الطيب التيزيني

الطيب التيزيني

نجم الأسبوع

الاثنين، ٢٠ يوليو ٢٠١٥

يعتبر الطيب التيزيني واحدا من أبرز الذين اشتغلوا على مسألة التراث، ومن الذين تصدوا لمشكلات وإشكاليات الفكر العربي المعاصر. وهب الدكتور التيزيني حياته للفكر مخلصاً له، على أمل أن ينتج هذا الفكر في حقل الواقع واقعاً جديداً أكثر تقدماً وديناميكية. يقول التيزيني : «إن هاجسي الحقيقي هو الهاجس الوطني القومي في إطار الفكر. أعني بذلك محاولة إعادة الموقف من التراث والتاريخ العربي في رؤية معاصرة تستطيع أن تواجه ما نواجهه الآن من صعوبات شتى».

إن الهاجس الحقيقي للتيزيني إذاً هو أن يصبح التراث معاصراً قادراً على مواجهة المهمات الكبرى على صعيد التقدم والفكر. وقد أخلص التيزيني لمشروعه إذ نبش مكنونات الماضي، وعرف تأثيره على حاضرنا المعاش، فالتراث عنده ليس شيئاً مضى وانتهى، وإنما هو مستمر فينا، ويضغط علينا بأثقاله، ونحن لسنا أمام خيار نقبل أو لا نقبل، لذلك وجب علينا - حسب التيزيني - أن نبحث عن الجوانب الثورية في الماضي ونفعلها في حاضرنا، ولايتم ذلك إلا من خلال كشف الآليات التي يعمل من خلالها التراث.

عاش التيزيني حياته متأثراً ومؤثراً، فقد كان منفتحاً على الشرق والغرب، فها هو يعدد القنوات التي استقى منه فكره أيام صباه: المعري، القرآن الكريم والأناجيل والتوراة، جان جاك روسو، ثم إنه يطمح لأن يسلك سلوك الفيلسوف بأن يعمل مفكراً ويفكر عاملاً، بكلام آخر يسعى لأن يكون منسجماً مع ذاته متصالحاً معها.

إن مجموعة كبيرة من العوامل صاغت فكر التيزيني سواءً على الصعيد الذاتي أوعلى الصعيد الموضوعي .

على الصعيد الذاتي:
إن «المنزول» كما يسميه التيزيني هو المسكن الذي كان يعيش فيه في حمص، والمنزول هو جلسة أسبوعية يشترك فيها مجموعة من الأصدقاء يناقشون فيها مشكلة بعينها، فقد كان يضم أناساً من جميع الاتجاهات السياسية والإيديولوجية والدولية. إن أهم ما يميز هذا المنزول هو اشتراك الجميع بضرورة التكامل من أجل اكتشاف الحقيقة.

على الصعيد الموضوعي:
إن الفلاسفة لا ينبتون كالفطور على مزابل التاريخ، كذلك التيزيني لم يكن لحظة عابرة بل كان محصلة لفعل تاريخي كان يجسد نفسه في سورية في خمسينيات القرن العشرين ومرحلة النهوض الوطني بعد الاستقلال، ومرحلة الديمقراطية والفكر المستنير والحوار العقلاني بين كل التيارات ومرحلة الإقرار من الجميع للجميع. وهذا ما يلقي على التيزيني مسؤولية التأسيس لفكر عقلاني تنويري تثويري ينقي التراث بما علق به من خرافات وأوهام وتحريف، لكي يظهر بحلة جديدة حقيقية ويتمرأى أمام الناس، ويصبح عاملاً مهماً في تقدمنا وليس عائقاً يعمينا عن فهم التناقضات الواقعية المعاشة التي لا تخفى غالباً حتى على الناس البسطاء.

نحت التيزيني لغته الخاصة ولم يهادن بأن يتنازل عنها. لأنه يعتبرها (أي اللغة) جزءاً من نسيج البنية الوطنية والقومية والثقافية. في معرض سؤال التيزيني عن اللغة، استشهد بطه حسين عندما سئل: لماذا لا تنزل إلى العامية! فقال: «لماذا لا نرفع العامية».

إن هم التيزيني ينحصر في كشف الحقائق ووضعها في متناول الجميع، إنه يؤسس لسيادة فكر عقلاني يكون محركاً للتاريخ ويفضح الآليات والعوائق التي تسهم في تثبيت واقع آسن وعفن، لذلك انطلق في قراءته للتراث من نقطتين أساسيتين:

1- مشروع رؤية جديدة للفكر العربي منذ بواكيره الأولى حتى الآن، وأحد أوجه هذا المشروع هو إعادة النظر في هذا المشروع إيجاباً وسلباً، وتقديم ما أغفله المستشرقون عند دراساتهم للتراث العربي.

2- الانفتاح على الفكر الغربي: فالغرب هو الرأسمالية وقد جددت نفسها (وعيها)، وعلينا أخذ ما هو إيجابي منها ونبذ ما هو سلبي (ظاهرة الاستعمار). يقول التيزيني : «إن عملي يأخذ مصداقيته التاريخية فقط حينما يتم التأسيس لمراحل أكثر تقدماً، وبالتالي يقوم هذا العمل على فكرة التواصل والتفاصل، أي إنني أحاول أن أقدم ما هو أكثر عمقاً عمن سبقني، وأن أسهم في تقديم شيء يكون أكثر عمقاً لاحقاً مما قدمته أنا، وبالتالي فالتاريخ يقوم على فكرة التراكم، وهذا ما نفتقده إلى حد كبير في الفكر العربي عموماً».

إن الذاكرة عند التيزيني هي التي تفضي إلى مزيد من النمو، مزيد من التراكم، وليست الذاكرة عنده تعني أن نعيش الماضي ونتحسر عليه، ولذلك يعترف التيزيني بخصوصية عمله، فما ينجزه مشروط تاريخياً، لذلك هو يؤسس لفعل مستقبلي أكثر إبداعاً وأكثر عقلانية وأكثر انفتاحاً.

