الأمير عبد القادر الجزائري

الأمير عبد القادر الجزائري

نجم الأسبوع

الخميس، ١١ يونيو ٢٠١٥

مقدمة

وُلِدَ نجمٌ، وحطَّ ترحالُه في سماء دمشق حيث تألّقَ نوره، كقوس قزح الذي خيَّمَ فوق مدينتنا الغالِيَة، وكانت أطيافه في علم الدين، والشعر، والتصوف، والفلسفة، والسياسة، والجهاد، قد تجمّعَت كلها في ذاته، كالنور الذي يتألف من سبعة أطياف.

سيرته

ولادته

وُلِدَ في 6 أيلول (سبتمبر) عام 1808 في قرية القيطنة بوادي الحمام من منطقة معسكر المغرب الأوسط في الجزائر، ثم انتقل والده إلى مدينة وهران.

نسبه

يعود نسبُ هذا البيت العربي المسلِم إلى الحسن بن علي بن أبي طالب من أهل المدينة المنوّرَة. كان جدُّهُم الأول إدريس الحَسَنِي إلى جانِب ابن الزبير في مكة المكرمة، ثم هاجر مع أسرته الشريفة إلى مصر، ثم إلى المغرب العربي، واستقروا في قبيلة صنهاجة البربرية المسلمة، المنتشِرَة على امتداد المغرب العربي، حيث اُستُقبِلَ بما يليق بمنزلة أهل بيت رسول الله. تزوج الجد من ابنة رئيس القبيلة وتدعى كنزه، وعظُمَت منزلته ليؤسّسَ لأبنائه ملكاً في المغرب (الإدريسيون أو الأدارسة).

وَصَلَ الجد المباشر للأمير عبد القادر الذي تسمّى على اسمه، من المغرب إلى الجزائر واستقر في منطقة غريس، وأسّسّ في منطقة القيطنة زاويته الصوفية، ويُدعَى في الجزائر وعند أهل الطريقة «سيدي قاده» تحبباً، ولايزال ضريحه مزاراً شريفاً، على الطريقة القادرية وشيخها الإمام الأعظم عبد القادر الجيلاني الذي عاش ومات في بغداد.

والداه

والِده الأمير محي الدين، ووالِدته واسمها لالا خيرة من آل أبي طالب. تابع الابن محي الدين الحسني سيرة أبيه العطرة في الزاوية، وكان رجلاً محبوباً طيّبَ القلب، وعليه إجماع القلوب، وله أتباع ومريدون كثر.

على زمنه دخل الفرنسيون العاصِمَة الجزائر الواقعة تحت سيطرة العثمانيين الذين استسلموا سريعاً ثم سَقَطَت المدن الجزائرية الساحلية تباعاً وبسهولة.
اجتمَعَت القبائل في الداخل الجزائري، في سهل غريس، وأعلنَت الجهاد، وتم تنصيب الأمير محي الدين أميراً للجهاد.

دراسته

تلقى الشاب عبد القادر مجموعة من العلوم فدرس الفلسفة (رسائل أخوان الصفا، وأرسطوطاليس، وفيثاغورس)، ودرس الفقه والحديث (صحيح البخاري ومسلم) وقام بتدريسهما، كما تلقّى الألفية في النحو، والسنوسية، والعقائد النسفية في التوحيد، وإيساغوجي في المنطق، والإتقان في علوم القرآن.

رحلاته والبَرَكات التي نالها

سافر الأمير عبد القادر بصحبة والده في جولة علمية إلى الديار الحجازية ودمشق وبغداد حيث لقِيَ الشيوخ والعلماء، فنال البرَكَة الشاذلية في مكة المكرمة، والبركة النقشبندية على طريق الحج. أقام في ضيافة الشيخ محمد زكريا قاضي تدمر عدة أشهر، في طريقه إلى بغداد. سلك الطريقة القادرية، ولقِيَ الشيوخ فيها والعلماء، وعاد مع والده إلى الجزائر يحمل علوم المشارقة وآدابهم.

جهاد الأمير عبد القادر

كان الأمير عبد القادر شاباً في أول عشرينياته، ويرافق والده، وبعد مرور سنتين اعتذر الأمير محي الدين عن إمارة الجهاد لكِبَر سنه، وطلَبَ أن يُعَيّنَ بديلٌ عنه تُجْمِع عليه الناس ليعود هو مجاهداً. قرّرَ قادة المجاهدين وشيوخ العشائر تولية ابنه المجاهد الأمير عبد القادر أميراً للجهاد خَلَفاً لوالِدِه. وبويِعَ الأمير الشاب في عمر الخامسة والعشرين أميراً للجهاد، وكان أول المبايعين والده تحت شجرة اللبلاب التي لا تزال إلى يومنا هذا، ثم الموجودون جميعاً، بما عُرِفَ بالبيعة الصغرى. أعلن الأمير مدينة معسكر عاصمته، وهي الواقعة على هضبة مطلة على بداية سهل غريس، وفيها تمت البيعة الكبرى في مسجد معسكر، من القبائل جميعها.

زواج الأمير

تزوج الأمير من آل أبي طالب من آباء عمومته وصافي نسبه الشريف لالا زهره، وأنجب أولاداً وبناتاً.

محاربته للفرنسيين

حارَبَ الفرنسيين سبعة عشر عاماً، ثم حوصِرَ في عاصمته المتنقلة الزمالة، وهي عبارة عن مركز يقيم فيه الأمير وأسرته، ثم الدائرة الأقرب، وفيها خيام رجال الحكم، وأصحاب الرأي، ثم الدائرة الثانية، وفيها خيام آل بني هاشم من أقرباء الأمير الخلص، ثم الدائرة الثالثة والرابعة.
ويجسد هذا الشكل فكر المتصوف الشيخ محي الدين بن عربي في نظرته للكون.

استسلام الأمير

كان الرأي بعد أن طالَ الحصار، أن يسلّم الأمير نفسه بشروط، منها ألا يسلم سيفه إلا لابن الملك الفرنسي الدوق دوفال، الذي عُيِّنَ حاكماً على الجزائر، وهكذا كان. وقد تعهد الدوق دوفال بتلبية كامل شروط الأمير للتسليم، ومنها الانتقال إلى دولة إسلامية، وأراد الأمير أن تكون مصر، ولكن الخديوي رفض، فطلب أن تكون تركيا، ووافق الفرنسيون على ذلك خطياً، ولكنهم كانوا يدبرون أمراً آخر.

عندما وصل الأمير وأسرته وحاشيته إلى مرفأ تولون، طُلِبَ منهم النزول إلى اليابسة لحين تزويد السفينة بما يلزم وصيانتها. وعلى اليابسة أُبلِغَ بأنه معتقل ومن معه. فأرسلوه إلى فرنسا، وكان ذلك في عام 1847، وحُدِّدَت إقامته بقصر بو القريب، ثم نُقِلَ الأمير إلى قصر أمبواز بعد فترة، وجَرَت عدة محاولات لإقناعه بقبول الاستقرار نهائياً في فرنسا.


نابليون الثالث يزور عبد القادر الجزائري في منفاه

نابليون الثالث

في تلك الأثناء كان نابليون الثالث زعيماً في المعارضة الفرنسية، وكان يقول أن فرنسا لم تحسِن معاملة الأمير، وأنها خانته وحَنَثَت بوعودها. ثم اُنتُخِبَ نابليون الثالث رئيساً للجمهورية الفرنسية، ثم صار إمبراطوراً، وقرر زيارة عدة مناطق فرنسية كمخرَج دبلوماسي لزيارة الأمير في قصر أمبواز حيث حُدِّدَت إقامته بالقصر وحدائقه، فاعتبر الأمير نفسه سجيناً ولم يغادر القصر.

