نجمته الملكية!
 
الموقع بين الأدباء العرب
بهذا الحضور، وبهذه النظرة إلى المستقبل والموقع غدت غادة السمان اسماً أدبياً وثقافياً وصحفياً مهاباً من دور النشر والصحف والمجلات، والنقاد، ووسائل الإعلام، والمبدعين العرب الذين كانوا يتوافدون على بيروت في مواسمها الثقافية، ووفق مواسمهم الثقافية كطباعة كتاب أو المشاركة في مؤتمر أو ملتقى أو الترويج إعلامياً لتجاربهم الأدبية عن طريق توقيع كتاب أو حوار في صالون أدبي.. الخ ولكل هذا صارت غادة السمان جهةً للجذب من الصحف والمجلات، ودور النشر، ووسائل الإعلام، والنقاد، والأندية والصالونات الأدبية، فكان لها أن اختارت دار الطليعة نافذة لنشر مؤلفاتها، ومجلة الحوادث براحاً ثقافياً لتكتب فيه، وكان لها أن اختارت نصفها الحلو أيضاً، وبذلك سيّجت غادة السمان نفسها وأدبها ومقالاتها بما أردته هي لا بما أردته جهات الجذب التي حاولت اختطافها من حبها الأول والأخير: الكتابة وهي عنفوانها الإبداعي الأشد. ولم تكن من عين حارسة لها سوى عين الموهبة، وسؤال الأب الدائم: هل أنتِ بخير؟!.
 
وفي الرواية التفوق
هذا جانب، وهو شاسع ومديد، أما الجانب الآخر الذي لا يقل عنه سعة وامتداداً، فهو المتمثل بكتابات غادة السمان التي كانت ومنذ كتابها القصصي الأول (عيناك قدري) وحتى آخرٍ زاويةٍ تكتبها في أيامنا الراهنة ساحة احتشاد لقراء يتضايفون عدداً ونوعاً مرة بعد مرة، ومثلما كانت غادة السمان صورة يتمنى أهل التعبير أن يبدو الواحد منهم فيها أو حتى في محيطها، كانت كتابات غادة السمان معنى تمنت بنات جنسها لو كانت الواحدة منهن حائزة له أو عليه. أما شهرتها فقد تمناها كل من امتلك عينين نافذتين، وروحاً علوقاً بالساميات العواصي.
غادة السمان ككاتبة لم تبقَ أسيرة الأنفاس الأنثوية والتشوفات المتطلعة إلى الرجل بوصفه حلماً أو سجّاناً، مثلما هي نظرة معظم الكاتبات العربيات في نصوصهن التي لا همّ لها سوى القول بأحد أمرين: إما الاستحواذ على الرجل والسيطرة عليه بوصفه وريثاً لمدونة الظلم التي كتبتها سلالة الذكورية المريضة، وإما المشي خلف الرجل تسليماً بدوره القيادي لكل شيء في هذه الحياة، بقولة أخرى: إما استعداء الرجل ومطاردته باللعنات، وإما الاستغراق فيه إلى حد الذوبان. كتابات غادة السمان مضت إلى ما أسميه (تخطي عقبة الرجل) والتعامل معه بوصفه فرداً وليس بوصفه رجلاً لكي يتعامل مع المرأة بوصفها فرداً لا بوصفها أنثى، وذلك من أجل مواقفةِ ما هو أهم وأجلّ وأدل من القضايا التي عصفت بالمجتمع العربي فهزّت أهله رجّاً (ذكوراً وإناثاً معاً). لذلك ما من ارتجافة اجتماعية عربية إلا وكان لها ترجيعاتها في مؤلفات غادة السمان كـ نكسة عام 1967، والحرب الأهلية اللبنانية في مستهل السبعينيات، ناهيك عن حضور أحوال المجتمع الدمشقي بثوابته (عادات وتقاليد) وتطوراته (محواً وإضافة)، وتحولات القيم (هبوطاً وصعوداً)، وانعطافات النفس (انعتاقاً أو التواءً)، وتعدد المرجعيات ما بين (الواقعي، والخيالي، والعجائبي)، وجدولة الثنائيات لبيان (تضادها)، وتعددية الأمكنة وجولانها ثم إيابها إلى حضانة المكان الأول، وسطوة الذاكرة التي تترك وراءها، كلما هبت وهاجت، ندوباً تلوح كباقي الوشم في ظاهرة اليد.