ومن مقولات التيزيني التي حفرت في ذاكرتنا: «حرب الجميع ضد الجميع وإفساد من لم يفسد بعد، جدلية النص والواقع، جدلية العام والخاص، التفاصل والتواصل».

حياته وأعماله:



الطيب التيزيني في شبابه

جرى اختيار المفكر السوري المعروف الطيب التيزيني، أستاذ العلوم السياسية والفلسفية في جامعة دمشق واحداً من مئة فيلسوف في العالم للقرن العشرين عام 1998 من قبل مؤسـسة «Concordia» الفلسفية الألمانية الفرنسية.

ولد محمد طيب التيزيني بمدينة حمص في سورية وغادر إلى تركيا بعد أن أنهى دراسته الأولية ومنها إلى بريطانيا ثم إلى ألمانيا لينهي دراسته للفلسـفة فيها ويحصل على شهادة الدكتوراه، ثم الأستاذية في العلوم الفلسفية.

صدر أول كتاب له باللغة الألمانية عام 1972 بعنوان «تمهيد في الفلسفة العربية الوسيطة»، ثم تتالت أعماله ومن أهمها باللغة العربية :


من كتب الطيب التيزيني

- مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط.
- روجيه غارودي بعد الصمت.
- من التراث إلى الثورة.
- حول نظرية مقترحة في قضية التراث العربي.
- الفكر العربي في بواكيره و آفاقه الأولى.
- من يهوه إلى الله (جزآن).
- النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة.
- من اللاهوت إلى الفلسـفة العربية الوسيطة (جزآن).
- في السجال الفكري الراهن.
- فصول في الفكر السياسي العربي.
- من الاستشراق الغربي إلى الاستغراب المغربي.
- بحث في القراءة الجابرية للفكر العربي.
- الإسلام و العصر (مشترك).
- نحو فلسفة عربية معاصرة.
- على طريق الوضوح المنهجي.
- من ثلاثية الفساد إلى قضايا المجتمع المدني.
- بيان في النهضة والتنوير العربي.
- حول مشـكلات الثورة والثقافة في العالم الثالث.

من كتب الطيب التيزيني

كما نشر مئات البحوث والدراسات حول قضايا الفكر العربي والعالمي، وشارك في العديد من المؤتمرات العربية والإقليمية والدولية والعالمية.

أشرف الدكتور الطيب التيزيني على العشرات من طلاب الدراسات العليا السوريين والعرب والأجانب.

وهو ناشــط في مجال حقوق الإنســان، وسـاهم منذ عام 2004 بتأسـيس المنظمة السورية لحقوق الإنسـان (سواسية) وشــغل منصب عضو مجلس إدارتها.

كتاب «على طريق الوضوح المنهجي»:

مقدمة:
إن الكتابات منذ السبعينات حتى المرحلة الراهنة تتمحور حول الأزمة الفكرية البنيوية التي تخترق الفكر العربي المعاصر عمقاً وسطحاً. وهذا الكتاب يصب أولاً في معالجة المسألة المطروحة، وثانياً في تعميق دحض الأوهام والتعميمات والإطلاقات في إطار البحث في الفكر العربي المعاصر.

قبل البدء بضبط الأزمة الفكرية العربية وتشخيصها في أسيقتها التاريخية والاجتماعية والبنيوية، لا بد من نقد الأزمة معرفياً وإيديولوجياً من أجل التأسيس لوضوح مفهوميّ حول الأزمة.

لا بد من الإقرار بضرورة الدفاع عن حرية الحوار العلمي الديمقراطي قولاً وفعلاً لأن الحقيقة ليست ملك نظرية أو منهجية واحدة، ولأن الوضعية الفكرية العربية ستبقى لأمد غير قصير تحتمل منهجية الخطأ والصواب.

إن المنهج التاريخي الجدلي هو الذي يسيطر على هذا الكتاب عمقاً وسطحاً، وهذا المنهج رغم الانتقادات التي توجه إليه يبقى مرناً لأنه يتلون بلون الواقع ويتغير بتغيره.

إن الفكر العربي مدعو إلى اكتشاف الطريقة الحقيقية للمزاوجة بين الواقع العربي المشخص وأكثر المناهج المعاصرة نجاحاً في بعديها المعرفي والإيديولوجي، بالابتعاد عن التعميم السريع والنتائج القطعية والتامة، وحسب رأينا هذا لا يتحقق إلا في إطار المنهج التاريخي الجدلي.

إن هذا الكتاب يسمو إلى الإجابة عن المشكلات العالقة وتحديد الطريق الذي يقود الوطن العربي إلى تحقيق الوحدات الوطنية الديمقراطية بين أقطارها من ناحية، وتحقيق التقدم الاجتماعي والاقتصادي من ناحية ثانية.

إن ما نطرحه في هذا الكتاب يلتزم - دون مواربة أو غمغمة - مواقع الطبقات المنتجة الكادحة في هذا الوطن، بصفتها البديل التاريخي الضروري والوحيد الذي يحقق دولة الرفاه والعدالة والتقدم والمعاصرة.

العلمانية في الفكر العربي:
إن شعار «الدين لله والوطن للجميع» كان منذ عصر النهضة وما يزال حتى الآن يمثل حلماً صعب التحقق في العالم العربي مجتمعاً. ولا بد أن نلاحظ الصعوبات الداخلية والخارجية التي أحاطت به وحالت دون تحوله إلى وضعية مشخصة.

أما المعنى الأساسي للشعار فيقوم على مطلب الفصل بين الدين والدولة. إن ذلك المطلب هو موقف سياسي بالدرجة الأولى. موقف تأتى عن حاجات الدولة الحديثة والمعاصرة التي تعلن عن هويتها بأنها مدنية. ونستطيع أن ننظر للمدنية على أنها تعبير عن العلمانية، وما يجمع بينهما أنهما يتجاوزان الدولة الدينية.

