الحافظ ابن عساكر

الحافظ ابن عساكر

نجم الأسبوع

الأربعاء، ٢٤ يونيو ٢٠١٥

مقدمة:

أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عبدالله بن الحسين ثقة الدين، ناصر السنة، ابن عساكر الدمشقي، المؤرخ الحافظ الرحالة، كان محدّث الديار الشامية ورفيق السمعاني "صاحب الأنساب" في رحلاته. هو علم من أعلام دمشق الكبار أعطاها حياته ورهن نفسه لها حتى آخر رمق لديه، وقدم لها كتابه الشهير "تاريخ دمشق".

لم تشهد دمشق في تاريخها محدثاً فاق الحافظ في الحديث، ولم تعرف في تاريخها ثمانين مجلدة غير مجلداته، فيكفيها فخراً أنها أوتيت أوسع تاريخ كُتب عن مدينةٍ عربية خطه مؤلف من أعظم علمائها، مقدماً من خلاله مادة غنية لرصد الحركة الحضارية في أعرق مدينة في التاريخ جلق الشام من قرون ما قبل التاريخ إلى أيامه في أواسط القرن السادس الهجري.

مولده ونسبه:


وُلدَ الحافظ ابن عساكر في دمشق فِي المُحَرَّمِ، فِي أَوِّلِ الشَّهْر من سنة 499هـ الموافق أيلول 1105م، في بيئة علمية ساعدته على تفتح ذهنه، فأبوه الحسن هبة الله أبو محمد الشافعي كان شيخاً تقياً ورعاً محباً للعلم ومجالسة العلماء ومصاحبتهم، وأخوه الأكبر الصائن هبة الله بن الحسن كان فقيهاً ثقة بعلوم القرآن والنحو واللغة، وأخوه الأصغر الأمين محمد بن الحسن كان قاضياً صالحاً عدلاً. أما أمه فكانت دافعة له للمضي في طلب العلم فهي من عائلة علمية عريقة، فهي أم القاسم بنت أبي الفضل يحيى بن علي بن عبد العزيز القرشي، وهو بيت عربي عُرف بالعلم، وينتهي نسبه إلى بني أمية، وكان منه قضاة دمشق مدة طويلة، وكان جده لأمه وخالاه محمد وسلطان من قضاة دمشق الورعيين والفقهاء الصالحين.

ومن ألقابه: ثقة الدولة وصدر الحفاظ وناصر السنة وجمال السنة والثقة، وجميعها تؤكد مكانته وعلمه وثقة العلماء والناس بحديثه وروايته. أما لقبه: "ابن عساكر" فيقول السبكي: «لا نعلم أحداً من جدوده يسمى عساكر وإنما هو اشتهر بذلك»، يقول الذهبي في السير: «فعساكر لا أدري لقب من هو من أجداده أو لعله اسم لأحدهم»، وأول من أثبت هذا اللقب ابن الجوزي، وقال : «علي بن الحسن بن هبة الله أبو القاسم الدمشقي المعروف بابن عساكر».

نشأته في دمشق:


نشأ ابن عساكر في دمشق في بيت علم، فتولت أسرته الصغيرة تعليمه وتهذيبه فكان لها دور في تكوين معارفه وترسيخ حبه للعلم والتحقيق والتدوين، فسمع الحديث من أبيه وأخيه وهو في السادسة، وترعرع في أحضان مدارسها وحلقات الإقراء والحديث الحافلة التي كانت تعقد في مسجد بني أمية -في وقت كان أعظم مركز للعلم- وفي منارات أخرى للعلم والحديث والفقه كالمدرسة الغزالية التي كان يتردد عليها ويأخذ عن أرباب العلم الذين كانوا يدرّسون فيها فكان لكلِّ ذلك أثرٌ كبير في توجهه نحو العلم ونبوغه فيه.

واستجاز له أهله كبار العلماء إبان طفولته كالأكفاني وابن قبيس، وأبي الحسن السلمي في المدرسة الشافعية الأمينيه، وإلى نصر المقدسي في الزاوية الغزالية للشافعية، وغيرهم من كبار علماء دمشق في ذلك الوقت وقرأ "تلخيص المتشابه" للخطيب البغدادي و"دلائل النبوه" للبيهقي و"موطأ مالك".

قرأ على أبي الفرج غيث بن علي الصوري تاريخ صور وجزءاً من كتاب تلخيص المتشابه للخطيب البغدادي، وقرأ على عبد الكريم بن حمزة السليم كتاب الإكمال لابن ماكولا ومشتبه النسبة لعبد الغني بن سعدي، وقرأ على شيخه أبي القاسم النبيه كتاب المجالس وجواهر العلم لأحمد بن مروان الدينوري وتلخيص المتشابه للخطيب البغدادي، وقرأ على أبي محمد بن الأكفاني كتاب المغازي لموسى بن عقبة وكتاب المغازي لمحمد بن عائذ الدمشقي، وأخبار الخلفاء لابن أبي الدنيا، وغيرها.

