غيفارا

غيفارا

نجم الأسبوع

الجمعة، ٣ نوفمبر ٢٠١٧

خمسون عاماً على رحيل غيفارا.. القوة الغامضة للبطل الأسطورة

“أولئك الذين أبعدوا تشي، وعملوا على إخفائه، لن يفهموا أن أثره في التاريخ لا يمكن أن يمحى. نظرته كواحد من الأنبياء غدت رمزاً لمليارات الفقراء في هذا العالم. معاً سنواصل النضال من أجل عالم أفضل”.

فيدل كاسترو

لم يدم المعبودون سوى لجيل واحد فقط، لكن ليس تشي غيفارا؛ فبعد خمسين عاماً على موته يستمر في أن يكون مصدر إلهام للملايين في العالم، وحتى الرؤساء. حقق مع رفيقه فيدل كاسترو انتصاراً كبيراً في كوبا في نهاية الخمسينيات، لكنه لم يتحمس لمنصب وزاري في حكومة الثورة الكوبية، وقرر مواصلة الكفاح المسلح في بقية دول القارة. فما هي أهم النقاط المميزة لدى هذه الأيقونة المقاومة ضد الظلم؟

 

أسطورة خطيرة

لم تمتد حقبة معبودي الجماهير طويلاً، على شاكلة جون لينون، وماو تسي تونغ، ومالكولم إكس، ومانديلا، أو جيمس ديان.. لم يستمروا لأكثر من جيل واحد فقط. ولكن ليس هذا هو حال آرنستو غيفارا، فبعد خمسين عاماً على اغتياله ها هو حاضر في اللاوعي الجمعي كمصدر للإلهام في سبيل مقاومة الظلم وتضامن الشعوب، وغدا أحد الرموز الأخلاقية الأكثر بريقاً في التاريخ المعاصر، وبات يجسد ما يسعنا تعريفه بـ “الحركة الإنسانية الثورية”. وجدنا أيقونته مصورة على لوحات الإعلانات والأعلام، والقمصان، والوشوم. وغدت اليوم هذه الصورة بـ “نظرتها الثاقبة والجدية” أكثر الصور إنتاجاً في العالم. نراها في المظاهرات النقابية عندنا، ونراها في المؤسسات الحكومية التابعة للأراضي الفلسطينية والدوائر الكردية، وكذلك في الأحياء الشعبية في أفريقيا، أو في مناطق الأدغال البعيدة في الهند، ووضعته مجلة (التايم) على لائحة المئة شخصية الأكثر تأثيراً في القرن العشرين. وما يثير الدهشة هو تغلب تشي على الانهيار الإيديولوجي الذي أعقب سقوط جدار برلين. وفيما انطفأت تقريباً كل النجوم في سماء الماركسية، بقيت نجوم السماء الشيوعية النقية التي كان عليها غيفارا تسطع، واستمر هذا الطبيب الأرجنتيني في إلهام شخصيات دولة، مثل رافاييل كوريرا وهوغو تشافيز ونيكولاس مادورو وفيرناندو لوغو ودانييل اورتيغا والكسيس تسيبراز. “سوف نواصل وننهي معركة تشي غيفارا” كما قال ايفو موراليس عند وصوله إلى سدة الرئاسة في بوليفيا، عام 2006.