وفي الزيارة قال له الإمبراطور: «أنا أعتذر عن تصرفات فرنسا التي لم تفِ بوعودها لك، وأنت حر»، ودعاه إلى زيارة باريس، حيث اُستُقبِلَ بحفاوة جماهيرية ورسمية بالغة، وزار كنيسة نوتردام، ولاشك أن محبة الجمهور الفرنسي للأمير تعود إلى قصص التسامح وحسن المعاملة التي كان يرويها الأسرى الفرنسيون العائدون من حرب الجزائر عن الأمير الكبير. على أثر ذلك أهداه نابليون الثالث سيفاً وقدم له راتباً شهرياً ومبلغاً باهظاً من المال، وسمح له بالسفر إلى الشرق سنة 1852.

وصول الأمير إلى تركيا

كانت محطة الأمير الأولى خارج فرنسا هي تركيا حيث توجّهَ إلى الآستانة، وحصل له الإكرام والاحتفال من خليفة المسلمين السلطان عبد المجيد، وأنعم عليه بدار في مدينة بروسه الواقعة بجانب اسطنبول والمشهورة بمياهها المعدنية. أقام الأمير في بروسه حوالي السنتين إلى أن توالَت الزلازل على بروسه سنة 1855.

وصوله إلى دمشق

على أثر الزلازل قرر الأمير عبد القادر مغادرة بروسه نهائياً، فاستقر في دمشق سنة 1856، واُستُقبِلَ الأمير بحفاوة، واشترى دار الشيخ محي الدين بن عربي، وسكن فيها ووسعها، وكانت مرتبة الأمير الصوفية الأعلى «الخرقة الأكبرية»، ولاتزال هذه «الخرقة الأكبرية» من ممتلكات العائلة.

في دمشق كان الأمير يقضي أيامه في القراءة والصلاة وحلقات العلم، وجمع مكتبة ضخمة، واشتهر بالكرم ولطف المعشر، وحب العلم وأهله.

تولّعَ الأمير بكتب الصوفية، وخصوصاً مؤلفات الشيخ محي الدين بن عربي، وكان له اختصاص بمعرفة تاريخ الإسلام، واشتهر بالفصاحة، وشدة البأس والفروسية. وفي دمشق كتب الأمير كتابه الصوفي الوحيد «المواقف» وضمّنَه آراءه وسيرته في التصوف، وقام بالتدريس في الجامع الأموي.

فتنة طائفية في الشام

بعد أربعة أعوام من استقرار الأمير في دمشق حدَثَت فتنة في الشام عام 1860، واندلعت أحداث طائفية دامية، ولعب الزعيم الجزائري دور رجل الإطفاء بجدارة، ففتح بيوته للاجئين إليه من المسيحيين كخطوة رمزية وعملية على احتضانهم، وهي مأثرَة لا تزال تُذكَر له إلى اليوم إلى جانب كفاحه ضد الاستعمار الفرنسي في بلاده الجزائر.

في هذه الفتنة التي وقَعَت في دمشق، وذهب ضحيتها أكثر من ثلاثة آلاف مسيحي، استطاع الأمير عبد القادر أن ينقذ أكثر من خمسة عشر ألفاً من المسيحيين الذين توزعوا بين منازله التي غصّت بهم، حتى أنه أخذ مفاتيح قلعة دمشق ووضَعَ بها كافة مسيحيي البلد، وقدّمَ لهم الطعام والشراب على حسابه الخاص لمدة خمسة عشر يوماً، ناهيك عن إرساله لجنود من المغاربة لحمايتهم، وكان لذلك دور كبير في وقف الفتنة وإطفاء نارها.

لم يكن تصرف الأمير عبد القادر في حماية المسيحيين إلا التزاماً بدينه الذي يقضي على المسلمين حماية أهل الذمة الذين يقطنون في بلاد المسلمين، والأمير عبد القادر متفقه في الدين، ويعلم حدود ما أنزل الله، ويعرف واجب المسلمين نحو أهل الذمة، وهو توفير الأمن والحماية لهم، وصون دمائهم وأموالهم وأعراضهم وكنائسهم، وكل ما تم الاتفاق عليه في عقد الذمة.

تكريمه

كان لموقف الأمير عبد القادر الإسلامي الإنساني صدى في الأوساط العالمية، فأتته رسائل شكر مصحوبة بالأوسمة، وشارات الفخر والتقدير من جميع ملوك ورؤساء الدول العالمية، ونوهَت به كبريات الصحف العالمية وأشادت بخصاله الكريمة، ومواقفه الإنسانية، ولعل أهم النياشين والميداليات التي نالها كانت من نابليون الثالث وأبراهام لينكولن الرئيس الأميركي.

الوسام العثماني الأول

توجه الأمير سنة 1881 إلى الآستانة لزيارة السلطان عبد العزيز، فاجتمع به وأهداه الوسام العثماني الأول، ثم توجه إلى باريس ولقِيَ نابليون الثالث.

وفاته ووصيته

تُوُفّيَ بهدوء في قصره الصيفي في دمّر من ضواحي دمشق في ليلة السبت 24 أيار (مايو) سنة 1883، وكان قد أوصى بدفنه إلى جوار مقام الشيخ محي الدين بن عربي، ولكنه دُفِنَ تحت القبة إلى جوار الشيخ، ولا يزال الضريح قائماً إلى اليوم في مكانه، ولكن الرفاة نُقِلَت بعد استقلال الجزائر أوائل الستينات.


ترميم قصر الأمير الصيفي

بالاتفاق بين المفوضية الأوروبية والإدارة المحلية والبيئة، وضمن برنامج تحديث الإدارة البلدية، جرى تأهيل بيت الأمير عبد القادر الجزائري الواقع في ضاحية دمر غرب دمشق، والقصر هو مصيَف كان للأمير في الربوة على ضفاف نهر بردى، وسط روضة من الأشجار الوارفة.

يعود بناء القصر، كما أفادَنا المهندس نزار مرادمي الذي نفذ الترميم، إلى حوالي 140 سنة، سكنه الأمير عبد القادر مع عائلته عام 1871، ثم سكنه أبناء الأمير وأحفاده، وكان آخرهم الأمير سعيد الجزائري، رئيس مجلس الوزراء في عهد حكومة الملك فيصل بعد الحرب العالمية الأولى. وصار القصر مهملاً مهجوراً، شبه متهدم منذ عام 1948. والقصر اليوم مملوك لصالح محافظة دمشق لأغراض ثقافية وسياحية. تبلغ مساحة القصر المؤلف من طابقين 1832 متراً مربعاً. ويقول المهندس نزار، إن العمل تم في القصر ومحيطه بعد إزالة البناء العشوائي، وتم افتتاح القصر رسمياً في أيار (مايو) سنة 2008، وضم القصر بعد ترميمه قاعة كبيرة خاصة بتراث الأمير عبد القادر بالتعاون مع السفارة الجزائرية بدمشق التي عبرت عن استعدادها لتزويد القصر بكل ما يرتبط بتراث هذا المجاهد الذي يكنّ له الجزائريون كما السوريون والعرب كل التقدير، ليس لكونه مجاهداً ومصلحاً وحسب، بل أيضاً لكونه عالماً وفقيهاً وشاعراً وداعية دؤوباً للتآخي بين الشعوب.

وقال المهندس نزار مرادمي أن عملية الترميم ارتكزت على بعدين ثقافي وبيئي. ويراد من ترميم القصر تحويله إلى بيت للثقافة يزوره الناس مع ما يحمله اسم صاحب القصر من دلالات، والبعد الآخر سياحي، حيث تم إنشاء حديقة بيئية أمام القصر وفي محيطه.