إن الفكر العربي الحديث والمعاصر نظرا إلى المسالة (العلمانية)على أنها مسألة قابلة للحوار أخذاً أو رفضاً، لأنها فرضت نفسها على المجتمع العربي بتأثير داخلي وخارجي. ولا تعني كلمة «داخلي» هنا ولادة الدولة الحديثة الوطنية القومية، أو بروز المسألة الاجتماعية الطبقية. فالدولة الوطنية القومية ظاهرة حديثة نشأت وتبلورت في عصر الرأسمالية، لذلك يمكن القول إن العلمانية لا يمكن فهمها بعيداً عن الدولة الحديثة والمسألة الطبقية، لذا قدمت العلمانية نفسها بأنها البديل عن الدولة الأوتقراطية أو الدينية.

كان هناك من المفكرين العرب من دافع عن الديمقراطية ومن رفضها. أما الذين رفضوها فنظروا من منطلق أنها لا يمكن أن تمثل شيئاً حقيقياً في العالم العربي، وذلك بسبب الخصوصية الإسلامية. وهؤلاء أكدوا على أن الدين المهيمن هو دين حضارة وعقيدة. وترتب على ذلك اعتبار أن الدين المهيمن هو دين جميع العائشبن في المجتمع العربي بتعددهم الديني والعقيدي والإثني والعرقي والاجتماعي الطبقي.

أما دعاة العلمانية فقد نظروا إلى المسألة من جانبين هما العقيدة والحضارة. فإذا صح أن الوظيفة الحضارية للدين يمكن أن تكون أمراً مشتركاً بين مجموعة من الناس المنتمين إلى أديان مختلفة، فإن الوظيفة العقيدية تتصل بالعلاقة بين المؤمن والإله. ويمكن التعبير عن الوظيفة الحضارية بشعار «الدين لله والوطن للجميع»، وهنا يتحول الدين إلى وجه مدني من الوطن المدني والدولة الوطنية. لقد نظر دعاة العلمانية إلى مسألة الأقليات حيث أخذوها على محمل الجد، فكان ذلك حافزاً هاماً وكبيراً لمنح العلمانية أهمية خاصة.

لقد نشأت كثير من الخلافات والحروب والفتن والصراعات بين الأقليات والأكثرية الدينية وظهر ذلك واضحاً جلياً مع عملية التدخل الاستعماري والإمبريالي من جهة ومع غياب الديمقراطية من جهة ثانية.

لم يطرح دعاة العلمانية المسألة (أي العلمانية) من موقف نخبوي، وإنما من مطامح في التقدم الاجتماعي والوحدات الاجتماعية الوطنية للأقطار العربية. فقد اتضح أن الطائفية العقيدية الدينية يمكن تحويلها لنسق سياسي من شأنه أن يسعر الصراع الديني والإثني بين الأقليات والأكثرية.

وهنا برز دور العلمانيين ليقولوا بأن العلمانية تغدو حلاً لا يمكن التنازل عنه فيما إذا أريد للوطن العربي أن يخطوا على طريق التقدم.

ظل العلمانيون يكنون عميق الاحترام للدين المهيمن والأديان الأخرى، على أن يكون في حدود العلاقة بين المؤمن وربه.


الطيب التيزيني

لقد تبين أن الرهان على العلمانية كالرهان على الديمقراطية والدولة المدنية، فهذه جميعاً تهاوت في بعض البلدان العربية وبلدان العالم الثالث تحت قبضة الحركات الدينية والحروب والفتن الطائفية. ولكن إخفاق تجربة الدولة الثيوقراطية (الدينية) في المجتمع العربي المعاصر وما حوله من مجتمعات أخرى، عزز من شأن دعاة العلمانية العرب وجعل هدفهم العلماني يتحول إلى ما يقترب من شعار سياسي جماهيري في ذلك المجتمع.

إن هذا النجاح الجزئي الذي حققته الحركة العلمانية العربية سوف يكون قادراً على أن يتحول إلى نجاح عملاق حين يقترن باتساع آفاق الديمقراطية في الوطن العربي، لأن العلمانية والديمقراطية هما وجهان للدولة الوطنية أو القومية الديمقراطية، وهنا تبرز المواطنة واضحة جلية.

إن جذور العلمانية نجدها في التجربة القرمطية، ولكن يجب أن لا نفهم من ذلك أن شروط ومقتضيات العلمانية في المجتمع العربي المعاصر تستمد مشروعيتها من تلك الجذور. إن مشروعية هذه الفكرة السياسية مستمدة أولاً من البنية المركبة والمعقدة للمجتمع العربي. ويبدو أن العلمانيين العرب ينتمون للمستقبل بقدر ما هو ينتمي إليهم.

من نجيب عازوري إلى شارل مالك:
أو من فكر النهضة إلى فكر السقوط
لا شك أنه مما يلفت نظر الباحث في الفكر العربي الحديث والمعاصر وجود ذلك الخط الانحداري من النهضة إلى السقوط ومن اليقظة إلى الخمول.

إن الأمثلة الأكثر وضوحاً وتعبيراً عن هذا الانحدار، هو ما حققه نجيب عازوري الذي مات عام 1916، وشارل مالك اللبناني المعاصر. وخير دليل يسعفنا للتعبير عن هذه النقلة المأساوية هو كتاب «يقظة الأمة العربية» لنجيب عازوري وكتاب «المقدمة» لشارل مالك.

كتب نجيب عازوري في كتابه الذي ألفه عام 1905 ما يلي: «ما كان يمكن أن تصنعه الأمة العربية لو استمرت في تطورها الذاتي: إن الأتراك لم يكتفوا بعدم العطاء بل منعوا الآخرين من العطاء، ولولاهم لاستمرت الأمة العربية في تقدمها دون شك، وكان بإمكانها أن تكون على قمة الحضارة العالمية». ولذلك لابد من التحرر والانعتاق القومي على نحو يتم فيه فصل السلطة الدينية عن المدنية، وإقامة إمبراطورية عربية.