تلك أهم المراكز التي كان الحافظ يتلقى فيها العلم في حداثته، وظلَّ كذلك حتى وفاة والده سنة 519هـ.


جامع بني أمية الكبير في دمشق

أثر دمشق على ابن عساكر:


نشأ ابن عساكر في دمشق في وقتٍ كانت فيه من حواضر العلم الكبرى في العالم العربي والإسلامي، وفيها قال: «هي أم الشام وأكبر مدنه وهي من الأرض المقدسة»، وقد لعبت البيئة العلمية الدمشقية في إغناء ثقافته وفكره كثيراً، ففي دمشق التي ولد فيها الحافظ ودفن فيها كانت حياة العلماء ميسورة قصدها العلماء وطلاب العلم والزائرون من كلِّ صوب، فوجدوا فيها كل أسباب الراحة؛ وتناولت أقلام المؤرخين كل شيء فيها حتى أنهارها ومتنزهاتها ومفاتنها.

يفصح جهد ابن عساكر الكبير في تاريخ دمشق بجلاء عن مبلغ النشاط الفكري فيها على مرِّ القرون التي سبقته، ووصف مدارسها التي كانت تأخذ المساجد مكاناً لها لما يربو على 260 مسجداً، وكان أشهرها مدرسة الجامع الأموي الكبير الذي استوفاه شرحاً، وذكر المدارس الموقوفة للمذاهب وغير المخصصة: المدرسة الامينية للشافعية، والمدرسة المعروفة بدار طرخان للحنفية، ومدرسة الحنابلة عند قناة جيرون، والمدرسة الغزالية، والمدرسة الصادرية، ومدرسة الأمير أكز، والمدرسة المعينية، غير أن المدرسة النورية أو دار تعليم الحديث التي بناها له نور الدين سميت فيما بعد دار الحديث النورية وهي أول مدرسة أنشئت في الإسلام لتعليم الحديث وتولى التدريس فيها الحافظ ابن عساكر نفسه وابنه ثم بنو عساكر من بعدهما، وكان نور الدين يحضر حلقات تدريس له فيها ويهتم بها وكان من عادته أن يهتم بالعلم والعلماء، كما كان السلطان صلاح الدين يحضر مجلسه ودروسه أيضاً.

رحلاته:


انشغل ابن عساكر في فترة حياته الباكرة بطلب العلم فانصرفت همته إليه ولم يلهه عنه شيء، ولم يشتهر عنه أي موقف سياسي أو مشاركة عامة، الأمر الذي عزز موضوعيته العلمية وبوأه مكاناً فريداً بين المؤرخين والمحدثين، وبدأ رحلته خارج دمشق طلباً للحديث بعد وفاة والده فيمم وجهه شطر بغداد سنة 520ه/1126م، حيث كانت في مطلع القرن السادس الهجري ما تزال تحتفظ بمركزها العلمي في الحديث والفقه، فنهل من علومها ما قدر له أن ينهل وأقام فيها سنة واحدة، ثم خرج للحج عن طريق دمشق، وسمع مما لقى من العلماء بمكة والمدينة ومنى، ومن القادمين لأداء فريضة الحج، عاد بعدها إلى العراق، واستمر بقاؤه بها خمس سنوات استمع خلالها إلى الدرس في المدرسة النظامية على أبي سعد الكرماني، وأبي القاسم ابن الحصين، وأبي الحسين الدينوري، ولم يقتصر في رحلته على بغداد فحسب بل تطوف بين مدن العراق وما حولها واستمع إلى علمائها، فهبط إلى الكوفة، وصعد إلى الموصل والجزيرة وماردين، ثم عاد إلى بغداد يحدث بها، وظهر فضله وشاع ذكره.

كانت رحلته هذه من أنشط رحلاته، قرأ فيها "الطبقات الكبرى" لابن سعد و"المغازي" للواقدي وسيرة ابن إسحاق و"طبقات فحول الشعر" لمحمد بن سلام الجمحي، عاد بعدها إلى دمشق سنة 525هـ/1130م ليأخذ فيها عن شيوخ آخرين، وبقي فيها إلى سنة 529هـ/1134م، رزق في أثنائها ابنه القاسم 527هـ من زوجته عائشة بنت علي الخضر أم عبدالله السلمية، ثمَّ كانت رحلته الثانية بعد وفاة أمه إلى خراسان ومدنها المهمة، وأقام في أصبهان سنة كاملة صحبة الإمام محمد الفراوي ثم فارقه إلى هراة، ومضى في رحلته ملتقياً بالعلماء والفقهاء والمحدثين والأدباء، وأخذ عن النساء كما أخذ عن الرجال. دامت رحلته الثانية أربع سنوات قاسية ومتعبة حتى 533هـ/1138م.