ومن الجدير بالذكر أن هذا القصر لم يكن المنزل الوحيد للأمير، ولم يكن محل إقامته الدائم. فمن المعروف أن منزله هو الذي منحته إياه السلطات العثمانية في حي العمارة بدمشق القديمة والمعروف بحارة النقيب، وهو الحي الذي ضمّ آل الجزائري حتى اليوم.


جائزة في التسامح

منحَت مؤسسة الأوسيمي السويسرية غير الحكومية في 18 تشرين الثاني (نوفمبر) 2010 جائزتها السنوية الثالثة في التسامح إلى اسم الأمير الجزائري الراحل عبد القادر الجزائري «تقديراً لدوره كأحد أبرز مؤسسي القانون الإنساني الدولي وحقوق الإنسان وثناءً على مساعيه الحميدة لنشر روح التسامح في فترات عصيبة من التاريخ».

مؤلفاته

1) كتاب «المواقف»، من 3 أجزاء، دمشق: دار اليقظة العربي، ط2، 1966. كتبه في دمشق، وفيه آراؤه وسيرته بالتصوف، مملوء بالقول بوحدة الوجود على طريقة ابن عربي الفلسفية، قبس فيه كثيراً من آراء والده في كتاب «إرشاد المريدين».

2) كتاب «المقراض الحاد لقطع لسان منتقِص دين الإسلام بالباطل والإلحاد»، تحرير: محمد بن عبد الله الخالدي المغربي، بيروت، دار مكتبة الحياة، دون تاريخ نشر.

3) كتاب «ذكرى الغافل وتنبيه الجاهل» في الحكمة والشريعة، تحقيق: ممدوح حقي، بيروت، دار اليقظة العربية، 1966. وهو الأطروحة التي قدّمَها للمجمع العلمي الفرنسي في أخريات سنيه، فقُبِلَ بها عضواً مراسلاً، ترجمها إلى الفرنسية غوستاف ديغا عام 1858، وهو القنصل الفرنسي بدمشق آنذاك. يحتوي الكتاب على ثلاثة أبواب «في فضل العلم والعلماء» وبه تعريف العقل وتكملة وتنبيه وخاتمة، وفي «إثبات العلم الشرعي» يتحدث فيه عن إثبات النبوة واحتياج كافة العقلاء إلى علوم الأنبياء، وفصل ثالث «في فضل الكتابة».

4) كتاب «نزهة الخاطر» وهو في الشعر، ونشره زكريا عبد الرحمن صياح تحت عنوان «ديوان الأمير عبد القادر الجزائري» سنة 1978.

آثاره الشعرية

وتنقسِم إلى قسمين:
1) الديوان: وهو أكبر آثاره الشعرية. وهم لم يُنظَم في فترة زمنية معيّنَة ولا في بقعة جغرافية معينة. بل نُظِمَ على فترات متقطعة، ورافق حياة الأمير منذ شبابه في أرض الجزائر إلى وفاته في دمشق.
2) القصائد الشعرية الواردة في مقدمة كتابه الصوفي الشهير المعروف باسم «المواقف»، وقد وردت بعض هذه القصائد في الديوان.

الديوان:
لا يبدو تقسيم الديوان إلى أنواع خمسة هي الفخر، والغزل، والمساجلات، والمناسبات، والتصوف، تقسيماً صحيحاً ودقيقاً. فلا خلاف في أنواع الفخر والغزل والتصوف. ولكن الخلاف في نوعي المساجلات والمناسبات، فما أطلَقَ عليه اسم «فن المساجلات» هو في حقيقة الأمر إما مدح، أو تهنئة، أو عتاب، أو شكوى، إذ ليس هنالك من فن أدبي يسمّى المساجلات، فهذه تسمية عامة تحتوي مجموعة فنون أدبية. أما ما أطلقَ عليه اسم «فن المناسبات» فهو في حقيقة الأمر إما مدح، أو وصف، أو مناجاة، أو توسّل، وما قيل في المساجلات يُقَال في المناسبات.

ومن قصائد التصوف وردَت في الديوان هذه القصيدة «أنا الحب والمحبوب والحب جملةً»:
أنا
الحب والمحبوب والحب جملةً

عن الحُبّ، ما لي، كلما رمت، سلوانا ..|.. أرى حشو أحشائي، من الشوق، نيرانا؟!
لواعج، لـو أن البحـار جميعها ..|.. صببن، لكان الحرُّ، أضعاف ما كانـا
تئج، إذا ما نجْـدُ هبّ نسـيمُها ..|.. وتذكـو بـأرواح، تناوح، ألوانـا
فلو أن ماء الأرض، طراً، شربته ..|.. لما نالني ريٌّ، ولا زلتُ ظمآنـا
وإن قلتُ – يوماً – قد تدانت ديارنا ..|.. لأسلو عنهم، زادني القربُ أشجانا
فما القربُ لي شافٍ ولا البعد نافع ..|.. وفي قربنا عشق، دعاني هيمانا
وفي بعدنا شوق، يقطّع مهجتـي ..|.. كتقطيع بيت الشعر، للنظم، ميزانا
فيزداد شـوقي، كلما زدتُ قربةً ..|.. ويزداد وجدي، كلما زدت عرفانا
فيا قلبي المجروح، بالبعد واللقا ..|.. دواك عزيز، لست تنفكُّ ولهانا
ويا كبدي ذوبي أسىً، وتحرّقـاً ..|.. ويا ناظري! لا زلتُ، بالدمع، غرقانا
أسـائل نفسي، فـإني ضللتُهـا ..|.. وكان جنوني، مثل ما قيل: أفنانا
أسائل من لاقيتُ عنّي، والهـاً ..|.. ولا أتحاشـاهم: رجالاً وركبانا
أقول لهم: من ذا الذي هو جامعي ..|.. ويأخذني عبداً، مدى الدهر، حلوانا
وأسـأل عن نجدٍ، وفيه مخيّمي ..|.. وأطلب روض الرقمتين، ونعمانا
منازل كانت لي: مصيفاً ومربعاً ..|.. غداة، لها أدعى، صبياً، وشيبانا
ومن عجبٍ، ما همتُ إلا بمهجتي ..|.. ولا عشِقَت نفسي سواها، وما كانا
أنا الحبُّ والمحبوب والحبّ جملةً ..|.. أنا العاشق المعشوق، سراً وإعلانا

القصائد الأخرى:
وردَت هذه القصائد والمقطوعات في نهاية مقدمة كتاب «المواقف» وقد بلغ عددها تسع عشرة قصيدة ومقطوعة: ثلاث منها وردَت في الديوان، والباقية وردَت في مقدمة كتاب «المواقف» فقط. تتميز هذه القصائد والمقطوعات بأنها تنتمي إلى فن أدبي، وهو فن التصوف.

الآثار النثرية:

1) المقراض الحاد لقطع لسان الطاعن في دين الإسلام من أهل الباطل والإلحاد:
هذا الكتاب بما فيه من حجج دامغة وأدلة منطقية ساطعة، يثبت وجود الخالق العظيم لهذا الكون الهائل، ويبرهن مدى صحة وصدق الكتب السماوية.

رتب الأمير رسالته على مقدمة، وثلاثة أبواب:
أما المقدمة: ففي الكلام على العقل وما يتعلق به.
وجعل الباب الأول: في إثبات الألوهية
والباب الثاني: في إثبات النبوة مع الرسالة.
أما الباب الثالث: وهو موضوع الرسالة، ففيه بيان ما ورد في الشرع من «وجوب الوفاء، والأمر به، وترك الغدر، والنهي عنه، وما يتعلق بذلك، كالصدق والكذب».