وفي كتاب آخر يعلن قائلا: «إن إمبراطورية عربية أو اتحاداً كونفدرالياً للأقطار العربية سيضمن ازدهار الملايين وسعادتهم ويضع حداً للاضطهاد الذي يمارسه الموظفون الأتراك ويسمح ببعث الحضارة القديمة التي ألفت العربية من القرون الوسطى. ولكن الدعوة إلى الوحدة القومية في نطاق العالم العربي والتحويل الثقافي والاقتصادي والاجتماعي قد سقطت بدءاً من عام 1840، أي العام الذي وقعت فيه معاهدة لندن وترافق معها هيمنة الرأسمالية الأوربية الاستعمارية على معظم الوطن العربي. وفي سبيل مزيد من الوضوح نورد قول إبراهيم باشا وهو ذو اصل ألباني، حيث قال إبراهيم باشا: أنا لست تركياً فقد أتيت إلى مصر عندما كنت فتياً ومنذ ذلك الوقت غيرت شمس مصر دمي وجعلته عربياً خالصاً».

لقد كان هدف إبراهيم باشا تأسيس دولة عربية يعيد بها للعنصر العربي قوميته ووجوده السياسي. إن النصين لإبراهيم باشا ونجيب عازوري يبرزان أمرين اثنين: الأول يتمثل بظهور المسألة القومية العربية في الفكر العربي النظري السياسي والنهضوي للثورة العربية البرجوازية المسقطة. أما الأمر الثاني فيبرز تلك النظرة التقدمية المستنيرة إلى القومية التي تقوم على الفهم الإنساني الحضاري للقومية وليس على أساس عرقي متزمت شوفيني.

إن فكر شارل مالك أبعد ما يكون عن فكر العازوري التقدمي المستنير، ويمكن أن نستشف صدق المقارنة عندما نستعرض كتاب المقدمة لشارل مالك.

ففي هذا الكتاب الصادر عام 1977، ينطلق المؤلف من أن كل شيء يتوقف على فهم الكتاب المقدس، في عهديه القديم والجديد.

ولكن انطلاقه هذا لا ينطوي على أن الكتاب المقدس موروث عربي، لأن شارل مالك يعتقد بأن كل ما هو أصيل لا يمت إلى العربية بصلة. وحين يتحدث عن فلاسفة عرب ويبدي إعجابه بهم (مثل الفارابي وابن سينا وابن رشد)، فإنما يفعل ذلك بعد أن يجردهم من شخصيتهم الفكرية الإيجابية معتبراً إياهم رجالاً عرباً كتبوا الفلسفة اليونانية – الغربية- بلغة عربية. ولذلك يتساءل شارل مالك بحسرة: «كيف تقنع اللبناني أو العربي أن في التراث الذي يعرفان ويعيان لا يوجد شيء إطلاقاً شبيه بأفلاطون أو أرسطو أو أوغسطين أو لايبنتز أو نيتشه وغيرهم، وأن معرفة هؤلاء والعيش الحقيقي معهم هو خير وجود يمكن أن يطمحا إليه، ليس فقط لتثقيفهما شخصياً بل لتثقيف وتمدين المجتمع والشعب والأمة التي ينتميان إليها».

إن شارل مالك يلحق التراث العبراني بالوجود الغربي، وهنا نلاحظ وقوع شارل مالك تحت تأثير المركزية الأوربية، فكل شيء حقيقي مركزه أوروبا وكل شيء رث هو غير أوربي.

نجد هنا الإذلال الذاتي في الاتجاه الفكري العربي، حيث السطحية المنهجية والدونية والوقاحة الشخصية.

هكذا تعلن شخصية شارل مالك عن نفسها بمثابتها ملحقاً من ملاحق الغازي الاستعماري الإمبريالي، لقد أطاح مالك بفكرة الوجود الوطني للبنان والعالم العربي عموماً.


الطيب التيزيني أمام مكتبته

على ذلك النحو لا يمكن أن يكون شارل مالك وريثاً شرعياً لمواطنه نجيب عازوري، بالرغم من إخفاق العازوري بوصفه مفكراً نهضوياً. إذ إن سقوط الفكر العربي المعاصر في أحد أوجهه الكبرى يمثل الوريث الشرعي لاتجاه الإخفاق في الفكر العربي الحديث النهضوي، ولا يمكن أن نحل الإشكاليات العربية المعاصرة إلا عندما ننطلق من العلمانية والديمقراطية.

فرح أنطون ومحمد عبده:
في الخصومة التاريخية الديمقراطية
1. حمل القرن السابع عشر إنذاراً مبكراً للإمبراطورية العثمانية الشائخة في بنيتها الإقطاعية العسكرية، وظهرت الأزمة بالحقل السياسي السلطاني المستبد، وبالحقل الاقتصادي والعسكري.

2. وقد أصبح الجيش حقلاً للتنازع بين أصحاب النفوذ، وأصبح الدخول فيه خاضعاً لشروط مالية وبهذا ظهر تمايز في الجيش الإنكشاري، وفقد الفقراء منهم أي امتيازات، وقد ظهرت جسور بينهم وبين الفلاحين والبدو وصغار الحرفيين ولكن غالباً ما كانت تحركاتهم تقمع بالقوة أو تجير لصالح رجال العشائر أو الطوائف أو تقمع بعنف.

3. في الجانب الآخر كان العالم الغربي يتجه نحو الرأسمالية التي بدأت بقيادة تحولات جديدة في المجتمعات الأوروبية، وأنتجت تطورات نوعية في العلم الطبيعي وتطبيقاته الإنتاجية والاجتماعية والحربية.

4. وقتها واجهت الإمبراطورية الشائخة ثلاث تحديات: حيث برزت مصر بمثابتها سباقة للسير على طريق الانتقال البطيء من العلاقات الإقطاعية إلى بعض ملامح تشير على نحو إرهاصي إلى النمط الرأسمالي. وظهرت في النصف الثاني من القرن الثامن عشر قوى اجتماعية جديدة (حرفيون مفقرون، شغيلة في ورشات ومزارع الحكام الكبار، فلاحون لا يملكون أي أرض). وقد استفاد محمد علي مما ورثه من المماليك ومن تجربة غزو نابليون لمصر.

5. إن تجربة محمد علي وابنه إبراهيم لم يتح لها إمكانية التحول إلى واقع مشخص متمثل بنمط رأسمالي حاسم، ولكنها شكلت حالة تاريخية خصبة.