اعتقد النظام الأمريكي أن الجهد المدمر لصورة، كصورة تشي، اكتمل، آخذاً بعين الاعتبار سعي المجموعات والشعوب المضطهدة في كل أنحاء العالم لأخذ القوة والإلهام من روح الأبطال الموتى؛ وهذا ما دفعه للقيام بكل شيء بغية تحطيم الأسطورة، وتلطيخ الصورة لدرجة غريبة ومضحكة أحياناً. وبحسب أحد هذه الأماكن المشتركة والشهيرة، فقد كان تشي وفيدل على خلاف، إذ فقدت الأرجنتين حظوتها في الجزيرة، وتم إرسال غيفارا إلى الكونغو، ومن ثم تمت ملاحقته في بوليفيا حتى مقتله. كل الجهود الأمريكية الرامية لدعم هذه الادعاءات باءت بالفشل، وهذا ما يفسر كيف بقيت زوجته وأولاده في الجزيرة؛ وليس هذا فحسب، بل بقوا أكبر المدافعين عن الثورة الكوبية. آخر محاولة لتشويه صورة تشي كانت اتهامه بجرائم قتل جماعية، وهذا أيضاً اختلاق محض تم نشره وتداوله دون توفر أي دليل أو برهان ملموس. وعقب انتصار الثورة الكوبية، عام 1959، أقيمت محكمة شعبية في كوبا، حيث تمت محاكمة مجرمي الحرب ومجرمي الديكتاتورية وفق قواعد محكمة نورمبرغ. في عهد الديكتاتورية، سقط 20 ألف ضحية، وعدد كبير جداً من الأشخاص تعرضوا للتعذيب، أو سقطوا جرحى، وقد ترأس غيفارا لجنة الطعن في تلك المحكمة. وعليه، فإن اتهام تشي بجرائم القتل الجماعي كان يجب أن يخضع لأحكام نورمبرغ، أو لأحكام بلجيكا بعد الحرب؛ وخلصت جلسات المحكمة الكوبية، والتي كانت تعقد على الملأ، بإصدار الأحكام وتنفيذها بحق مئتي شخص. في بلجيكا بلغ عددهم 242، وفي فرنسا مائة ألف بينهم تسعة آلاف بدون أي شكل من أشكال الدعاوى.

خلافاً لما كان سائداً في بلادنا عقب الحرب العالمية الثانية – الفترة التي سميت بـ “التطهير”، عام 1959 – لم يكن في كوبا أحكام إعدام، ولا اغتيالات بدون محاكمة، ولم تكن هناك تصفية حسابات، ولا انتهاكات بحق المتعاونين المزعومين. ولعل أحد الأسباب التي جعلت المجموعة المتمردة، بزعامة فيدل كاسترو، تنتصر على الجيش الكوبي، الأقوى منها بكثير، هو حسن معاملتها للجنود السجناء، والنتيجة كانت انضمام معظم جنود الجيش الكوبي إلى صفوف جيش التمرد عند انتهاء الثورة الشعبية.

 

من الطب إلى الثورة

ولد أرنستو غيفارا دو لاسيرنا في 14 حزيران 1928. نما وترعرع في كنف أسرة ذات جذور ارستقراطية لكن لها ميول لليسار. بدأ دراسة الطب كاشفاً عن شهية فكرية كبيرة. في فترة مراهقته، التهم كتب التاريخ والعلوم الاجتماعية، وتعمق في كلاسيكيات الماركسية. كان تواقاً لاكتشاف العالم، فقام بأول رحلة له في الحادية والعشرين من عمره حملته إلى الأقاليم الشمالية للأرجنتين. عمل أثناء سنوات دراسته ممرضاً على السفن التجارية والنفطية التابعة لشركة تسليح الدولة، “شركة التسليح الوطنية”، ومن ثم اتجه من جنوب الأرجنتين نحو البرازيل وفنزويلا وترينيداد. في الـ 23، قام بجولة عبر أمريكا اللاتينية برفقة صديقه البيرتو غرانادو على متن سيارة قديمة نوع نوترون500 سي سي، حيث شاهد البؤس والفقر المدقع خلال جولته هذه. كتب في مفكرته الخاصة بالرحلة: “تحدثنا مع العديد من المتسولين، وكنا نشم رائحة البؤس والمأساة بقوة”. وبعدما التقى امرأة مريضة طردت من عملها، كتب يقول: “في حالات مشابهة، يريد الطبيب ترسيخ التغيير جراء وعيه للعجز التام إزاء المحيط. هنا يتعلم المرء التعرف على مأساة العمال في كل أصقاع العالم.. إلى متى ستستمر حالة هذه الأشياء القائمة على شعور التفاوت الطبقي السخيف؟”.