ويعلل الأمير ترتيب الأبواب على الشكل السابق بطريقة عقلية منطقية إذ أنه يعتبر أن «ترتيب هذه الرسالة، وضعاً، هو بحسب الترتيب عقلاً لأن إثبات الألوهية، مرتب على وجود العقل. وإثبات النبوة والرسالة مرتب على إثبات الألوهية. وبيان ما يحمد ويذم، من: الأقوال والأفعال، والصفات، مرتب على إثبات النبوة والرسالة».

2) ذكرى العاقل وتنبيه الغافل:
وهي رسالة مطولة أيضاً، تتضمن مسائل جمة في مختلف العلوم. كالتاريخ والفلسفة والدين، والإصلاح الاجتماعي، والأخلاق. وهي رسالة في الحكمة والشريعة وتوافقهما، ومحاولة إيجاد صلة بينهما، واقتران إحداهما بالأخرى وائتلافها نصاً وروحاً.

قدم الأمير هذه الرسالة إلى المجمع العلمي الفرنسي في باريس بعد أن انتهى من تأليفها يوم الاثنين 31 أيار 1854م.

وقد ألف الأمير رسالته خلال إقامته في بروسه والتي امتدّت ما يقرب من السنتين والنصف (1853 – 1855م) وهذه الرسالة هي الثانية التي ألفها الأمير خارج أرض الوطن بعد «المقراض الحاد» التي ألفها خلال إقامته أسيراً في أمبواز.

عرض الأمير في مقدمته مضمون رسالته، ليضع القارئ أمام الموضوع بجملته، فيكون على بيّنة منه قبل الإقدام عليه. وهذه الطريقة في التأليف، سادَت أواخر القرون الوسطى وانتشرت فيما بعد.

وقد رتب الرسالة على مقدمة وثلاثة أبواب، وخاتمة، وجعل في كل باب فصلاً، وتنبيهاً، وخاتمة.
أما المقدمة، فحث فيها على النظر، وذم التقليد.
وتحدث في الباب الأول، عن فضل العلم والعلماء.
وفي الباب الثاني، عن العلم الشرعي.
وفي الباب الثالث، عن فضل الكتابة.
وذكر في خاتمة الرسالة انقسام الناس بحسب العلوم والمعارف واختلاف المذاهب.
ومما جاء في كتابه «ذكرى العاقل وتنبيه الغافل» تعريف رائع للعلم والعلماء جاء فيه:


رفات عبد القادر الجزائري على مدفع عسكري بدمشق
أثناء نقل الرفات إلى الجزائر

فصل العلم والعلماء:
«اعلموا: أن الإنسان، من حيث حصوله، في الحيز والمكان، فجسم كسائر الأجسام، ومن حيث يتغذى وينسل فنبات، ومن حيث يحس، ويتحرك بالاختيار، فحيوان، ومن حيث صورته وقامته، فكالصورة المنقوشة على الحائط. وكما أن الفرس، يشارك الحمار في قوة الحمل ويختص عنه بخاصية الكر والفر وحسن الهيئة، فيكون الفرس مخلوقاً لأجل تلك الخاصية. فإن تعطلت منه، نزل إلى مرتبة الحمار، فكذلك الإنسان، يشارك الجمادات والحيوانات في أمور، ويفارقها في أمور، هي خاصيته، وبها شرفه، فما حصل له الشرف بعظم شخصه، فإن الفيل أعظم منه، ولا بشجاعته، فإن الأسد أشجع منه، ولا لأكله، فإن الجمل أوسع منه بطناً، ولا لجماعه، فإن أخس العصافير أقوى منه جماعاً، وإنما شرف الإنسان وخاصيته التي يتميز بها عن جميع الموجودات، هي العلم، وبها كماله. إذ كمال كل شيء، إنما يكون بظهور خاصيته التي امتاز بها عن غيره ونقصانه هو خفاء تلك الخاصية، فبقدر ظهور تلك الخاصية يطلق عليه اسم الكامل، وبحسب سترها فيه، يخص باسم الناقص. مثلاً الخاصية، التي امتاز بها الفرس، وهي الحقيقة الفرسية، أن يكون شديد العدو، ومعتدل القوائم في الطول والقصر، مدركاً لإشارة الراكب من: إرادة الكر، والفر، أو الهملجة، أو الحضر أو التقريب، فإذا ظهرت هذه الخاصية قيل: فرس كامل. ثم الإعزاز والإهانة تابعان للكمال والنقصان. وخاصية الإنسان، هي معرفة حقائق الأشياء، على الوجه الذي هي عليه، بحيث يرتفع عن بصيرته حجاب الشك. ويتيقن حقائقها، مكتشفة له. وبكمال هذه الخاصية ونقصانها، يفضل بعض أفراد الإنسان بعضاً، إلى أن يعد واحد بألف.

ولم أر أمثال الرجال تفاوتت ..|.. إلى المجد، حتى عد ألف بواحد

والناس ألف منهم كواحد ..|.. وواحد كالألف إن أمر عنا

ولا شيء أقبح من الإنسان، مع ما فضله الله به، من القدرة، على تحصيل الكمال بالعلم، أن يهمل نفسه، ويعريها من هذه الفضيلة.

ولم أر في عيوب الناس شيئاً ..|.. كنقص القادرين على الكمال

ولما كان العلم، هو كمال الإنسان، كان كل إنسان، محباً للعلم بالطبع، ويشتهيه ويفرح إذا نسب إلى العلم، ولو قليلاً، ولو يعلم أن الذي وصفه بالعلم، كاذب. ويحزن إذا دفع عن رتبة العلم، ويلتذ الإنسان بالعلم، لذاته ولكماله، لا لمعنى آخر، وراء الكمال. ولا يخفى على أهل العلم: أنه لا لذة فوق لذته، لأنها لذة روحانية، وهي اللذة الخالصة من جميع الشوائب والمكدرات. وأما اللذة الجسمانية، فهي، عند التحقيق، دفع ألم. إذ لذة الأكل دفع ألم الجوع ولذة الجماع، دفع ألم امتلاء أوعية المني به، بخلاف اللذة الروحانية، فإنها ألذ وأشهى ولهذا كان بعض العلماء يقول، عندما تنحل له مشكلات العلوم: أين الملوك وأبناء الملوك من هذه اللذة، ومن المعلوم أن اللذات، بالإضافة إلى الإنسان، من حيث اختصاصه بها، ومشاركته لغيره، ثلاثة أنواع، عقلية وجسمانية مشتركة مع بعض الحيوانات، وجسمانية مشتركة مع جميع الحيوانات.

أما العقلية: فالعلم بحقائق الأشياء، إذ ليس يستلذ بها السمع والبصر والشم والذوق ولا البطن، وإنما يستلذ بها القلب لاختصاصه بصفة، يعبر عنها بالعقل، وهذه اللذة، أقل اللذات وجوداً، وهي أشرف اللذات. أما قلتها، فلأن العلم لا يستلذ به إلا عالم. وما أقل أهل العلم والحكمة، وما أكثر المتسمين باسمهم، والمرتسمين برسمهم. وأما شرفها، فلأنها لازمة لا تزول أبداً، لا في الدنيا، ولا في الآخرة، ولا تمل، والطعام يشبع منه فيمل، وشهوة النكاح يفرغ منها فتستثقل، والعلم والحكمة، لا يتصور قط أن تمل وتستثقل، والمال يسرق أو يحرق، والولاية يعزل عنها، والعلم لا تمتد إليه أيدي السراق بالأخذ، ولا أيدي السلاطين بالعزل، فيكون صاحبه في روح الأمن أبداً، وأما قصور أكثر الخلق، عن إدراك لذة العلم، فلفساد أمزجتهم، ومرض قلوبهم، لاشتغالهم باتباع الشهوات، واستيلائها على عقولهم، فإن القلب إذا كان صحيحاً لا يستلذ إلا بالعلم، فإذا كان مريضاً بسوء العادات استلذ بغيره، كما يستلذ بعض الناس أكل الطين وكالمريض الذي لا يدرك حلاوة العسل ويراه مراً.