6. وهذه التجربة لم تفصح عن نفسها فقط بمصر بل في سورية أيضاً على يد إبراهيم باشا، حيث عمل على إيجاد مركزية سياسية واقتصادية في البلاد عبر محاولة إنهاء الانفصالية الإقطاعية والوقوف بوجه التعسف الإقطاعي، وكان الأمير بشير الثاني الحليف المرموق لمحمد علي في لبنان، ووقف مع إبراهيم باشا الذي دخل سورية ووقف ضد تعسف الإقطاع، فخفف الضرائب على الفلاحين، وأسهم في توسيع الحركة التجارية وتأمين حياة آمنة من قطاع الطرق، كما فتح المدارس، وأنشأ دار طباعة وأدخل نسقاً من الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية على حد من الاستنارة والقانونية.

7. قال ماركس عن محمد علي إنه الشخص الوحيد الذي كان في وسعه أن يتوصل إلى استبدال العمامة المفتخرة برأس حقيقي.

8. إضافة لمحمد علي وإبراهيم باشا وبشير الثاني، كان هناك داوود باشا في العراق وخير الدين التونسي في تونس، ممن حاولوا الإصلاح والنهضة.

9. في سياق تطور الحركة التجارية مع الخارج وظهور نزعات للتوحيد الوطني والقومي ظهر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بعض المنورين البرجوازيين أهمهم من سورية: بطرس البستاني وإبراهيم اليازجي وأبوه ناصيف اليازجي وجرجي زيدان.

10. أصدر البستاني مجلتين: «نفير سورية»، و«الجنة» ثم أتبعهما بمجلة الجنان التي توقفت عن الصدور عام 1886 بسبب الاضطهاد الحميدي.

11. إن معظم المتنورين في سورية كانوا قد نزحوا إلى مصر بسبب قرب سورية من مركز الاستبداد الحميدي إضافة للحروب الطائفية التي قامت فيها.

12. نزح شبلي شميّل لمصر (1850 -1917) ولحق به رشيد رضا (1865-1925) وفرح أنطون (1874 -1922)، وهناك أصدر رشيد رضا مجلة «المنار» وأصبح فرح أنطون رئيس تحرير مجلة «الجامعة».

13. إن الأفغاني وعبده قد تركا بصمة واضحة في الحياة الثقافية المصرية وكان لهما تأثير كبير كتيار ديني مستنير عل الناس وكذلك الأمر بالنسبة للتيار العلماني، وقبل أن يأتي فرح أنطون لمصر كان شبلي شميل وآخرون قد هيؤوا له القاعدة للانطلاق.

14. لقد تبلور الموقف الإشكالي العمومي حول السؤال التالي: كيف نستطيع أن نتلقف مظاهر التقدم العلمي والتقني والثقافي من الغرب (الرأسمالية) الذي يفرض نفسه علينا بكل الأحوال، دون أن نخل بانتمائنا لموروثنا.

15. انطلق تيار محمد عبده بالإجابة على عن ذلك السؤال عبر قناتين: الأولى تتمثل بالعودة إلى الإسلام الأول النقي، والتوجه من موقع الإسلام نحو الغرب، وذلك على نحو تلفيقوي غالب الأحيان وسلفي. والقناة الثانية تتجسد بالنظر إلى المستبد العادل إسلامياً على أنه مفتاح الدخول لمواجهة الغرب، وهذا يستتبع إيجاد جامعة سياسية دينية توحد شعب مصر وشعوب البلدان العربية الأخرى من موقع التشريع الإسلامي وهيمنته في كل القطاعات المكونة للبلد مع الحرص على التعايش بسلام مع الأقليات الدينية المسيحية واليهودية واحترام حقوقهم في ضوء التشريع وانطلاقاً منه. هذا التيار كان يحتل الحيز الأوسع في الوضعية العربية.

16. أما التيار الآخر العلماني فقد برز لديهم شعور وطني وقومي ليس بصفته الحل التاريخي للتجزئة والتبعثر القومي فحسب، بل رداً على طائفية الموقف الداخلي المدعومة من أسياد الإقطاعات العثمانية.

17. لقد كان ممثلو التيار العلماني ممثلين لأيديولوجيا البرجوازيات الناشئة في البلدان العربية.

18. نادى هذا التيار إلى جعل الانتماء القومي الوطني إلى العالم العربي المعيار الأول لوحدتهم السياسية في إطار الدولة.

19. من هنا كانت العلمانية وشعارها (الدين لله والوطن للجميع) هي المدخل للمجتمع المدني الذي ستسوده تشريعات وضعية وضوابط اجتماعية وسياسية مستمدة من مؤسسات اجتماعية بشرية يمكنها أن تستأنس بكثير من الشرائع والقواعد المنحدرة من الأديان وتستفيد منها.

20. إن الوجه الآخر من نسيج المجتمع المدني المنشود يقوم على تبني العلم الأوروبي وطرائق التقدم الصناعي والاجتماعي كتحرر المرأة والقضاء على التقاليد المعيقة وفتح المدارس وجعل التعليم الابتدائي إجبارياً.

21. بعد أن أنهى فرح أنطون دراسته في المدرسة الأرثوذوكسية في طرابلس، غادر إلى مصر عام 1898، ثم سافر للولايات المتحدة وعاد للقاهرة مفعماً بالمطامح والآمال إثر سقوط السلطان عبد الحميد عام 1908.

22. ألف فرح أنطون سنة 1903 كتابه «ابن رشد وفلسفته»، ويعتبر الكتاب من أهم الأعمال على امتداد منتصف القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وقد كان شاهداً حياً على المشاريع الوطنية النهضوية، لا سيما في مصر وسورية.

23. إن كتاب «ابن رشد وفلسفته» ينطوي على هم تراثي مؤرق يتمثل في محاولة الإجابة عن السؤال التالي: ما الأهمية التي يمتلكها تراثنا الفكري عموماً والفلسفة الرشدية خصوصاً بالنسبة إلينا في مرحلتنا المعاصرة.

