حكمت محسن

حكمت محسن

نجم الأسبوع

الثلاثاء، ٢٠ نوفمبر ٢٠١٨

بمناسبة مرور خمسين عاماً على وفاة عميد الأدب الشعبي حكمت محسن الذي توفي يوم الثلاثاء 19 / 11 / 1968.
موهبة فطرية بحتة ظهرت في مجتمع عنيد يعادي الفن وأهله، وتنكر لها من حولها، لكنها شقت طريقها بإرادة وتصميم وعناء شديد ضمن فقر مدقع وظروف قاسية، فبدت وظهرت ونمت والتفت الناس إليها حتى غاصوا في تفاصيلها وطربوا لها أيما طرب.
انتعشت هذه الموهبة لما غابت عنها عداوة الفن، لكنها عادت فواجهت ما يسمى بـ(عداوة الكار) حوربت، وتنكر لها من حولها فحزنتْ؛ وخبتْ شعلتها حتى مات صاحبها حسرةً وكمداً… فغاب وغاب فنه الأصيل ونسيه من كانوا يحتفون به، وبقي عزاؤه الوحيد أن جمهوره العريض قد نسيه لكن ( الغرباء) مازالوا يحتفظون بتراثه الأصيل ويترنمون به.
إنه الفنان الكبير حكمت محسن ذاك الذي ملأ الدنيا وشغل الناس لأكثر من ثلاثين عاماً في ثلاثينيات وأربعينيات وخمسينيات القرن العشرين.
ولد عام 1910 وقد كان من أسرة فقيرة، وتوفي أبوه وهو صغير؛ وبسبب الفقر الشديد والجوع والحرمان لم يتمكن حكمت محسن الذي سكن مع أمّه في عدّة غرف بالأجرة في سوق ساروجة والمهاجرين وقبر عاتكة والقنوات وباب سريجة من متابعة دراسته فترك الدراسة وهو في العاشرة من عمره… وأعياه أن يتعلم مهنة مناسبة فعمل أجيراً عند البقّال والخضري والكوى والحلاّق والحدّاد والنّجار والخيّاط فاختلط مع أنماط الناس كافة، ثم استقر على مهنة التّنجيد، وقد أسس أول نقابة للمنجدين في سورية.
لكنه لم ينثنِ عزمه بهذا التشرد الكبير ولم تقضّ مضجعه تلك الفاقة الكبرى… بل على العكس كان هذا دافعاً له للبزوغ والنجاح؛ فكان يستمتع يومياً بقراءة الكتب على ضوء الشّمعة.
لم تتمكن مهنة التنجيد من أن تحدّ من موهبته الفكاهية فما إن سمع أن فرقة أمين عبد الله قادمة من مصر حتى وجد نفسه يحضُر لها عرضاً مسرحياً، وذهب ليقابل صاحبها أملاً بالانضمام إلى فرقته المسرحيّة، كمتطوّع من دون أجر، فوافق الفنّان على طلبه… وكان لما يتجاوز الرابعة عشر من العمر.
ثم شكَّل حكمت محسن مع لفيف من أصدقائه فرقة تمثيلية، وبدأت بتقديم التمثيليات في بعـض البيوت الدمشـقية الكبيــرة واستقطبت هذه الفرقة جمهوراً كبيراً، لكنها كانت تواجه المشاكل حين يدخل بعض المشاكسين إلى البيت ويفتعلون شجاراً يؤدي إلى تكسير محتويات المنزل ثم انتقل مع فرقته ليقدم عروضه على المسارح… لكن الفرق المنافسة التي تشكلت وقتئذ لم تترك له المجال فكان أعضاؤها يكيلون له الدسائس… فانتقل للعمل في الإذاعة.
وفي أثناء ذلك كله لم ينقطع حكمت محسن عن معلمته الأولى أمّه خيريّة، تلك المحدّثة البارعة التي كانت تصحبه إلى زيارات النساء واستقبالاتهن، وتصحبه أيضاً للاستماع إلى الحكواتي في مقهى مصلبة العمارة بدمشق، وكانت دائماً تسمع ما يقال أمامها طوال النهار ثم تحاول مساء أن تصوغ لابنها ما سمعت، فغدت هي معلمته الأولى والحكواتي معلمه الثاني… ما أكسب قريحته وموهبته بعداً واسعاً جداً.
في الإذاعة ظهرت قدرته الهائلة على التّعامل مع النّاس وتسليتهم وإسعادهم وتقديم المتعة والفائدة، على الرغم من أثقال المسؤوليّة الإنسانيّة الملقاة على عاتقه، فكان رائد المونولوجات والمسرح، وقدم عدة تمثيليات من تأليفه مثل: نهاية سكير – يا مستعجل وقف لقلك- الكرسي المخلوع – مرايا الشام – العصابة – مذكرات حرامي – يا آخذ القرد على ماله – معليش البرغي باظ – معليش تهوي السيارة – أبو رشدي مابيسكت على عوجا… على أن أشهر عمل قدمه هو (صندوق الدنيا) الذي لقي إقبالاً واسعاً بعدما سجل لإذاعة الـ (بي بي سي) البريطانية في قبرص ثلاثين حلقة منه.