ومن يك ذا فم مر مريض ..|.. يجد مراً به الماء الزلالا

وإما لقصور فطنتهم، إذ لم تخلق لهم الصفة، التي بها يستلذ العلم كالطفل الرضيع الذي لا يدرك لذة الطيور السمان، ولا لذة العسل، ولا يطلب إلا اللبن.

الثانية: لذة يشارك الإنسان فيها بعض الحيوانات، كلذة الرياسة والغلبة والاستيلاء، وذلك موجود في الأسد، والنمر، وبعض الحيوانات.

الثالثة: لذة يشارك الإنسان فيها جميع الحيوانات، كلذة البطن والفرج، وهذه أكثر اللذات وجوداً وهي أخسها، ولذلك اشترك فيها كل ما دب وتحرك، حتى الديدان والحشرات.

ولأجل اللذة، والكمال الذي في العلم، صار للإنسان ميل طبيعي إلى العلم غالباً، لكن من الناس من ساعده فهمه ومنهم من لم يساعده. وأما عدم الميل إلى العلم، فلأمر عارض كفساد الطبع، أو بعد المكان عن الاعتدال. والمقصود من هذا معرفة فضيلة العلم ونفاسته، وما لم تفهم الفضيلة في نفسها، لم يمكن أن يعلم وجودها، صفة للعلم، أو لغيره من الخصال، فلقد غلط من طمع أن يعلم أن فلاناً حكيم، وهو لم يعرف معنى الحكمة وحقيقتها، فالفضيلة، مأخوذة من الفضل، وهو الزيادة، فإذا تشارك شيئان في صفة، واختص أحدهما بمزيد يقال: فضله، وله الفضل عليه، مهما كانت زيادة فيما هو كمال ذلك الشيء، كما يقال: إن الفرس، أفضل من الحمار بمعنى أنه يشاركه في قوة الحمل ويزيد عليه بقوة الكر والفر وشدة العدو، وحسن الصورة، فلو فرض حمار اختص بسلعة زائدة على ظهره لم يقل: إنه أفضل لأن السلعة زيادة في الجسم، ونقصان في المعنى وليست من الكمال. والحيوان، مطلوب لمعناه، وصفاته لا لجسمه، فإذا فهمتم هذا لم يخف عليكم: أن العلم فضيلة، إن أخذتموه بالإضافة إلى جميع الحيوانات، أو أخذتموه بغير إضافة فإنه فضيلة وكمال، على الإطلاق، وبه شرف العلماء والحكماء، وهو المرغوب فيه، المطلوب لذاته، لا لغيره...».

وكذلك أيضاً في تعريفه للقوى الأربع:
تكملة القوى الأربع:
«قوة العقل، هي إحدى القوى الأربع، التي إذا اعتدلت في الإنسان يكون إنساناً كاملاً. وهي: قوة العقل، وقوة الشجاعة، وقوة العفة، وقوة العدل. فقوة العقل، هي حالة للنفس، بها يدرك الصواب من الخطأ، في جميع الأحوال. والعدل، حالة للنفس، بها يسوس الغضب والشهوة، ويحملها على مقتضى العقل، في الاسترسال والانقباض. والشجاعة، كون قوة الغضب، منقادة للعقل، في إقدامها وإحجامها. والعفة، تؤدب قوة الشهوة بتأديب العقل والشرع. فمن اعتدال هذه القوى الأربع، تصدر الأخلاق الجميلة كلها. فمن اعتدال قوة العقل، يحصل حسن التدبير، وجودة الذهن وثقابة الرأي، وإصابة الظن، والتفطّن لدقائق الأمور. ومن إفراطها المذموم، تحصل الصفات المذمومة، والأخلاق القبيحة، مثل: المكر، والحقد، والخداع، والدهاء، والحيلة. ومن تفريطها المذموم أيضاً، تصدر الصفات المذمومة، مثل: البَلَه، والغباوة، والغمارة، والحمق، والجنون. وأعني بالغمارة: قلّة التجربة في الأمور، مع سلامة التخيّل. والجنون، عبارة عن اختلال القوة العقلية المميّزة بين الأمور الحسنة والقبيحة، المدركة للعواقب، بأن لا يظهر أثرها، وتتعطل أفعالها، إما بسبب نقصان، خُلِقَ عليه، وإما بسبب خلْطٍ، أو آفة. والفرق بين الحمق والجنون: أن الأحمق مقصوده صحيح، ولكن سلوكه الطريق، فاسد. فلا تكون له رويّة صحيحة، في سلوك الطريق، الموصل إلى الغرض. وأما المجنون، فإنه يختار، ما لا ينبغي أن يُختار، فيكون أصل اختياره فاسداً. وأما الشجاعة، فيصدر عنها الكرم، والنجدة، والشهامة، وكسر النفس، والاحتمال، والحلم، والثبات، وكظم الغيظ، والوقار والتودّد إلى الناس.. وأمثالها. وهي صفات محمودة. وأما إفراط هذه القوة – وهو مذموم – فيحصل منه التهوّر، والصلَف، والبذخ، والتكبر، والعجَب، والاستشاطة. وأما تفريطها – وهو مذموم أيضاً – فيصدر منه المهانة، والمذلّة، والجزع، والخساسة، وصغر النفس، والانقباض عن تناول الحق اللازم. وأما العفة، فيصدر منها السخاء، والحياء، والصبر، والمسامحة، والقناعة، واللطافة، والمساعدة، والظرف، وقلة الطمع. وأما خروجها عن الاعتدال، إلى الزيادة والنقصان، فيحصل منه الحرص، والشره، والوقاحة، والتبذير، والتقتير، والرياء، والملق، والشماتة، والتذلل للأغنياء، واحتقار الفقراء، وغير ذلك. فأمهات الفضائل هي هذه الأربعة: العلم، والشجاعة، والعفة، والعدل. فمن جَمَعَ هذه الأربعة، على الكمال استحق أن يكون بين الخلق، ملِكاً مطاعاً، يرجع الخلق كلهم إليه ويقتدون به».

3) المواقف في التصوف والوعظ والإرشاد:
المواقف كتاب في ثلاثة مجلدات في نحو خمسمئة وألف صفحة من القطع الكبير. يشتمل على اثنين وسبعين وثلاثمائة موقفاً. موضوعه التصوف والفكرة الصوفية، على غرار «الفتوحات المكية» للشيخ محي الدين بن عربي. وفيه مباحث صوفية، وتفسير آيات قرآنية، وشرح أحاديث نبوية، وبسط للعقيدة الإسلامية.

وقد تبين لنا سابقاً أن الكتاب عبارة عن أحاديث الأمير، ودروسه ومواعظه التي كان يلقيها على الطلاب والعلماء. ولهذا فإن الكتاب لم يُؤلّف في فترة زمنية قصيرة معيّنة، ولكنه أُلِّفَ في فترة طويلة متباعدة. ولذا يمكننا ترجيح تأليف الكتاب بين سنتي 1856 و1883م، وهي الفترة الأخيرة من حياة الأمير.