24. إن استحضار ابن رشد لم يكن من قبيل الإمتاع الذهني بل كان عند أنطون مدخلاً إلى الإشكالية التي عاشها المفكر، أي إشكالية النهضة.

25. لم يكن أنطون بخطه العام في قراءة ابن رشد دعوة سلفوية للعودة إلى ابن رشد، بل محاولة لتفحص الأفكار المعاصرة حول العلمانية والعقلانية والمجتمع المدني والتعايش العلماني بين الدين والعقل. يهدي أنطون كتابه إلى عقلاء الشرقيين في الإسلام والمسيحية، حيث يقول: «إن النبت الجديد في الشرق قد صار كثيراً، ونريد بالنبت الجديد أولئك العقلاء في كل ملة ودين من الشرق، الذين عرفوا مضار مزج الدنيا بالدين وصاروا يطالبون بوضع أديانهم جانباً في مكان مقدس محترم، ليتمكنوا من الاتحاد اتحاداً حقيقياً ومجاراة تيار التمدن الأوروبي الجديد وإلا جرفهم جميعاً. إن الاختلاف في الآراء والمبادئ إنما هو من طبيعة البشر لأنه تابع لعقولهم وتربيتهم وأخلاقهم وعادتهم ومصالحهم، فالإصلاح لا يبنى إلا عليهم، وأساس الإصلاح احترام حرية الفكر والنشر احتراماً مطلقاً، لذلك وضعنا هذا الكتاب تحت حماية هؤلاء العقلاء». ويتابع أنطون: « إن النبت الجديد هو البنية الاجتماعية الجديدة الصاعدة أو الناشئة»، ويقول: «نلاحظ أن العقل هو الناظم العام المشترك عند جميع الناس، وهو العقدة الفاعلة والدافعة على الانفتاح».

26. أدرك أنطون أن الاختلاف بين آراء الناس مرده إلى تربيتهم وبيئتهم ومصالحهم، وبذلك فالمفتاح من أجل تحقيق اتحاد حقيقي هو تحقيق مصالح الجميع عن طريق العقل والعقلانية.

27. يعبر أنطون عن الأيديولوجيا البرجوازية العربية التابعة التي انطلقت على المستوى الذهني النظري من أن العقل يوحد المجتمع الجديد.

28. إن الذهنية الوهمية عند المنورين العرب ومنهم أنطون لم تأتِ بمثابتها نتاجاً لداخل عربي فحسب، وإنما بصفتها تعتيماً وظيفياً للتأثيرات المدمرة التي انطلقت من الغرب الاستعماري والإمبريالي اتجاه الوطن العربي.

29. يرى أنطون أن تحرير العقول من التعصب الديني هو مدخل التقدم في الشرق، وقد كانت ترجماته حول تاريخ المسيحية لرينان، من أجل الحث على التفكير العقلي المتسامح والكوني.

30. كانت الخصومة الفكرية بين محمد عبده وأنطون قائمة على احترام عبده وأنطون لقواعد الخصومة الفكرية الديمقراطية.

31. إن الغاية من الكتاب حسب رأي أنطون ليس المفاضلة بين الإسلام والمسيحية، بل اكتشاف عناصر التوحيد بينهما للإسهام في الوحدة الوطنية بسمتيها العقلانية والديمقراطية.

32. يرى أنطون أن الشعب كاره للفلسفة وخاضع لرجال الدين المتزمتين، وأن الحقيقة متى وجدت طريقها جرت بقوة الصاعقة فلا يقف في وجهها شيء، فالحقيقة تدفع النفس إلى العمل الحر والقول الحر.

33. رفض أنطون وهو يدافع عن ابن رشد ما أعلنه أفلاطون عن أن الذكاء مخصص لليونان فقط.
وهو بذلك يؤمن بتحقيق الوحدة الوطنية العقلانية العلمانية.

34. يرفض أنطون ما قاله محمد عبده بأن سبب التأخر هو سوء فهم الدين وأن الرجوع إلى الأصل هو شرط كل إصلاح، ويرى أنطون أن عبده في اتجاهه العام مناهض لفكرة التقدم التاريخي.

35. في إجابته عن سبب بزوغ الفلسفة في أوروبا يقول إن سبب البزوغ يعود لعدة أمور: أولاً إن جميع اللاهوتيين كانوا مقربين لأرسطو ومعترفين بفلسفته، والثاني أن النسل الأوروبي ذا ميزة على بقية الشعوب من حيث الفلسفة والعلم.

36. إن الآراء الرينانية الأنطونية كانت من موقع التقحم الثقافي الاستشراقي الغربي مع تقاطع عملية السيطرة الإمبريالية على العالم العربي.

37. يقول أنطون أن عهد النهضة في سورية هو عهد دخول المرسلين الأمريكان والمرسلين اليسوعيين إليها.

38. يتوقف أنطون في قراءته لابن رشد عند مفهوم «وحدة الأديان»، فهذه الفكرة كانت منطلقاً حقيقياً لأنطون من أجل إيجاد اتحاد حقيقي بين مختلف الديانات في العالم العربي، فهو يميز بين «المبادئ الثابتة العامة» التي تشترك بها كل الأديان، و«الأعراض الطارئة الخاصة» التي تظهر بصيغ خاصة بكل دين منفرداً.

39. إن المبادئ الثابتة العامة تحث على الفضيلة والمحبة والتسامح، أما الأعراض الطارئة الخاصة فهي الممارسات والطقوس التي يمارسها المؤمن من أي دين على نحو خاص. لكن دون تدخل بالحياة العامة، إذ تبرز قوانين وضعية ودساتير تحكم الاتحاد البشري.

40. يرى أنطون أن ابن رشد ينسجم في موقفه مع قاسم أمين، فالاختلاف بين المرأة والرجل هو اختلاف في الكم لا في الطبع، فالمرأة قادرة على الحرب مثل الرجل ولكنها أضعف فيها، وهي تتفوق عليه في بعض الأمور كالفن والموسيقى. إن النساء قوى كامنة، وللأسف فنحن لا ننظر إليها إلا في الولادة وإرضاع الأطفال. إنهن يخضعن لسلطة الرجل، فالفقر عظيم في مدننا كون عدد النساء يفوق عدد الرجال، وهن عاجزات عن كسب رزقهن الضروري.