وذكَرَ السمعاني عبد الكريم بن أحمد رفيقه في رحلاته أنه التقى الحافظ في نيسابور 529هـ، وقد شرع حينئذٍ في كتابة تاريخه الكبير لدمشق، وذلك بشهادة السمعاني "سير الاعلام 20 / 567": «دخل نيسابور قبلي بشهر سمعت منه وسمع مني وسمعت منه معجمه وحصل لي بدمشق نسخة منه وكان قد شرع في التاريخ الكبير لدمشق».

وسمحت له هاتان الرحلتان بلقاء كبار الشيوخ وأعيان العلماء والفقهاء والمحدثين، حيث سعى في التحصيل عليهم والإفادة منهم، فحفظ وكتب الكثير، وقد التقى بأكثر من ألف وثلاثمائة شيخ ومن النساء بضع وثمانين امرأة.

يقول الذهبي في سير الأعلام: «وعدد شيوخه في معجمه ألف وثلاثمائة شيخ بالسماع، وستة وأربعون شيخا أنشدوه وعن مئتين وتسعين شيخا بالإجازة الكل في معجمه وبضع وثمانون امرأة لهن معجم صغير سمعناه».

عاد إلى دمشق وهو ابن أربع وثلاثين سنة بعد أن حقق قدراً عاليا من بناء شخصيته العلمية والفقهية، وبعد أن لقي شيوخ دمشق والعراق والحجاز والجزيرة وخراسان، وشرع يحدث، وتبدأ هنا حقبة خصبة في حياته تمتد قرابة أربعين عاماً انصرف فيها إلى الجمع والتصنيف والرواية والتأليف والمطالعة والتسميع. أعرض عن طلب المناصب وتحصيل الديار والأملاك، فسار ذكره واشتُهِرَ أمره فرحل إليه الطلبة، وانتهت إليه الرياسة في الحفظ والإتقان وأصبح إمام المحدثين في وقته، وأصبحت مجالسه في دمشق ملتقى أهل الأدب والمعرفة.

مؤلفاته:


إذا استثنينا تاريخ دمشق فإنَّ سائر مؤلفاته في الحديث، وبعضها في الفضائل، كفضائل العشرة وأخبار الأوزاعي وفضائله، وفضل قريش، وأهل البيت والأنصار، والأشعريين، بيت المقدس، ومكة ومقام إبراهيم والمدينة وفضائل الشهور كفضل عاشوراء ومحرم وشعبان وفضل الكرام، وفضل الجهاد؛ الذي وضعه استجابة لرغبة الملك العادل نور الدين الزنكي لحث الناس على الجهاد واسترداد بيت المقدس من الصليبين، وكتاب "أربعون حديثاً عن أربعين شيخاً من أربعين مدينة"، إضافة إلى إتحاف الزائر، الاجتهاد في إقامة فرض الجهاد وهو أربعون حديثاً، الإشراف على معرفة الأطراف في الحديث أربعة مجلدات، وهو دراسة هامة وفق منهج الأطراف عند المحدثين أمالي في الحديث، تاريخ المزة.


من كتب ابن عساكر

وكتب أيضاً: معجم الصحابة ومعجم النسوان، ومعجم أسماء القرى والأمصار ومعجم
الشيوخ والنبلاء، وكشف المغطى في فضل الموطأ، وغيرها من الكتب والدراسات.‏

عني بجمع أحاديث معظم قرى الغوطة كالمِزَّة وكفرسوسية ودومة ومسرابا وحرستا وجوبر، وقد انتصر للأشعري ومذهبه فألف كتابه "التبيين في كذب المفتري على الإمام الأشعري"، وهذا من أكثر كتبه شأناً لأنه ذكر فيه تراجم شيوخ رآهم وسمع عنهم، وأبان رأيه فيه.

وقد نفعته صفاته العلمية والدينية على بزِّ أقرانه، وتفنن في الترجمة للناس والعرض لأخبارهم وشعرهم ونثرهم، وجمع تاريخه على شرط المحدثين بالسند والرواية. ولاشك في أن تاريخ دمشق كنز عظيم من كنوز الأجداد عجز الجماعة عن وضع مثله.

أمضى حياته في كتابة تاريخه، ولم يكتمل تأليفه وجمعه إلا بعد أن كلَّ بصره وضعف جسمه، وتكاثرت عليه الأسقام، وجاء صوت السلطان نور الدين الذي عاصره طوال عشرين عاماً (549-569هـ) مجدداً لهمته، مقوياً لعزيمته، وكان له منه الإكرام والإجلال، وبنى له دار الحديث النورية ليتفرغ فيها للدرس والكتابة وإنهاء تأليف تاريخه وجمعه، فكان هذا العمل الجبار الذي صبَّ فيه خلاصة عقول خمسة قرون من عمر الحضارة العربية.