ومما جاء فيه عن التوحيد نقرأ فيه:
الموقف السادس
ذوق التوحيد:
«الحق يقول: أنا. والعبد لجهله يقول أنا. والعبد يقول: هو لشهوده البعد من ربه. فلما تنفس صبح العناية وأشرقت الجهات الست والحواس الخمس. بإشراق الشمس التَبَسَ أنا بأنا من غير اتحاد ولا حلول، فالكل في توحيدنا معزول فليس عندنا إلا وجود واحد. فعلى أهل الحجاب والغفلة أن لا يكدّروا صفوفنا، بجعجعتِهِم ولا يروّعوننا بمعمعتهم».

الموقف العاشر
تجريد التوحيد:
«قال تعالى: {الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً}(يس-80).
اعلم أن الحق يخرج الأشياء من أضدادها، حتى لا يتوجه أحد إليه ولا يعتمد إلا عليه. فإنه أخرج النار الحارة من الخضرة الباردة، نبه بهذا عباده. حتى لا يقفوا مع الأشياء مهما كانت، ولا يقفوا مع علم أو عمل أو حال وكل الأكوان لا يجب الوثوق بها. وفعل الله لا يتوقف على الأسباب. فهو تعالى يفعل مع يريد مع الأسباب ومع فقدها. يخرج الخير من الشر والعكس، ويخرج المحنة من المنة والعكس فسبحان الواسع الحكيم».


الأمير عبد القادر الجزائري في دمشق 1862

المراحل التاريخية لتصوف الأمير:

1) المرحلة الأولى: مرحلة التلقّن والتعلم والمطالعة (1807 – 1830م):
تمتد هذه المرحلة من ولادة الأمير في القيطنة عام 1807 إلى تاريخ نزول الفرنسيين أرض الجزائر عام 1830م. ويبدو أن أهم فترة زمنية في هذه المرحلة هي الفترة الممتدة بين عامي 1825 و1828م. وهي فترة الرحلة المشرقية التي سافر فيها مع والده لأداء فريضة الحج، فأتاحت له فرصة الاطلاع عن كثب على الطرق الصوفية ومنها:

أ- الطريقة النقشبندية:
أخذها في مدينة دمشق عن الإمام أبي البهاء، ضياء الدين مولانا الشيخ خالد النقشبندي السهروردي. إذ كان الأمير يكثر التردد إليه، ليسمع منه علوماً شتى في التوحيد والتصوف.

ب- الطريقة القادرية:
أخذها في مدينة بغداد، من يد نقيب الأشراف، شيخ السجادة القادرية السيد محمود الكيلاني القادري.

وبعد عودتهما من رحلتهما المشرقية إلى أرض الوطن، تولى السيد محي الدين وابنه الأمير عبد القادر نشر الطريقة القادرية، فالسيد محي الدين تولى التهيئة النفسية للكفاح، فأوجد مراكز في القرى والأحياء وبين القبائل، وبث دعاة فيها إلى الله. فكان هؤلاء هم الذين غذّوا حركة الجهاد التي قام بها الأمير في المرحلة الثانية من تاريخ حياته.

2) المرحلة الثانية: مرحلة الفتوة والمرابطة (1830-1848م):
يرتبط بالصوفية من قريب أو من بعيد حركتان هما: حركة الفتوة وحركة المرابطة. فالفتوة في الإسلام هي الصفح عن زلات الناس، والتماس المعاذير لهم، واستخدام الفتى قوته وشجاعته في نصرة الضعفاء من المظلومين والفقراء والأيتام والعاجزين، وأن يعتبر أن ليس له في الناس عدو، ولكن جهلاء وضالون يجب تعليمهم وهدايتهم، أما الربط والرباط والمرابطة، فالاجتماع في الثغور للدفاع عن تخوم الدولة الإسلامية. فكانت الجيوش إذا توقفت عن الزحف في بلاد العدو أقامت حيث وقفت جماعات تمنع العدو من الكرّة على الحدود الجديدة، واصطبغت المرابطة منذ نشأتها بصبغة دينية إذ اعتُبِرَ أنها نوع من الجهاد في سبيل الله، وكان المرابطون كلهم متطوعين. وعلى هذا النحو كانت حروب الأمير عبد القادر ومرابطته في الثغور ضد الفرنسيين في هذه المرحلة التاريخية الثانية من مراحل حياته الصوفية.

3) المرحلة الثالثة: مرحلة التأمل والتفكير (1848-1852م):
وهي المرحلة التي وقع فيها أسيراً في أمبواز، ودخل فيها في خلوة أتاحت للأمير – لأول مرة في حياته – التأمل الصوفي، والتفكير الروحاني الهادئ العميق. فكان يقضي أوقاته منشغلاً بالذكر والدعاء «وكانت ترِدُ عليه» الواردات في الوقائع، مشيرة وآمرة بالصبر. «لذا اشتغل في أثناء خلوته هذه بالدعاء والتضرّع وكشف الرأس».

وهي إلى جانب ذلك تمتاز بالإنتاج الأدبي والفكري. وقد تعرف خلال هذه المرحلة إلى الصوفي الكبير السيد محمد الشاذلي القسنطيني. ومن المرجح أن يكون الأمير تتلمذ على يد الشيخ محمد الشاذلي، وتلقّى عليه مبادئ الطريقة الشاذلية وأصولها، وناقشها في الموضوعات الصوفية إلى جانب المساجلات الشعرية التي كانت تجري بينهما من حين لآخر.

4) المرحلة الرابعة: مرحلة النضج والتعبير (1853-1883):
بدأ الأمير عبد القادر حياته بالجهاد والنضال في ساحة الوغى، وختمَها في هذه المرحلة الصوفية الرابعة والأخيرة بالجهاد والنضال في مجال أعظم، وهو «جهاد النفس».

لقد تغلغل الأمير خلال هذه المرحلة في علوم القوم، وأظهر من دقائق الحقائق، وعوارف المعارف ما يؤذن بسمو مقامه، وعلو قدره، إذ كان «يصوم شهر رمضان على الكعك والزبيب، معتزلاً عن القريب والغريب. وله خلوة يتحنث بها في قصره بقرية أشرفية صحنايا».

تعتبَر هذه المرحلة أغنى مراحل تصوفه من ناحية النتاج الأدبي والفكري، ففي هذه المرحلة تم له الفتح العظيم، وكان ذلك في خلوته الصوفية الشهيرة، إذ أقام في مكة والمدينة سنة ونصفاً (1863-1864م) مقبلاً على العبادة والخلوة، والتقى فيها بالشيخ الجليل العارف بالله محمد الفاسي رئيس الطريقة الشاذلية. فتتلمذ عليه، وشرب عنه الطريقة. ولازم الرياضة والاجتهاد. وعكَفَ على ما في تلك الطريقة من الأذكار، والأوراد، إلى أن ارتقى في معارج الأسرار الإلهية. «وما تم له الارتقاء إلا في غار حراء. لأنه انقطع فيه أياماً عديدة، إلى أن جاءته البشرى ووقَعَ له الفتح النوراني، وانفتحَ له باب الواردات. واستظهر من القرآن العظيم آيات، ومن الحديث النبوي، أحاديث صحيحة».

وقد أشار الأمير إلى هذا الفتح الرباني في الموقف الأول من مواقفه حين قال: «إن الله تعالى قد عودني، أنه مهما أراد أن يأمرني أو ينهاني أو يبشرني أو يحذرني أو يعلمني علماً أو يفتيَني في أمر استفتيته فيه إلا ويأخذني مني مع بقاء الرسم، ثم يلقي إلي ما أراد بإشارة آية كريمة من القرآن، ثم يردني إلي، فأرجع بالآية قرير العين (...) وقد تلقيت والمنة لله تعالى، نحو النصف من القرآن بهذه الطريق».