ازدادت شهرة حكمت محسن فقدم العديد من المسرحيات في إذاعة دمشق وبلغ عدد الحلقات التي شارك فيها أكثر من 800 حلقة، أُعيد في العام 1968 إنتاج مسرحيته (صابر أفندي) التي عرضت في عام 1959 من قبل المسرح القومي بدمشق بتوقيع الفنان عبد اللطيف فتحي عليها للمرة الثانية.
ولا يفوتني أن أشير إلى أن هذه التمثيليات لم تكن للإضحاك فقط بل قدم حكمت محسن من خلالها تاريخاً للعلاقات الاجتماعية القائمة بين أفراد الشعب آنذاك؛ وعرض السلوكيات الناجمة عن تفاعل الناس مع بعضها، فربط التراث المحلي بالتراث الشعبي العام.
ثم انتقل للعمل في التلفزيون…
وقد حاول حكمت محسن أن يؤسس لمشروع مسرح شعبي لكن النخبة المثقفة آنذاك كانت لا تريد إلا مسرحاً كلاسيكياً فتمت إعاقة مشروع المسرح الشعبي، إلى أن صدر قرار دمج المسرحين معاً عام 1969.
يعتبر حكمت محسن مؤسس الدراما الشعبية في الإذاعة وفي المسرح وفي التلفزيون، كما أنه ابتكر بعض الشخصيات العظيمة الشهيرة التي لازمت المجتمع السوري لعقود طويلة وأثَّرت في الدراما لفترات طويلة بشكل كبير جداً؛ مثل (أبو رشدي، أبو فهمي، أبو صياح، أم كامل، وغيرهم)، كما ساهم في تأسيس المسرح الشعبي عام 1959 قبل أن يندمج مع المسرح القومي بعد عشر سنوات من تأسيسه.
ولقد أثبت أبو رشدي حكمت محسن أنه سيد في التأليف وسيد في التمثيل.
ولكن: لقد ظُلم حكمت محسن (أبو رشدي) أيما ظلم حين قيل له في أواخر الخمسينيات إن تراثه (القديم) لم يعد يصلح للمجتمع آنذاك… لم يعد تراث حكمت محسن يصلح للمجتمع… وماذا كان يكتب حكمت محسن وما هو تراثه… لقد كان يكتب عن أزمة السكن وعن الأخطاء المهنية وعن الفنانين المغمورين وعن الزواج المادي، فهل زالت هذه الأخطاء من مجتمعاتنا اليوم حتى يقال له إن تراثه لم يعد صالحاً منذ القرن الماضي.
ولا نفشي سراً إذ نقول إن حكمت محسن حين تم تعيينه في التلفزيون عام 1964 قد أمضى خدمته الوظيفية هناك دون أن يكون له مكان محدد في المبنى؛ إذ لا غرفة تضمه ولا مكتب يجمع فيه أوراقه، بل كان يقضي نهاره متجولاً بين ردهات المبنى حتى يحين موعد الانصراف.
وفي النهاية اختلف حكمت محسن مع إدارة الإذاعة آنذاك التي لم تقدر تلك الموهبة الكبيرة حق قدرها، فوجّهت إليه عقوبة خصم 10% من راتبه بسبب تأخّره خمس دقائق عن الدوام الرسمي، وحين علم ذلك الرجل المبدع الضائع حكمت محسن بهذه العقوبة ذهب إلى رئيس الدائرة واستلم كتاب العقوبة، وحين قرأ الكتاب لم يقل شيئاً، ولكنه نظر ملياً إلى رئيس الدائرة ثم التفت خارجاً من المكتب، ومن يومها صمت ولم يعد للكتابة.
كان حكمت محسن قد استأجر داراً في المهاجرين في طلعة الشمسية عام 1965 وسكنها مع ولديه؛ وفي مساء يوم الثلاثاء 19/11/1968 أمضى محسن السهرة مع ولديه بكامل مرحه وفرحه واستمر يداعبهم ويمازحهم حتى الساعة الواحدة بعد منتصف الليل… ثم دخل لينام فسمعوا صوت همهمته وأشار إلى فمه أنه لا يستطيع الكلام فأومأ إلى أولاده أن يقتربوا منه فاحتضنهم…
جاءت سيارة الإسعاف ونقلته إلى المشفى حيث توفي هناك بانفجار في الشرايين دون أن ينطق بكلمة واحدة.
ولما علم الناس بالخبر تقاطرت جموع المواطنين على الحي بشكل لم يسبق له مثيل، وتعطل السير وتم تشييعه بموكب رسمي وشعبي.
لقد حُفظ تراث حكمت محسن في أرشيف خاص للدراسات الشرقية في باريس… بل لقد قدم أحد الشبان الأجانب رسالة دكتوراة عن حكمت محسن… في حين ما زال هناك من يثير الشكوك حول حكمت محسن… وما زال هناك من ينظر إليه وكأنه شخص فائض عن حاجة المجتمع…
رحمك الله يا أبو رشدي.
أرجو أن نسعى إلى تشجيع المواهب الحقيقية، وأن نعمل على تكريم المبدعين في حياتهم… إذ لا تنفعهم الميداليات والأوسمة والنياشين التي تعلق بأسمائهم على أبواب الأبنية، ولا يفيدهم أن نطلق أسماءهم على بعض المنشآت.