تاريخ دمشق:


إذا كان التاريخ سرداً لماضي الإنسانية، وسجلاً لما يصنعه الأبطال وتخطه الشعوب فإن التاريخ الكبير "تاريخ دمشق" لمحدث الشام ومؤرخها الحافظ ابن عساكر هو النور الساطع واللؤلؤة المضيئة بين كتب التاريخ. فهو يؤرخ لأعرق مدينة في التاريخ بل إنها جنة الأرض ومدينة العلم والفضل والحضارة أم الشام، يشدُّ إليها الرحال بما زخرت به من المدارس وحلقات العلم في كلِّ فن وعلم، وبما أنجبت من علماء وفرسان أعلام في كل حلبة من حلباتها.

أحب الحافظ دمشق التي ولد فيها وحضنته صغيراً فوفاها حقها من خلال تأليف كتابه الشهير "تاريخ دمشق"، ويعدُّ التاريخ الكبير تاريخ دمشق لمحدث الشام ومؤرخها الحافظ ابن عساكر النور الساطع واللؤلؤة المضيئة بين كتب التاريخ، الذي يؤرخ لأعرق مدينة في التاريخ، وقصد من خلاله إلى جمع كل ما تناثر على أرض الشام من حكمة ومعرفة وتاريخ، راسماً تاريخها وحضارتها. وقد توسع ابن عساكر في كتابه حتى صار ديواناً شاملاً لكل ما كتب عن دمشق وترجماناً لكل من مرَّ بالشام أو علم بها أو تعلم بها أو تحدث عنها بإحسان.

يقول ابن خلكان: "ما أظن هذا الرجل (ابن عساكر) إلا عزم على وضع التاريخ من يوم عقل على نفسه. وإلا فالعمر يقصر على أن يجمع الإنسان مثل هذا الكتاب".

اسم الكتاب ووصفه:


سمى أبو القاسم بن عساكر كتابه: "تاريخ مدينة دمشق، وذكر فضلها وتسمية من حلها من الأماثل أو اجتاز بنواحيها من وارديها وأهلها"، هذا الكتاب الذي لم يصنف مثله، نستطيع أن نصفه بأنه موسوعة بحق، فمن طلب الحديث وجده فيه، ومن طلب التاريخ وجده فيه، ومن طلب اللغة وجدها فيه، ومن طلب أخبار الناس وأحوالهم وجد ذلك فيه، إلى غير ذلك من العلوم الكثير.

وعندما يؤرخ لمدينة دمشق تخصيصاً لا يقتصر على الجانب التاريخي بل يتعداه إلى جغرافية المدينة لأنه أدرك بحس العالم وحس المؤرخ أنه لا انفصام بين التاريخ والجغرافيا، فالجغرافيا هي المسرح التي تحدث عليه وقائع التاريخ وهي من أهم المؤثرات التي تؤثر في الإنسان وبالتالي في الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية.

فالموقع الجغرافي للمدينة الذي حباها الله به كان له أثرٌ في دورها الحضاري عبر مختلف العصور وإذا كان تاريخ الطبري يُعدُّ أغنى المصادر عن تاريخ الفرس، فإنَّ تاريخ ابن عساكر أغنى المصادر عن تاريخ العرب المسلمين من نقطة الانطلاق الأولى وعلى امتداد الرقعة الجغرافية التي وصل إليها الإسلام، خصوصاً في الحقبات التاريخية التي كانت دمشق عاصمة الحياة العربية ومصدر القرار ومحجة وفود الجماعات والرجالات من الجزيرة والعراق وفارس وما وراء النهرين وأقصى الشرق ومصر وإفريقيا وأطراف المحيط، كما كانت مركز تجمع ومنطقة حشد وقاعدة عمليات للجيوش التي وصلت شرقاً حتى حدود الصين وغرباً حتى اجتازت المحيط وعبرت إلى إسبانيا وجنوب أوروبا، كما العمليات البحرية أيضاً جنباً إلى جنب حتى أصبح حوض البحر الأبيض المتوسط بسواحله شرقاً وغرباً بحيرة عربية، أليس من دمشق كانت تنطلق قوات الصوائف والشواتي لسد الثغور والدروب ورد غارات بيزنطة عن حدود الشام؟ ومن دمشق أيضاً انطلقت جحافل صلاح الدين لطرد الصليبين وتحرير القدس، كما لم تكن دمشق بمعزل عن الحياة والمشاركة فيها في كل العهود.