وكتَبَ الأمير من خلوته هذه إلى أستاذه الشيخ يصف بداية الطريق ونهايته، ويثني على الله، بما أولاه على يده، بقصيدته الرائية، والتي سنوردها كلها كما جاءت في ديوانه:

أستاذي الشيخ
أمسعود! جاء السعد، والخير، واليسر ..|.. وولّت جيوش النحس، ليس لها ذكرُ
ليـالي صدودٍ، وانقطاع، وجفوةٍ ..|.. وهجران سـادات.. فلا ذُكِرَ الهجرُ
فأيـامها، أضحت قتاماً، ودجنةً ..|.. ليـالي، لا نجم، يضيء، ولا بـدرُ
فراشي فيها، حشوه الهمُّ والضنى ..|.. فلا التذّ لي جنبٌ ولا التذّ لي ظهرُ
ليـالي، أنـادي، والفؤاد متيّمٌ ..|.. ونار الجوى، تشوى لما قد حوى الصدرُ
أمولاي! طال الهجر وانقطع الصبر ..|.. أمولاي! هذا الليل، هل بعده فجرُ
أغث، يا مغيث المسـتغيثين! والهاً ..|.. ألمَّ بـه، من بعد أحبـابه، الضرُّ
أسـائل كلَّ الخلق هل من مخبّر؟! ..|.. يحدثني عنكم، فينعشـني الخبر
إلى أن دعتني همَّة الشيخ من مدى ..|.. بعيدٍ. ألا! فادنُ. فعندي لك الذخرُ
فشمَّرت عن ذبلي الإطار وطار بي ..|.. جناح اشتياقٍ، ليس يخشى له كسرُ
ومـا بعدت، عن ذا المحب، تهامةٌ ..|.. ولم يثنِه سهل، هناك، ولا وعر
إلـى أن أنخنـا بالبطاح ركابنـا ..|.. وحطّت بها رحلي وتمّ لها البشرُ
بطاح بهـا البيت المعظَّم قبلـه ..|.. فلا فخرَ إلا فوقـه وذلك الفخر
بطاح، بهـا الصيد الحلال، محرّمٌ ..|.. ومن حلَّلها، حاشاه يبقّى له وِزر
أتـاني، مربِّي العـارفين بنفسـه ..|.. ولا عجبٌ فالشأن أضحى له أمرُ
وقـال: فـإني، منذ إعداد حجة ..|.. لمنتظر لقياك يـا أيها البدر!
فـأنت بنيّتي، مذ «ألست بربكم؟!» ..|.. وذا الوقت، حقاً، ضمَّه اللوح والسطرُ
وجدُّك، قد أعطاك من قِدم لنـا ..|.. ذخيرتكم فينا. ويـا حبذا الذخر!
فقبَّلت مـن أقدامه وبسـاطه ..|.. وقال: لك البشرى. بذا، قضي الأمرُ
وألقى على صفري، بإكسير سرّه ..|.. فقيل لـه: هذا هو الذهب التبر
وأعني به: شيخَ الأنام، وشيخ من ..|.. له عمَّة في عذبة، وله الصدر
عياذي، ملاذي، عمدتي، ثم عدتي ..|.. وكهفي، إذا أبدى نواجذه، الدهر
غيـاثي، من أيدي العتاة ومنقذي ..|.. منيري، مجيري، عندما غمّني الغمر
ومحيي رفاتي، بعد أن كنتُ رِمةً ..|.. وأكسبني عمراً، لعمري هو العمر
محمد الفاسـي، له من محمد ..|.. صفيِّ الإله، الحالُ، والشيمُ الغُرُّ
بفرضٍ، وتعصيبٍ، غدا أرثه له ..|.. هو البدر بين الأوليا، وهم الزهر
شـمائله، تغنيك، إن رمت شاهداً ..|.. هي الروض لكن شقّ أكمامه القطر
تضوّع طيباً، كل زهرٍ بنشـره ..|.. فما المسك؟!ما الكافور؟!ما الندُّ؟!ما العطر؟!
وما حاتم؟! قل لي. وما حلم أحنف؟ ..|.. وما زهد إبراهيم أدهم؟! ما الصبرُ؟!
صفوحٌ، يغض الطرف عن كل زلةٍ ..|.. لهيبته، ذلَّ الغضنفر، والنمر
هشوشٌ، بشوشٌ يلقى بالرحب قاصداً ..|..وعن مثل حبِّ المزن تلقاه يفترُّ
فلا غضبٌ، حاشا، بأن يستفزه ..|.. ولا حدّة. كلا، ولا عنـده ضرُّ
لنا منه صدرٌ، ما تكدِّره الدلا ..|.. ووجه طليق، لا يزايله البشرُ
دليلٌ لأهل الفقر، لا عن مهانةٍ ..|.. عزيزٌ، ولا تيهٌ، لديه، ولا كبر
وما زهرة الدنيا، بشيء له يُرَى ..|.. وليس لها – يومـاً – بمجلسه نشرُ
حريصٌ على هدي الخلائق جـاهدٌ ..|.. رحيمٌ بهم، برٌّ، خبيرٌ، له القدرُ
كساه رسول الله، ثوب خلافةٍ ..|.. له الحكم، والتصريف، والنهيُ، والأمرُ
وقيل لـه: إن شئتَ قل: قدمي علا ..|.. على كل ذي فضل، أحاط به العصر
فذلك، فضل الله، يؤتيه مـن يشـا ..|.. وليس على ذي الفضل، حصرٌ، ولا حجر
وذا، وأبيك، الفخر، لا فخر، من غدا ..|..وقد ملك الدنيا، وسـاعده النصر!
وهذا كمالٌ. كلَّ عن وصفِ كنهه ..|.. ممن يدّعي هذا، فهذا هـو السـرُّ
أبو حسن، لـو قد رآه، أحبّه ..|.. وقال له: أنت الخليفة، يا بحر!
وما كلُّ شهم، يدعى السبق، صادق ..|.. إذا سيق للميدان، بان له الخسـر
وعند تجلي النقع، يظهر من علا ..|.. على ظهر جردبلٍ ومن تحته حمر
وما كلُّ، من يعلو الجواد، بفارس ..|.. إذا ثار نقع الحرب، والجوّ مغبرّ
فيحمي دماراً، بوم، لا ذو حفيظةٍ ..|.. وكل حماة الحي، من خوفهم، فرّوا
ونادى ضعيف الحي، ومن ذا يغيثني؟! ..|..أما من غيور! خانني الصبر، والدهر
وما كل سيف، ذو الفقار، بحدّه ..|.. ولا كلّ كرارٍ، عليـاً، إذا كرّوا
وما كلُّ طيرٍ، طار في الجوّ فاتكاً ..|.. وما كل صيّاحٍ، إذا صرصر، الصقر
ومـا كل من يُسمى بشيخ، كمثله ..|.. وما كل من يدعى بعمرو، إذاً عمرو
وذا مَثَلٌ للمدّعين. ومن يكن ..|.. على قدمٍ صَدق طبيباً لـه خبر
فلا شيخ، إلاّ مـن يخلّص هالكاً ..|.. غريقاً، ينادي: قد أحاط بي المكر
ولا تسألن عن ذي المشائخ، غير من ..|..لـه خبرةٌ، فاقت. وما هو مغترُّ
تصفّح أحوال الرجال، مجربـاً ..|.. وفي كل مصرٍ، بل وقطر، له أمر
فانعم بمصرٍ، ربّت الشيخ، يافعاً ..|.. وأكرم بقطرٍ، طار منه، له ذكرُ
فمكّة ذي، خير البلاد، فديتهـا ..|.. فما طاولتها الشمس– يوماً– ولا النسرُ
بها كعبتان: كعبة، طاف حولها ..|.. حجيج الملا. بل ذاك، عندهم الظفر