لقد لامسه البؤس بعمق، وبعد نقاش حول الفقر المدقع في المنطقة، استعار في دفتر ملاحظاته كلمات الشاعر الكوبي، والمقاتل من أجل التحرير، خوسيه مارتي: “أريد ربط مصيري بمصير فقراء العالم”. لكنه سرعان ما أدرك أنه من أجل تحسين مصير الفقراء، لا بد من محاربة القوة الطاغية التي تسيطر على القارة: “إنها لمهمة جسيمة، في هذا الوقت تحديداً، رؤية الكم الكبير من الدولارات التي يتم سكبها للاستثمار هنا، والسهولة التي تمكنها من ممارسة ضغوط اقتصادية عندما تشعر وتتلمس الخطر يهدد مصالحها”.

أنهى دراسته الجامعية في عمر الـ 24، وقد اتخذ قراره. قرر أن يكون رجلاً ثورياً، وانطلق إلى الشمال باتجاه غواتيمالا التي كانت خاضعة لحكومة تقدمية. عبر في طريقه بنما، حيث غضب من موقف الحكومة الخاضع لإملاءات الولايات المتحدة الأمريكية. في كوستاريكا، اصطدم بالسلطة المطلقة لـ “شركة الفواكه المتحدة” التي تستغل البؤس. وكان كتب رسالة إلى خالته بيتريز قال فيها: “في إل بازو تجولت في كافة مجالات الشركة الواسعة، وأدركت كم هم هؤلاء الأشخاص الرأسماليون مثل الإخطبوط مجرمون.. في غواتيمالا رغبت الاستمرار في تحسين طريقتي لأصبح ثورياً حقيقياً”. مع نهاية 1953، وصل إلى غواتيمالا حيث تعرف على الثورية هيلدا غادي الفارة، وبعد عامين تزوج منها، وأنجبا ابنتهما هيلديتا. في العام 1954، كان تشي شاهداً على اجتياح الولايات المتحدة انطلاقاً من الهندوراس المجاورة. أراد تشي تقديم المساعدة في تنظيم صفوف المقاومة، وتكفل بتنظيم ميليشيات عمالية، إلا أن الرئيس اربينز لجأ إلى السفارة المكسيكية وقدم استقالته. تشي مستاء: “في غواتيمالا، كان من الضرورة بمكان القتال، ولكن لا أحد يقاتل، كان لا بد من المقاومة، وتقريباً لا أحد يريد أن يقاوم. القمع والاضطهاد استفحلا في غواتيمالا”. هكذا بدأ طريقه الثوري انطلاقاً من الأرجنتين مروراً بالمكسيك. شكلت هذه الأحداث بالنسبة له منعطفاً سياسياً.. رأى بربرية الأمريكيين، وبات عازماً أكثر من أي وقت مضى على الشروع في قتالهم. يقول في هذا الصدد: “بفضل خبرتي في غواتيمالا، جعلني العدوان الأمريكي أدرك وجود شرط أساسي ليصبح المرء طبيباً ثورياً، وهذه هي الثورة. الجهود معزولة، الأفراد والأنقياء المثاليون لا يفيدون بشيء في الدول التي تجعل فيها الحكومة والروابط الاجتماعية أي تغيير أمراً مستحيلاً”.