41. على صعيد الموقف من الاستبداد السلطوي، يعلن أنطون أن ابن رشد يقول إن الحاكم الظالم هو الذي يحكم الشعب من أجل نفسه لا من أجل الشعب، وإن شر الظلم هو ظلم رجال الدين.

42. إن مدنيات الأمم لا تتوقف على الدين بل على العلم.

43. يقول أنطون: «الشرقيون المسيحيون لا علاقة لهم بالغرب إلا كما لإخوانهم المسلمين علاقة به»، ويرى أن حكم فئة قوية لفئة ضعيفة مهضومة الحقوق يقود إلى تدخل قوى خارجية تضر الجميع دون استثناء.

44. يرد على محمد عبده الذي أخذ يعمل على هدم المسيحية كدين لا عقلي من موقع عقلي إسلامي، فيعلن أنطون إن مثل هذه المهمة زائفة عقلياً لأن هدم أسس المسيحية كدين هو هدم لكل دين كون كل دين قائم على أساس ما ورائي لا عقلي، ويدعوه بدلاً من ذلك إلى الجلوس على مائدة حوار وطني لحل المشاكل والالتفات إلى الكفاح المشترك ضد العدو في الخارج («الأغوال الهائلة المسلحة بأسلحة جهنمية»)، والداخل («التخلف والانقسام»).

45. يقول عبده أنه لا يمكن الفصل بين السلطتين الدينية والمدنية، «الملك الذي يحكم الأمة كيف يمكنه التجرد من دينه»، فيرد أنطون «بإطلاق الفكر الإنساني من كل قيد خدمة للمستقبل»، «الرغبة في المساواة بين أبناء الأمة مساواة مطلقة بقطع النظر عن مذاهبهم ومعتقداتهم ليكونوا جميعاً أمة واحدة»، «ليس من شأن السلطة الدينية التدخل في الأمور الدنيوية لأن الأديان شرعت لتدبير الآخرة لا لتدبير الدنيا».

46. يقول أنطون إن الحاكم مقيد بمجالس شورية والصحيح أنها مجالس أمر (مجالس شورى) لضبط سلوك الحاكم ومعتقداته وآرائه.

47. ينادي محمد عبده بالمستبد العادل على هيئة عمر بن الخطاب، ويرد أنطون بأن المسألة ليست في العدل فقط، وإنما أيضاً في ديمقراطية الحكم وإشراك جميع أبناء الشعب في السلطة.

48. بخصوص الموقف من محمد علي، صدرت في مجلة المنار كتابات تقول إن إخماد محمد علي لحركة الوهابيين كانت ضربة قاضية للإسلام، فيرد أنطون بأن هذا القول يؤخر ولا يقدم، ويصف محمد علي بنابغة الشرق الذي رأى دعوة الوهابين «بمثابة نفخة في الرماد أو صرخة في واد»،
«فإن الأصل لا يقلد مهما كان مقلده مخلصاً».

49. يقول أنطون في نهاية كتابه «متى يصل الناس إلى زمن يقرؤون فيه كتاباً كهذا الكتاب بضجر وملالة، لأنه بمثابة تاريخ قديم لم يبق في الأرض احتياج لموضوعه».

من كتاب «من الاستشراق الغربي إلى الإستغراب المغربي»



إن الخطوة المنهجية التي أنجزها الجابري باتجاه التأسيس لاختراق جدلية الداخل والخارج على صعيد العلاقة بين الثقافة العربية والثقافة اليونانية في العصور الوسطى العربية الإسلامية، يمكن وصفها بالفوضوية.

يقول الجابري: «إذا جاز لنا أن نسمي الحضارة الإسلامية بإحدى منتجاتها فإنه سيكون علينا أن نقول عنها إنها حضارة فقه، وذلك بنفس المعنى الذي ينطبق على الحضارة اليونانية حينما نقول عنها إنها حضارة فلسفة».

يحدد الجابري الثقافة العربية بأنها الإطار المرجعي للعقل العربي، ويعتبرها ذات زمن واحد منذ أن تشكلت إلى اليوم، زمن راكد يعيشه الإنسان العربي اليوم مثلما عاشه أجداده في القرون الماضية، يعيشه دون أن يشعر بأي اغتراب، ذلك لأن العربي حيوان فصيح، فبالفصاحة وليس بمجرد العقل تتحدد ماهيته، تلك الفصاحة التي ترتكز إلى لغة لها خاصيتان أساسيتان: لا تاريخيتها وطبيعتها الحسية.

إذاً حسب الجابري الفصاحة دون العقل جوهر الثقافة العربية ذات الزمن الراكد منذ أن تشكلت إلى اليوم، أما العقل الأوروبي المصوغ بالعلم فهو وراء التقدم في التجربة اليونانية والتجربة الأوروبية الحديثة.

إن معنى «العقل» في اللغة العربية - وبالتالي في الفكر العربي - يرتبط أساساً بالسلوك والأخلاق. ولكن هناك فرق كبير في الاتجاه من المعرفة إلى الأخلاق، والاتجاه من الأخلاق إلى المعرفة. في الحالة الأولى - وهي حالة الفكر اليوناني-الأوربي - تتأسس الأخلاق على المعرفة، أما في الحالة الثانية - حالة الفكر العربي - فتتأسس المعرفة على الأخلاق.

إذاً فالحديث عن عقل أوروبي تحليلي، وعقل عربي اختزالي، شأن من شؤون النزعة المركزية الأوروبية، والتي بات أمرها مفضوحاً على الصعيدين العلمي والإنساني.

يرى الجابري أن «الفلسفة الإسلامية كانت عبارة عن قراءات مستقلة لفلسفة أخرى هي الفلسفة اليونانية، قراءات وظفت نفس المادة المعرفية لأهداف ايديولوجبة مختلفة متباينة».