وكعبة حجّاج الجناب الذي سما ..|.. وجلَّ. فلا ركن، لديه، ولا حجرُ
وشتّان، ما بين الحجيجين، عندنا! ..|.. فهذا، له ملك. وهذا، لـه أجر!
عجبت لباغي السير للجانب الذي ..|.. تقدّس. مما لا يجدُّ لـه السـير
ويلقي إليه نفسـه، بفنـائه ..|.. بصدقٍ، تساوى عنده السرُّ والجهرُ
فيلقى مناخ الجود. والفضل، واسعاً ..|.. ويلقى فراتاً، طاب نهلاً، فما القطر؟!
ويلقى رياضاً، أزهرت بمعارفٍ ..|.. فيا حبذا المرأى! وياحبذا الزهر!
ويلقى حناناً، فوق فردوسها العلى ..|.. وما لجنان الخلد، إن عبّقت نشر
ويشرب كأساً صرفةً، من مدامةٍ ..|.. فيـا حبذا كأس! ويا حبذا خمر!
فلا غول فيها، لا، ولا عنها نزقةٌ ..|.. وليس لهـا بردٌ. وليس لها حرُّ
ولا هو، بعد المزج، أصفر فاقع ..|.. ولا هو، قبل المزج، قانٍ ومحمرُّ
معتَّقة من قبل كسرى مصونة ..|.. وما ضمّها دنُّ. ولا نالها عصر
ولا شانها زقٌّ. ولا سار سائرٌ ..|.. بأجمالهـا. كلاّ، ولا نالها تجر
فلو نظر الأملاك، ختم إنائها ..|.. تخلّوا عن الأملاك طوعاً ولا قهر
ولو شمّت الأعلام في الدرس ريحها ..|.. لما طاش عن صوب الصواب لها فكرُ
فيا بعدهم عنها! ويا بئس ما رضوا! ..|.. فقد صدَّهم قصدٌ. وسيّرهم وِزر
هي العلم، كلُّ العلم. والمركز الذي ..|.. به كلّ علمٍ، كلَّ حين، له دور
فلا عالمٌ، إلا خبيرٌ بشـربهـا ..|.. ولا جاهلٌ إلا جهولٌ به نمرُّ
ولا غبنَ في الدنيا، ولا من رزيئةٍ ..|.. سوى رجلٍ، عن نيلها، حطه نزر
ولا خسر في الدنيا. ولا هو خاسرٌ ..|.. سوى والهٍ والكفُّ من كأسها صفرُ
إذا زمزم الحادي، بذكر صفاتهـا ..|.. وصرح ما كنى ونادى نأى الصبرُ
وقال:اسقني خمراً. وقل لي: هي الخمر ..|..ولا تسقني سراً، إذا أمكن الجهر
وصرّح بمن تهوى.ودعني من الكنى ..|.. فلا خير في اللذات، من دونها ستر
ترى سائقيها، كيف هامت عقولهم ..|.. ونازلهم بسطٌ وخامرهم سـكرُ
وتاهوا فلم يدروا من التيه من هم ..|.. وشمس الضحى من تحت أقدامهم عفرُ
وقالوا: فمن يُرجى، من الكون، غيرنا؟! ..|..فنحن ملوك الأرض.لا البيض والحمر
تميد بهم كأس، بها قد تولّهوا ..|.. فليس لهم عرفٌ. وليس لهم نكرُ
حيارى.. فلا يدرون أين توجهوا ..|.. فليس لهم ذكرٌ. ليـس لهم فكرُ
فيطربهم برقٌ، تـألق، بالحمى ..|.. ويرقصهم، رعد بسلع، له أزر
ويسكرهم طيب النسيم، إذا سرى ..|.. تظنّ بهم سحراً، وليس بهم سحر
وتبكيهم ورق الحمائم، في الدجى ..|.. إذا ما بكت من ليس يدرى لها وكر
بحزنٍ، وتلحين، تجاوبتا بمـا ..|.. تذوب له الأكباد والجلمد الصخر
وتسبيهم غزلان رامة، إن بدت ..|.. وأحداقها بيضٌ وقاماتها سمرُ
وفي شمها حقاً، بذلنـا نفوسـنا ..|.. فهان علينا كل شيء، له قدر
وملنا عن الأوطان، والأهل جملةً ..|.. فلا قاصرات الطرف، تثني ولا القصر
ولا عن أصيحاب الذوائب من غدت ..|.. ملاعبهم منىً: الترائب والنحرُ
هجرنا لها الأحباب، والصحب كلَّهم ..|.. فمـا عاقنا زيدٌ ولا راقنا بكر
ولا ردّنا عنها العوادي ولا العدا ..|.. ولا هالنا قفرٌ ولا راعنـا بحر
وفيها حلالي الذلُّ، من بعده عزةٍ ..|.. فيا حبذا هذا! ولو بدؤه مـرُّ
وذلك، من فضل الإله، ومنِّه ..|.. عليّ. فما للفضل عدٌّ، ولا حصر
وقد أنعم الوهابُ، فضلاً، بشربها ..|.. فلله حمدٌ دائم، وله الشـكر
فقل لملوك الأرض: أنتم وشأنكم ..|.. فقسمتكم ضئزى وقسمتنا كثر
خذ الدنيا والأخرى، أباغيهما!! معاً ..|.. وهات لنا كأساً فهذا لنا وفر!!
جزى الله عنا شيخنا،خير ما جزى ..|.. به هادياً فالأجرُ منه هو الأمر
أمولاي! إنـي عبد نعمائك، التي ..|.. بها صار لي كنز. وفارقني الفقر
وصرتُ مليكاً، بعدما كنت سوقةً ..|.. وساعدني سعدٌ فحصباؤنا، درُّ
أمولاي! إنـي عبد بابك، واقفٌ ..|.. لفيضك محتاج لجوداك مضطرُّ
فمرْ، أمرَ مولـى، للعبيد فإنني ..|.. أنا العبد ذاك العبد لا الخادم الحرُّ
هنيئاً لها، يا معشر الصحب! إننا ..|.. لنا حصنُ أمن، ليـس يطرقه ذُعرُ
فنحن بضوء الشمس، والغير في دجى ..|..وأعينهم عميٌ وآذانهم وقرُ
ولا غروَ في هذا، وقد نال ربنـا ..|.. تراهم عيون ينظرون ولا بصر
وغيم السما مهما سما هان أمره ..|.. فليس يرى إلا لمن ساعد القدر
ألا فاعلموا شكراً لما جاد بالذي ..|.. هدانا ومن نعمائه عمّنا اليسرُ
وصلّوا على خير الورى خير مرسل ..|.. وروح هداة الخلق، حقاً، وهم ذَرُّ
عليه صلاة الله، ما قال قائل: ..|.. أمسعود! جاء السعد والخير واليسرُ


المراجع

1) مواقع إلكترونية.
2) ذكرى العاقل وتنبيه الغافل، تأليف: عبد القادر الجزائري، تحقيق: ممدوح حقي، بيروت، دار اليقظة العربية.
3) ديوان الأمير عبد القادر الجزائري، تحقيق: ممدوح حقي، بيروت، دار اليقظة العربية، 1965.
4) الأمير عبد القادر الجزائري متصوفاً وشاعراً، تأليف: فؤاد السيد صالح، الجزائر، المؤسسة الوطنية للكتاب، 1985.
5) مختصر كتاب المواقف الروحية والفيوضات السبوحية، تأليف: عبد القادر الجزائري، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2007.