من رجل ثوري إلى رجل دولة

في مكسيكو، يبحث تشي عن المنفيين الكوبيين الذين شكلوا جزءاً من تمرد سانتياغو كوبا الفاشل، عام 1953. وفي تموز 1955، التقى فيدل كاسترو، ومباشرة كرس نفسه للقتال لصالح الثورة الكوبية، شريطة أن يكون حراً بعد انتصار الثورة ليطلق شرارة الثورة في بلده الأم. في بداية كانون الأول 1956، وصل جيش المتمردين إلى كوبا، حيث استمر القتال لأكثر من عامين. وسرعان ما غدا تشي محارباً قديراً وخبيراً. وبعد ستة أشهر، عينه فيدل كاسترو قائداً في جيش التمرد. قام بتعليم الفلاحين المحليين القراءة والكتابة. “من الضروري أن تكون العلاقة بين الطليعة الثورية والقاعدة الشعبية العريضة قوية لضمان نجاح أي ثورة. إنها كالمحرك الصغير الذي يشغل المحرك الكبير”. وعلى خطا فيدل، عمل تشي على ترسيخ علاقاته الكثيرة مع الفلاحين لخلق نقاط دعم في المنطقة. كان يجري مشاورات مع السكان المحليين في كل القرى والمناطق التي يمر بها، وبعد مضي عدة أعوام كتب يقول: “شيئاً فشيئاً انضم الفلاحون إلى التمرد، ولم يستطع أحد القول متى ستتحقق هذه الوحدة بينهما. اعرف فقط أن هذه اللقاءات والاتصالات مع فلاحي الجبال ساهمت في تسريع تحويل القرار التلقائي والعفوي إلى علاقة جدية وطيدة وصافية. هؤلاء السكان الشرفاء والمعذبون لم يعلموا كم كان دورهم هاماً في تكوين إيديولوجيتنا الثورية”. لعب تشي دوراً حاسماً في الهجوم الأخير، حيث نجحت قطعته العسكرية في السيطرة على مصفحة وأسر 300 جندي، والاستيلاء على كمية كبيرة من الأسلحة. كانت الضربة القاضية للديكتاتور، وغدت الثورة أمراً واقعاً.

خلال السنوات الأولى للثورة، تبوأ غيفارا مناصب رفيعة: مدير البنك الوطني، ومن ثم وزيراً للصناعة. كان هدفه بناء مجتمع اشتراكي، وهو هدف أساسي: “ليس هناك ثورة أخرى نقوم بها، سواء أكانت ثورة اشتراكية أم كانت كاريكاتيراً للثورة”. ما يعني أن الاشتراكية واضحة برأيه: “بالنسبة لنا، ليس هناك أي تعريف آخر للاشتراكية سوى إلغاء استغلال الإنسان من قبل أخيه الإنسان”. لقد حث على أنموذج اقتصادي جدي يتم فيه منح قدر كبير من الأهمية للمبادئ الأخلاقية، وبناء مجتمع اشتراكي ليس فقط بواسطة بنى وهيئات جديدة، وإنما أيضاً من خلال منحه قيم إنسانية جديدة: “لقد ناضلنا ضد البؤس وضد الخضوع في نفس الوقت، وأحد الأهداف الرئيسة للماركسية هو إلغاء وإزالة عامل المنفعة المادية والمصلحة الأنانية والمصلحة الفردية من دوافع وهواجس الشعب”. جال تشي في كل أنحاء العالم بوصفه سفيراً للثورة، وأصبح المتحدث الرسمي باسم الثورة في الأمم المتحدة ومنظمات دولية أخرى. من هذه الصفة، تابع القول: “تحالف بين شعوب العالم الثالث والدول الاشتراكية”.

مواقفه العالم ثالثية صدمت موسكو وواشنطن على حد سواء. ففي خضم الحرب الباردة صوت الاتحاد السوفييتي لصالح “التعايش السلمي”، أي أن تحاول موسكو تفادي المواجهات مع الولايات المتحدة. تشي كان يرى الأشياء بطريقة أخرى، الطريقة الوحيدة لإنهاء بؤس الشعوب الذي لا يطاق يكمن في حمل السلاح: “أؤمن بأن النضال المسلح هو الحل الوحيد بيد الشعوب للنضال من أجل تحررها، وأنا متمسك بقناعاتي. البعض يعتبرني مغامراً، وأنا كذلك، ولكن من أنموذج آخر: من اؤلئك الذين يجازفون بحياتهم من أجل مبادئهم المثالية”. تشي ليس دون كيشوت، والنخب الغربية هي قوى عظمى، وربما يكون بوسعها مواجهة صراع واحد، ولكن في حال تعين عليها مواجهة بؤر عديدة، في نفس الوقت، فسوف تستنزف، وقد تهزم، على غرار هزيمتها في حرب فيتنام، وستكون على موعد فيتنام ثانية وثالثة ورابعة، والكثير من حروب فيتنام. إنها “كلمة السر” الخاصة بالهزيمة، وسرعان ما  سيقرن الكلام بالعمل.