إنَّ تاريخ دمشق هو تاريخ حضاري للعالم العربي والإسلامي منذ ما قبل البعثة النبوية وحتى عصر المؤلف الذي يقف عند سنة 571، وكأنَّ الحافظ ابن عساكر أراد أن يؤرخ للعالم العربي والإسلامي على امتداد رقعته الجغرافية شرقاً وغرباً من خلال تلك المشكاة المشعة دمشق الشام، فكان بتاريخه الكبير الموسوعي الفذ شيخ المؤرخين ومؤرخ الحفاظ والمحدثين، وقد أتى الكتاب في ثمانين مجلداً، أورد فيها المصنف التاريخ على نحو تراجم، فهذا الكتاب ليس من نوع الحوليات التاريخية التي تعالج التاريخ سنة بعد أخرى، وليس من نوع كتب الحوادث التي تعالج أمة من الأمم أو سلسلة من الغزوات والفتوح أو سيرة عظيم من العظماء أو واقعة من الوقائع، وإنما هو قبل كل شيء كتاب تراجم، ثم هو بعد ذلك كتاب حديث، ولم يقتصر في كتابه تاريخ دمشق على وصف المدينة بل تحدث عن تاريخها والرجال العظام الذين مروا فيها، ثمَّ تحدث عن النساء اللواتي كان لهن أثراً عظيماً في رسم معالم هذا التاريخ وتلك الحضارة.‏

والكتاب موسوعة في الأدب شعراً ونثراً، فضلاً عن كون الحافظ ابن عساكر نفسه شاعراً وأديباً وله قصيدة في مدح نور الدين بعد أن رفع عن أهل دمشق المطالبة بالخشب فيها: لما سمحت لأهل الشام بالخشب عوضت مصر بما فيها النشب وإن بذلت لفتح القدس محتسباً للأجر جوزببت خيراً غير محتسب ولست تعذر في ترك الجهاد وقد أصبحت تملك من مصر إلى حلب، وكان يختم مجالسه بقطعة من شعره.

وأكل الكتاب شباب ابن عساكر وكهولته، ثم قام ولدهُ القاسم بتنقيحه وترتيبه في صورته النهائية تحت بصر أبيه وعنايته، حتى إذا فرغ منه سنة 565هـ قرأه على أبيه قراءة أخيرة، فكان يضيف شيئاً، أو يستدرك أمراً فاته، أو يصوب خلطاً، أو يحذف ما يراه غير مناسب أو يقدم موضعاً أو يؤخر مسألة، حتى أنهاه في نفس العام‏، وهي السنة التي أتم فيها تأليف تاريخه وصقله، وأصبح على الصورة التي نراها الآن بين أيدينا، والمجلد الأخير الذي وصل إلينا هو ترجمته للنساء. يقول الحافظ ابن عساكر: «هذا آخر ما يسر الله جمعه من هذا الكتاب والله الموفق».

وانتهى من تصنيفه في مرحلته الأولى سنة 549 هـ وبلغ خمسمئة وسبعين جزءاً، ثم أخذ يزيد فيه ويضم إليه ما يستجد عنده حتى تمت نسخته الجديدة والمؤلفة من ثمانين مجلداً سنة 559 هـ.

ويقول ياقوت الحموي في معجم الأدباء (13/76) وجمع وصنف فمن ذلك: كتاب تاريخ مدينة دمشق وأخبارها وأخبار من حلها أوردها في خمسمئة وسبعين جزءاً من تجزئة الأصل والنسخة الجديدة ثمانمئة جزء.

ويقول الذهبي في السير (20/ 558): وصنف وجمع فأحسن فمن ذلك تاريخه في ثمان مئة جزء.

لم يكن تاريخ ابن عساكر أول تاريخ لدمشق والشام ولم يكن تاريخ دمشق الأول من نوعه بين كتب تاريخ المدن، فقبله ألف "تاريخ الرقة" للقشيري و"تاريخ أصبهان" لأبي نعيم و"تاريخ نيسابور" للحاكم و"تاريخ بغداد" للخطيب وهو أهم ما أنتج قبله.

موضوع الكتاب:


ألف ابن عساكر تاريخ مدينة دمشق على نسق التواريخ التي عرفت من قبل؛ فقد ذكر فضلها وتسمية من حلّها من الأماثل أو اجتاز نواحيها من وارديها وأهلها، ولكنه كان فيما كتبه عن دمشق أكثر دقة وترتيباً، وأغزر مادة وأوسع أبواباً. وعدد تفصيلات عن خططها وتاريخها وطَبوغرافيتها. كان للحافظ منهج واضح في تنسيق أسماء من ترجم لهم على الترتيب الهجائي، مراعياً أسماء المترجمين ثمَّ أسماء آبائهم وكذلك فعل في تراجم النساء؛ فأورد ترجمة لمئة وست وتسعين امرأةً، ولم يترجم إلا للواتي عُرفن بالفضل ورواية العلم، محتذياً أسلوب ابن سعد في طبقاته الكبرى، والخطيب البغدادي في تاريخه.