في بيروت كانت غادة السمان ثاني اثنين من حيث الحضور والمكانة في الوسط الثقافي المحتشد بأهل المواهب، وبالمؤلفات الثمينة التي تبحث عنها الأسئلة النابهة؛ كانت مثل نزار قباني الذي تفرّد من خلال دار النشر التي أسسها كيما ينشر مؤلفاته، فتفرّدت هي أيضاً بدار الطليعة التي امتلكها زوجها فغدت الدار تطبع مؤلفاتها طباعات متعددة متلاحقة كلما نفدت من الأسواق، لذلك انتشرت كتبها وطارت إلى جميع البقاع العربية، وغير العربية، شأنها في ذلك شأن كتب نزار قباني، فصارت تباع في المحلات المخصصة للأوراق المالية، والأقمشة، والثياب، ومؤسسات التجميل والأزياء، كما صارت تباع في الطائرات والقطارات العابرة للحدود والمدن في آن. وبذلك غدت غادة السمان واحدة من أهم الكاتبات العربيات اللواتي يمثلن الإبداع النسوي في النقد الأدبي، والجامعات العربية، كما أنها صارت مع نفر قليل من الأديبات العربية جهة مقصودة للترجمة إلى اللغات الأجنبية، فنقلت نصوصها إلى الكثير من اللغات العالمية، وفي ظني لم تخل (انطولوجيا) عربية للقصة القصيرة للكتّاب العرب (ومن الجنسين، الذكور والإناث) منقولة إلى لغة أجنبية إلا وكانت نصوص غادة السمان حاضرة بين تضاعيفها. ومثلما ترادفت أعمالها الأدبية صدوراً حاملة لنصوص الشعر، والقصة القصيرة، والرواية، ترادفت الأعمال النقدية المطبوعة في كتب والتي لا هدف لها سوى الحديث عن نصوص غادة السمان وبيان ما فيها من اشتقاقات وجماليات ومواجهة للظواهر الاجتماعية التي حاولت النيل من المرأة أو الحد من حضورها، أو احتباسها في أقفاص اجتماعية (الولادة، والتربية، والعاطفة، والجمال،..) أو تخويفها من (الاختلاط، والتعبير، والعمل، والمبادرة، والاستقلالية، والحرية،..) أو إلصاق اتهامات بها مثل (الخيانة، والعار، والغواية، وقلة العقل، والمكر، والكيد، والضعف،..)!
والحق أن من يعرف أهمية التجربة الأدبية لـ غادة السمان سيظن لاشك أن جماعات أو كائنات خفية تكتب معها، وأخرى تطبع لها وتنشر وتوزع، وثالثة تنقد، ورابعة تترجم، وخامسة تحرسها من الإبر الشكاكة، لكن الظن يظلُّ ظناً، فما من أحد يكتب نصوصها سوى موهبتها النادرة، وما من حراسة لنصوصها سوى حراستها هي (ذائقتها وثقافتها وطموحها) المشددة كي لا تطير من بين أيديها كتابات لها أنصاف قلوب وأنصاف أرواح، ومن بعد ليس من رفيق لكتاباتها معها سوى مساهراتها الطوال لأدب تريد له أن يبقى بنفسه كالملح، وينجو من الغرق بنفسه كالماء، ويخلد إلى أسراره كالتراب، ويجول مندّى كالهواء، ويبدو متجلياً بنفسه كالضوء!