هذا هو الخط الأساسي الذي سيتبعه التوجه الكوبي بعد موت تشي. خلال السنوات الـ30 الأولى للثورة، منحت هافانا دعمها لكل من الجزائر وغانا والكونغو برازافيل وزائير وغينيا الاستوائية وغينيا بيساو زيمبابوي وتنزانيا وأثيوبيا والصومال واريتريا وأنغولا وناميبيا وموزامبيق واليمن الجنوبي وسورية وفيتنام ونيكاراغوا وغرينادا، وكذلك دعمت حركات تمرد مختلفة في أمريكا اللاتينية. هذا الدعم كان يتم ضد رغبة موسكو، وكذلك ضد رغبة الولايات المتحدة.

 

رجل الدولة يصبح ثورياً من جديد

سرعان ما وضع تشي تصوراً لخطط من أجل معركة تمرد جديدة. في العام 1962، بدأ الاستعداد للتمرد في شمال الأرجنتين مع النية بتوسيع النضال وعولمة الكفاح في كافة أنحاء القارة، إلا انه سرعان ما تم اكتشاف المشروع وإحباطه. فنزويللا كانت أيضاً ضمن تصوره، ولكنه اختار في النهاية بوليفيا حيث تتوفر الظروف الملائمة. تم إجراء التحضيرات، وبالانتظار، في نيسان 1965، انطلق إلى الكونغو سراً للقيام بمهمة كبيرة بناءً على طلب المتمردين في شرق البلاد، إلا أن العملية باءت بالفشل، وألغيت. في غضون ذلك، أصبح تشي المطلوب رقم واحد من قبل السي إي إيه التي بدأت تبحث عنه في كل أنحاء العالم، لذلك كان يتنقل بسرية تامة من مكان إلى آخر، فعاد إلى كوبا سراً ليعمل على انجاز الاستعدادات للتمرد في بوليفيا. تخلى عن كل مناصبه، وكل ألقابه الفخرية، وعن أسباب رفاهيته وراحته. في رسالة وداعه لفيدل كاسترو، كتب: “في ثورة ما، إذا كانت صحيحة، إما أن تكسب أو أن تموت”. كما ترك رسالة لأطفاله: “عندما تقرؤون هذه الرسالة لن أكون بينكم. كونوا دائماً في حالة تحسس وتلمس لأي ظلم ضد أي كان في العالم، بعمق شديد. إنها أجمل سمة لدى أي رجل ثوري.. وداعاً للأبد، أطفالي! كنت آمل لو أراكم على الدوام، قبلة كبيرة لكم من والدكم الذي يضمكم ويقبلكم”.

في تشرين الثاني 1966، وصل تشي إلى بوليفيا. بداية، بدا كل شيء يسير وفق خطته، ولكن سرعان ما تقوض كل شيء. زعيم الحزب الشيوعي تخلى عن دعمه للتمرد، ونتيجة للخيانة لم يكن لدى المتمردين الوقت الكافي لترسيخ التمرد. وفي محاولة منها لتفادي كوبا أخرى بأي ثمن، أرسلت واشنطن قوات مسلحة كبيرة إلى المنطقة لخنق الانتفاضة في مهدها، وبقيت تلاحق المتمردين على مدى أشهر عديدة. في 8 تشرين الأول 1967، جرت معركة حامية الوطيس تم على إثرها أسر تشي، وزجه في السجن. في اليوم التالي تم إعدامه، وفق نظام السي آي إيه.