كتاب تاريخ دمشق لابن عساكر

بدأ مجلده الأول بباب ذكر فيه أصل اشتقاق الشام ودمشق والأيام والشهور، والتاريخ وفائدته. وهذا القسم من المجلد يأخذ تسعة أبواب من الجزء الأول، وهو عشرة أبواب، بعدها يبدأ ببيان فضائل الشام ودمشق وأن الله جعل فيها صفوة عباده، وأن الرحمن يرحم الشام وقد أضاءت قصورها عند مولد النبي، وهي أرض المحشر والمنشر، ثمَّ يخلص إلى فضائل دمشق، فيقول فيها إنها مدينة من مدن الجنة، ومهبط عيسى قبل قيام الساعة، وفسطاط المسلمين يوم الملحمة، وأن أهلها لا يزالون على الحق ظاهرين، وسيعرفون في الجنة بثيابهم الخضر، ويقول الحافظ سينفى الخير عن الإسلام إذا فسد أهل الشام، وهذا القسم من أكبر أقسام المجلد ويستغرق خمسة أجزاء فيها ثلاثة وثلاثون باباً.

ثم ينتهي إلى ذكر فتوح الشام ودمشق، ويذكر أخبار ملوك الشام قبل الإسلام، ومغازي الرسول إلى دومة الجندل ومؤته وتبوك، ووقعات أجنادين، ومرح الصفَّر واليرموك، والدور التي كانت داخل سور دمشق، والقطائع والصوافي، ويسوق بعض أخبار الدجال، وهذا القسم أهم أقسام المجلد شأناً ويستغرق أربعة أجزاء فيها أربعة عشر باباً.

ويؤرخ للسيرة النبوية بجوانبها، وما كان فيها من أحداث وذلك حين يبدأ كتابه بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، ويخصص لذلك نصف المجلد الثاني، ثم يترجم للخلفاء الراشدين، ولمن كان حولهم ومعهم تراجم طويلة مستوفاة، فتأتي هذه التراجم وكأنها تاريخ للعصر كله بالكثير من دقائقه التي لا نجد بعض مادتها عند غيره والتي لا تمتد في بلاد الشام وحدها بل في أقطار العرب كلها.

إنَّ الحافظ ابن عساكر لا يقدم تاريخاً دمشقياً ولا شامياً، وإنما يقدم تاريخاً حضارياً للبلاد التي انتشر فيها الإسلام وسادت فيها اللغة العربية من أقصى الشرق إلى أطراف المحيط، فكانت ترجمته تاريخاً للعصر كله، وكان كتابه أغنى المصادر لتاريخ الأمويين.

مصادر المؤلف في هذا الكتاب:


ينقل الحافظ من مصادر لم تصلنا فتاريخه وسيط بين عصرنا وعصر أسلافه وكثيراً ما ينقل علماء القرنين السادس والسابع عنه كابن الأثير في تاريخه الكامل والمزين في تهذيبه تهذيب الكمال، والذهبي في تاريخه تاريخ الإسلام وسير أعلام النبلاء، وابن كثير في تاريخه البداية والنهاية.

ذكر صاحب كتاب "موارد ابن عساكر في تاريخ دمشق" أنَّ عدد المؤلفات التي اعتمدها ابن عساكر في (تاريخه): من شيوخ ابن عساكر (198) مؤلفاً، ومن غير شيوخه (711) مؤلفاً, في حين بلغ عدد الكتب التي اقتبس منها حوالي الألف كتاب.

منهج ابن عساكر في تاريخه:


يمكن الكلام على منهج الحافظ ابن عساكر في تاريخه في النقاط التالية:
1. بدأ المؤلف كتابه بمقدمة حافلة، تحدث فيها عن كتابه وعمله ونهجه فيه فقال: «أما بعد فإني كنت بدأت قديماً بالاعتزام لسؤال من قابلت سؤاله بالامتثال والالتزام على جمع تاريخ لمدينة دمشق أم الشام حمى الله ربوعها من الدثور والانفصام وسلم جرعها من كيد قاصديهم بالاختصام فيه ذكر من حلها من الأماثل والأعلام فبدأت به عازماً على الانجاز له والإتمام، فعاقت إنجازه وإتمامه عوائق الأيام من شدة الخاطر وكلال الناظر وتعاقب الآلام، فصدقت عن العمل به برهة من الأعوام حتى كثر علي في إهماله وتركته لوم اللوام وتحشيم من تحشيمه سبب لوجود الاحتشام، وظهر ذكر شروعي فيه حتى خرج عن حد الاكتنام وانتشر الحديث فيه بين الخواص والعوام، وتطلع إلى مطالعته أولو النهى وذوو الأحكام ورقى خبر جمعي له إلى حضرة الملك القمقام الكامل العادل الزاهد المجاهد المرابط الهمام أبي القاسم محمود بن زنكي بن آق سنقر ناصر الإمام أدام الله ظل دولته على كافة الأنام وأبقاه مسلما من الأسواء منصور الأعلام منتقماً من عداة المسلمين الكفرة الطغام معظماً لحملة الدين بإظهار الإكرام لهم والاحترام.. وبلغني تشوقه إلى الاستنجاز له والاستتمام ليلم بمطالعة ما تيسر منه بعض الإلمام فراجعت العمل فيه راجياً الظفر بالتمام شاكراً لما ظهر منه من حسن الاهتمام مبادراً ما يحول دون المراد من حلول الحمام، مع كون الكبر مظنة العجز ومطية الأسقام، وضعف البصر حائلاً دون الإتقان له والإحكام، والله المعين فيه بلطفه على بلوغ المرام».

2. حيث أن الحافظ ابن عساكر من علماء الحديث، بل هو إمام أهل الحديث في زمانه، لذلك فقد سلك في تاريخه هذا منهج المحدثين، فهو يبدأ بذكر السند ثم يورد الخبر.

3. ذكر الحافظ ابن عساكر في تاريخه: تراجم من دخل مدينة دمشق ونزل بها من الصحابة والتابعين, والعلماء والأمراء, والأفاضل وغيرهم؛ فبدأ في المجلدين الأول, والثاني بما ورد في فضائل دمشق والشام, ثم في المجلدين الثالث والرابع السيرة النبوية, ثم بدأ في أعلام الرجال من المجلد (5) حتى (65), ثم الكنى من المجلد (66) حتى المجلد (68), ثم النساء من المجلد (69) حتى المجلد (70).

4. رتب أسماء المترجمين على حروف المعجم, مقدماً تراجم من اسمه أحمد على غيره، مع مراعاة الحروف في أسماء آبائهم وأجدادهم، وأردف ذلك بمن عرف بكنيته ولم يقف على حقيقة تسميته، ثمَّ بمن ذكر بنسبته، وبمن لم يسم في روايته، وأتبعهم بذكر النسوة والإماء والشواعر.

5. يقدم ابن عساكر المادة الأولية للترجمة مسندة في كلِّ جزئية من جزئياتها حتى في الاسم أو الكنية أو يوم الوفاة، وتتعدد صور الخبر بتعدد الأسانيد التي انتهت إليه والروايات التي جاء عليها، وقد تتكاثر الأسانيد على خبر واحد في صورة واحدة أو صور متقاربة.. ولهذا فإن كل ما عند ابن عساكر في تاريخه يدور في هذين القسمين الكبيرين: الأسانيد والأخبار.

أهمية الكتاب:


أهمية هذا التاريخ تكمن في أنه لا يعدَّ تاريخاً لمدينة دمشق -أحد أكبر معاقل الحضارة الإنسانية والعلوم الإسلامية عبر مختلف العصور- فحسب، بل إنه موسوعة حديثية وهو من أوسع المصادر في سير الرجال فمنه يمكن استخلاص كتب وأسفار عدة في موضوعات وعلوم وفنون شتى، فالكتاب مرجع للعلماء لاحتوائه على الآلاف من الأحاديث النبوية والآثار، والكتاب موسوعة في علم الرجال والجرح والتعديل، فهو عندما يترجم للرجال ويذكر سيرهم ويذكر مروياتهم، فإنه يبين حالهم وعلى ما هم عليه من ضعف أو توثيق ويصحح أسماءهم إذا اقتضى الحال، ويذكر سنة الوفاة للرجال وهو بهذا يحدد طبقة الاسم المترجم له وفي هذا من الفائدة ما يدركه العاملون في حقل الرجال.

وهو عندما يسرد الخبر خصوصاً في الفضائل يسرد جميع الروايات بأسانيدها المتعلقة بالخبر يذكر ذلك وهو من أعلم الناس بالأحاديث الضعيفة والموضوعة، فكأنه بإيراده السند يخلي مسؤوليته ويدع العهدة في نقل الأخبار على من نقلها وكأنه يريد أن يقول أيضاً: إنَّ كتابه لجميع طبقات الناس وإنه يريد أن يكون تاريخه مرآة تعكس حياة الناس ومعتقداتهم ومذاهبهم ونحلهم وآراءهم السياسية والاجتماعية فله النقل والعرض والسرد وللعقل التدقيق والتمحيص.