ويكتب المستشرق الإنكليزي المعاصر ريتشارد فالترز في بحث له بعنوان «يقظة الفلسفة الإسلامية» محدداً الفلسفة الإسلامية تاريخياً كما يلي : «أود إذاً أن أقترح عليكم اعتبار الفلسفة الإسلامية - بغض النظر عن أهميتها الخاصة - كمرحلة لا يمكن إهمالها من تاريخ الحضارة الغربية، قاصدين هنا ذلك التراث الهام الذي ندرك تماماً أنه يتميز عن معتقدات الهند والصين، والذي تقوم قاعدته على مزيج من الأديان - اليهودية والمسيحية والإسلام - وعلى الموقف اليوناني المختلف جذرياً عن الحياة الإسلامية بشكل عمومي، وبشكل خاص الفكر الأفلاطوني والأرسطي منه».

ويتصل بالمسألة المطروحة ما يعلنه الجابري على صعيد العلاقة بين المعرفي والإيديولوجي، من أن الأول (المعرفي) يموت بانتهاء الفلسفة التي أنتجته، في حين يبقى الوجه الآخر منها (الإيديولوجي) مستمراً لمراحل تاريخية تالية، يظل يحياها بصور وكيفيات مختلفة: «إن المحتوى المعرفي في الفلسفة الإسلامية بل في كل فلسفة سابقة لمرحلتنا المعاصرة، يشكل في معظمه مادة معرفية ميتة غير قابلة للحياة من جديد، أما بالنسبة للمضمون الإيديولوجي فالأمر مختلف. إن له بشكل من الأشكال حياة أخرى يظل يحياها على مر الزمن في صور مختلفة». أما السبب الكامن وراء ذلك، فيقدمه الجابري على لسان باشلار: «المحتوى المعرفي علم والعلم له تاريخ، وتاريخ العلم هو- كما يقول باشلار - تاريخ أخطاء العلم، ولذلك يموت المحتوى المعرفي في كل فلسفة موتة واحدة وإلى الأبد»، على عكس الإيديولوجيا التي «زمانها مستقبل، فهي تعيش مستقبلها في حاضرها ولكن في صورة الحلم».

إن الجابري يشكك - في شخص ثنائيته الميتافيزيقية بين المعرفي والإيديولوجي - أولاً في أن التجادل بين الفريقين يتم بحسب الشرط التاريخي المشخص الذي ينموان في سياقه، وثانياً في التراكم المعرفي عبر التاريخ، كما يقف قاصراً عن إدراك أن العلم بقدر ما هو تاريخ أخطائه، هو كذلك تاريخ استمراريته المعرفية التي لا يمكن أن تكون استمرارية أصفار (أخطاء) متوالية مطردة. ومن ثم تغدو القولة العدمية الجابرية التالية زائفة معرفياً، وهي أنه «قد مات المحتوى المعرفي في جميع تلك الفلسفات بميلاد العلم الحديث»، بدعوى أن هذا المحتوى هو عبارة عن «أخطاء متجاوزة على نحو متتابع، وأن الواحد منها لا تاريخ له».

إن السيد الجابري ما يفتأ يعمل على معالجة المشكلات التي يواجهها على نحو تجزيئي وسكوني، فإما هذا وإما ذاك. إن الجابري لم يستطع أن يكتشف السياقات التاريخية والاجتماعية والتراثية والاجتماعية والبنيوية وراء المشكلة التي يتناولها.

ويظهر موقفه هذا واضحاً عندما يحلل الفلسفة العربية الإسلامية ونموها، حيث يقول: «هنا أيضاً يجب أن نتسلح بالنظرة التاريخية، فالفلسفة في الإسلام ليست بضاعة تؤخذ هكذا ككل، بل هي تاريخ بما أنها لحظات من الفكر يلغي بعضها بعضاً، ويتجاوز بعضها بعضاً. فـنا أعتقد أنه سيكون من غير المعقول أن نطلب شيئاً من المفكرين الأوائل ونترك الأواخر في النسق الفلسفي (مثلاً أن نطلب شيئاً من الكندي لأن الفارابي قد تجاوزه، لا يمكن أن نستفيد من الفارابي لان ابن سينا قد تجاوزه، ولا يمكن أن نستفيد من ابن سينا لان ابن رشد قد تجاوزه، ..وهكذا). إذن، ستبقى السلسلة هكذا، وسيبقى ابن رشد في النهاية هو وابن خلدون، وقد تجاوزا المراحل السابقة لهما». إن الجابري يعلن هوسه اللاتاريخي، فهو بعد أن ينعي الفلسفة في المشرق، يؤكد أنها مدعوة إلى البدء من الصفر هناك في المغرب العربي.

إننا أمام نظرة اختزالية، وخطية، وذات غائية قبلية، ومعيارية قبلية. نظرة فقيرة ضحلة مقابل الغنى التاريخي الهائل، وقطعية وثوقية، وذات نزوع تجريدوي مقابل التشخيص داخل المجرد نفسه، إضافة إلى أنها تطيح بالوحدة العمومية للفكر العربي، ومن ضمنه الفلسفة العربية.

الخاتمة:


لقد آمن التيزيني بأن المخرج من الواقع الميؤوس منه لا يتم إلا بالتأسيس للإنسان المشروع، فقد انطلق التيزيني من ذاته إذ تحول هو نفسه لمشروع .

اعتنى التيزيني بالتراث بقدر ما اعتنى بالحاضر، فلم يتناول التراث لكي يعيش بالماضي، بقدر ما أراد أن يصنع قطيعة أبستيمولوجية معه، تلك القطيعة التي تؤسس لوضع الإنسان العربي على مصافي المعاصرة.

حفر التيزيني بالتراث وعمق فيه وكشف آليات فعله في الحاضر المغترب عن ذاته، لذلك دك حصونه لكي تؤسس العقلانية على أرضية القطع مع كل ما هو غير عقلاني في التراث.

إن التيزيني رائد بحق من رواد المفكرين النهضويين الذين تحسسوا عمق الأزمة التي تحيط بالوطن العربي من كل الجوانب، فشهر قلمه لكي يفضح كل ماهو غير عقلاني سواءً على صعيد السياسة أو الفكر أو التراث.