 

مفكر أصيل

غيفارا كان طبيباً، مغواراً، وزير اقتصاد، رجل دولة ودبلوماسياً عالمياً، ولكننا لا نعرف سوى القليل عن حقيقة كونه مفكراً لامعاً. الدراسة كانت تشكل جزءاً مكملاً لمدرسة تشي الثورية، فحتى خلال نشاطاته الخاصة بالتمرد كرس نفسه للدراسة النظرية والتأملية. وفي الظروف الأكثر صعوبة، عندما كان غير مرحب به، ومستنزفاً نفسياً، وجائعاً ويعاني من ألام الربو، كان تشي يمضي ساعات في القراءة والكتابة على ضوء القمر، بينما كان المغاوير الآخرون ينعمون بالنوم. بعد عام على انتصار الثورة، كتب: “غالباً ما نهمل الانتباه الضروري للنظرية”.

من أجل أية ثورة فتية، فإن الدراسة مهمة جداً، ذلك أن مرحلة البداية بشكل خاص تتطلب الكثير من الخيارات المختلفة، فالأسس النظرية الضعيفة تنطوي على مخاطر انحراف خطها. “من شان الثورة أن تتحقق إذا ما فسرت الواقع بدقة، واستخدمت بطريقة صحيحة القوة المتوفرة، حتى بدون معرفة النظرية. ولكن من الواضح أن أي معرفة نظرية تامة تسهل المهمة، وتمنع السقوط في عوائق خطيرة، مع الافتراض دوماً أن النظرية تتوافق مع الواقع”.

النظرية هي الماركسية وفهمها بطريقة علمية قطعية. “على المرء أن يكون ماركسياً بنفس الطريقة البدهية التي يكون فيها نيوتنياً بالفيزياء وباستورياً بالبيولوجيا”. تتعارض مثل هذه المقاربة كلياً مع موقف عقائدي يقوم على العقيدة. وبرجوعه إلى كراسات موسكو الموجزة، سخر تشي من الفلسفة المدرسية ( (scolastiqueالتي عرقلت تطور الفلسفة الماركسية، ومنعت مقاربة منهجية للحقبة الانتقالية نحو الاشتراكية”. “أعمال ماركس وانجلز ليست كتباً مقدسة”. وفي هذا الصدد، أشار تشي: “ثمة بعض الأخطاء عند كلا الكاتبين. أي موقف علمي ومضاد للعقيدة يعني انه لا يمكن فرض أفكار احدهما على الآخر”.. “ليس بالإمكان إقصاء رأي ما بالعنف. وهذا بالتحديد ما يمنع كل تطور حر لقدرات التفكير”، إذ يرى تشي أن المدرسة الفكرية ليست استيلاء بدون التزام، بل يترتب عليها التركيز والتوجه نحو بناء عالم أفضل، متبعاً بذلك خطا ماركس: “لا يكفي فهم طبيعة الأشياء، فمن الضرورة بمكان تغييرها أيضاً. توقف الإنسان عن كونه عبداً وأداة للتاريخ، وغدا مهندساً معمارياً لمستقبله”. وهذا الأمر ليس ممكناً إلا إذا تم التغلب على الفردانية كنزعة إلى التفكير بالذات وحدها”، أو “كمذهب ينادي بتضييق سلطات الدولة وتوسيع نشاط الفرد. الجهد المنعزل، الجهد الفردي، نقاء المثاليين، والاندفاع للتضحية بالحياة من أجل المثاليين النبلاء والشرفاء.. كل ذلك لا يفيد بشيء إذا توقف الأمر على جهد منفرد، في مكان ما، في زاوية ما من أمريكا اللاتينية”.

واقع الأمر، يغطي عمل تشي النظري مجالاً واسعاً. نشير إلى المواضيع الرئيسة فيه: التخطيط الاقتصادي، مفهوم العمل، العلاقات الاقتصادية والسياسية الدولية، الكفاح المسلح، دور الجامعة، دور الحزب، التصور الاشتراكي للإنسان. في بداية أعوام الستينيات، تجادل غيفارا مع علماء الاقتصاد الماركسيين حول بعض المواضيع الهامة التي طورها.