يمتاز تاريخ دمشق عن التواريخ التي سبقته أنه أوسعها مادة وأشملها توجهاً، وقد يكون هذا الكتاب أوسع تواريخ المدن، وهو أيضاً من أوسع المصادر في تراجم الرجال، حتى ليجرد منه كتب على حدة في موضوعات مختلفة كولاة دمشق مثلاً وقضاتها وشعرائها، ومنه يستخرج أحسن تاريخ لبني أمية سكتت معظم التواريخ عنه، وهو إلى ذلك حوى عدة كتب مستقلة فكل طالب يظفر فيه بطلبته ويجد فيه ما لا يجده في كتاب غيره لأن ابن عساكر يمتاز بالتحري والبسط والاستقصاء وتتبع النوادر في سير المترجم لهم وأخبارهم.

ومن المختصرات:


اختصر تاريخ دمشق المؤرخ أبو شامة 665هـ، للشيخ أبي العباس أحمد بن عبد الدائم المقدسي 688هـ وسماه: «فاكِهة المَجَالس وفُكَاهة المُجَالِس»، الحافظ شمس الدين الذهبي 748هـ، والقاضي تقي الدين أبي بكر بن أحمد بن شهبة851 هـ, والعلامة اللغوي أبي الفضل محمد بن مكرم الأنصاري الرويفعي 711هـ المعروف بابن منظور صاحب "لسان العرب"، وانتقى منه ابن حجر العسقلاني 852هـ، واختصره جلال الدين السيوطي 911هـ وسماه: "تحفة المذاكر في المنتقى من تاريخ ابن عساكر".

إضافة للشيخ إسماعيل بن محمد العجلوني 1162 هـ, واختصره من المتآخرين عبد القادر بدران المتوفى سنة 1346هـ، وقد طبع في دار المسيرة بيروت 1399 في (7) مجلدات.

تاريخ دمشق.. اليوم:


يأسف المرء لخلو خزائن دمشق من نسخة كاملة من تاريخها، فقد بعثرت أجزاؤه في خزائن العالم:

ففي المكتبة الأزهرية أجزاء كثيرة، وحفظت دار الكتب الظاهرية نسختين، وفي كمبردج بإنكلترا ثلاثة مجلدات منه، وفي جامعة كولومبيا في نيويورك مجلد يحوي نحو عشرة أجزاء من تقسيم المؤلف.


ضريح ابن عساكر

وفاته:


ختمت هذه الحياة الحافلة بالجد والسعي وطلب العلم والتأليف والتصنيف والتدريس في أوائل عهد صلاح الدين في دمشق، في رجب سنة إحدى وسبعين وخمس مائة (571هـ/1175م) ليلة الاثنين حادي عشر الشهر، وصلى عليه الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي في ميدان الحصا، ودفن عند أبيه بمقبرة الباب الصغير إلى جانب حجر معاوية.

أقامت محافظة دمشق تكريماً كبيراً لابن عساكر عام 1976 لمناسبة مرور 800 عام على وفاته تقرر إثره تسمية شارع من أكبر شوارع مدينة دمشق باسم "شارع ابن عساكر"، وقبره اليوم في قبة خاصة قرب مقبرة الباب الصغير في دمشق.‏

مكانته العلمية وثناء العلماء عليه:
قال عنه السمعاني: «أبو القاسم كثير العلم غزير الفضل حافظ متقن دين خير حسن السمت، جمع بين معرفة المتون والأسانيد، صحيح القراءة، متثبت محتاط..».

وقال أبو المواهب: «لم أر مثله ولا من اجتمع فيه ما اجتمع فيه من لزوم طريقة واحدة مدة أربعين سنة من لزوم الصلوات في الصف الأول إلا من عذر والاعتكاف في شهر رمضان وعشر ذي الحجة وعدم التطلع إلى تحصيل الأملاك وبناء الدور قد أسقط ذلك عن نفسه وأعرض عن طلب المناصب من الإمامة والخطابة وأباها بعد أن عرضت عليه وأخذ نفسه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا تأخذه في الله لومة لائم». قال لي: «لما عزمت على التحديث والله المطلع أني ما حملني على ذلك حب الرياسة والتقدم، بل قلت: متى أروي كل ما سمعت؟ وأي فائدة من كوني أخلفه صحائف؟ فاستخرت الله واستأذنت أعيان شيوخي ورؤساء البلد وطفت عليهم فكلهم قالوا: من أحق بهذا منك؟ فشرعت منذ ثلاث وثلاثين وخمسمئة». انظر سير أعلام النبلاء (20/556)

وقال فيه الشيخ النووي: «هو حافظ الشام بل هو حافظ الدنيا الإمام مطلقا الثقة الثبت».
وقال ابن الدبيثي: «أحد من اشتهر ذكره وشاع علمه وعرف حفظه وإتقانه»