 

الإنسان الجديد

في النظام الرأسمالي، كل شيء يدور حول المنفعة والثراء، وليس حول الكائن البشري، الإنسان. عمل تشي على قلب مقياس القيم هذا: “حياة شخص واحد تساوي ألف مرة كل ما يمتلكه أغنى شخص بالعالم”. هذا هو السبب الذي أصبح وفقه ماركسياً. في أحد خطاباته استشهد بفيدل: “بالتحديد، حب الإنسان هو الذي ولد الماركسية. انه حب الإنسان والبشرية، والرغبة في محاربة البؤس، والظلم، ومعاناة البروليتاريا التي حركت وحرضت الماركسية في فكر كارل ماركس”. في الثورة التي عاصرها وشهدها تشي، الإنسان مسألة مركزية.

“لم نهتم فقط بالاشتراكية. وللمرة الأولى في العالم نبني نظاماً اشتراكياً ماركسياً يكون فيه الإنسان هو المحور الأساسي، حيث يكون الفرد، والأهمية التي يمتلكها، عاملاً أساسياً للثورة”، لذلك قرنت الثورة الكوبية مباشرة بحملة محو أمية على نطاق واسع، وبالإصلاح الزراعي، والعمل للجميع، وتنفيذ سريع للصحة العامة والتعليم المجاني.. إلخ. ولتحقيق كل هذه الأهداف، كان لا بد من وجود بنى جديدة. ولكن هذا لا يكفي، إذ لابد وأن يتغير الإنسان أيضاً، أي تغيير طريقة تفكيره وأرائه وعاداته وتقاليده.

باختصار، يجب “خلق إنسان جديد لبناء الشيوعية بالتوافق مع تجديد وإصلاح القاعدة المادية”، ولابد من تحويل الفردانية إلى تضامن والتزام من أجل الغد: “فردانية المستقبل يجب أن تكون التزاماً من الفرد الكلي لصالح الجماعية، وانطلاقاً من هنا فقط يكون بالوسع بناء المجتمع الجديد وتكوينه”.

الإنسان الجديد لا يولد تلقائياً. “المجتمع الجديد عندما يتكون يترتب عليه منافسة الماضي بإصرار، وهذه العملية تتطلب المزيد من الوقت”. العادات والأعراف والآراء القديمة المتأتية من قرون الرأسمالية راسخة. “المجتمع القديم يلقي بظلاله الثقيلة.. طرق التفكير في المجتمع القديم تؤثر باستمرار على تفكير وعقلية الناس، لذلك من الأهمية القصوى توطيد الوعي الاشتراكي”. الضغط ليس أي مساعدة، وحدها قوة الإقناع تنفع. “المثال، الأنموذج الجيد تماماً كما الأنموذج السيئ، سريع العدوى وسهل الانتقال، ونحن يجب أن نكون سريعي العدوى من نماذجنا الجيدة. علينا العمل على وعي الأشخاص، والتوافق معه، وإظهار ما نحن قادرون على فعله”.

نستند هنا على صميم فكره. تشي صنع مزيجاً أصيلاً من الفكر الماركسي الكلاسيكي مع الأفضل من التقليد التقدمي لأمريكا اللاتينية. نرى عنده تنسيق الاضطراب الفردي والاستقامة الشخصية، التبعية المتشابكة للعناصر المادية والواعية، أهمية وموضوعية معركة الأفكار، التشديد على الأخلاق والإنسانية في إطار العمل الاقتصادي والسياسي. هذا ما جعل فكره قوياً وجذاباً. بقي تشي وفياً لوجود خارج العام والمشترك، وهذا ما يفسر لماذا بقيEl Comandante “القائد”، حتى يومنا هذا، مصدر إلهام للملايين في العالم.

حقق مع رفيقه فيدل كاسترو انتصاراً كبيراً في كوبا في نهاية الخمسينيات، لكنه لم يتحمس لمنصبه الوزاري في حكومة الثورة الكوبية، وقرر مواصلة الكفاح المسلح في بقية دول القارة.  وعلى الرغم من أن هناك كثيرين من قادة ثورات التحرر الوطني في العالم الذين اشتهروا في بداية النصف الثاني من القرن الماضي، إلا أن اسم غيفارا ارتبط بالثورة ليس ضد الاستعمار فقط، وإنما من أجل الحرية في العالم قاطبة.