حكايات الطربوش.. الحلقة -1-.. بقلم: شمس الدين العجلاني

حكايات الطربوش.. الحلقة -1-.. بقلم: شمس الدين العجلاني

ثقافة

السبت، ٩ مايو ٢٠١٥

حب الزينة غريزة من غرائز الإنسان، فمنذ الأزل كان الإنسان يتزين بوضع " التاج " على رأسه وكان يصنعه من الأعشاب أو الزهور والورود، ويظهر أن استعمال التاج دعت إليه حاجة أخرى وذلك أن الإنسان في الزمن القديم كان بعد أن يعمل لنيل قوته يميل للراحة، فكان يستر وجهه من حرارة الشمس بهذا التاج، وكان أكثر استعماله لهذا النوع من التاج عند تناول الطعام، فنشأ من هنا الميل إلى لبس التيجان في الولائم وجعلها عنواناً للراحة وطمأنينة القلب، ومن هنا نشأت عادة تتويج الآلهة عند الوثنيين، فتوج اليونانيون الإله جوبيتير كبير آلهتم بتاج مكون من جميع الأزهار دلالة على شمول سلطانه على جميع الآلهة، وتوجوا كل إله من الآلهة التي تليه بتاج خاص على حسب الوظائف التي كانوا يشغلونها في تدبير هذا العالم.
ومن ثم تطور صنع التاج وأصبح من الأحجار الكريمة أو الذهب وأضحى من لباس الملوك والأمراء.
واستمر الإنسان في تطوير وتغيير لباس الرأس، وعرفت بلادنا أنواعاً كثيرة من لباس الرأس، فكان هنالك القاووق وهو نوع من أغطية الرأس، يصنع من قماش قطني بشكل كوفيتين يوضع بينهما قليل من القطن. وكثيراً ما يستخدم هذا القاووق قاعدة للعمامة، وهنالك القلبق وهو لباس تركي عسكري عبارة عن قبعة صغيرة من الفرو يستخدمها رجال الدرك والشرطة، والعمامة وهي زي تقليدي شعبي وقد يكون ذا طابع ديني، وتلبس العمامة عادة عند ظهور لحية الرجل وتلف العمامة بـ (66) طريقة وعدد لفاتها لا تقل عن (40) لفة، واللبادة وهي قبعة أسطوانية مصنوعة من اللباد اشتهر في لباسها العسكر العثمانيون الذين كانوا يَؤمون شوارع وحارات الشام بحثاً عن الشباب لسوقهم للحرب، فقد قامت السلطات التركية زمن الاحتلال العثماني في الشام أيام السفر برلك بتجنيد السوريين قسراً لتأخذهم إلى الحروب، فكان الجنود الأتراك يجوبون الشوارع أيام سفر برلك، ويلقون القبض على الشباب السوري واليافعين وأخذهم كالدواب إلى ساحات الوغى! وهذا التجنيد للشباب السوري كان يسمى «أخذ عسكر» وكذلك «السوقيات»، وهؤلاء الأتراك الذين كانوا يطوفون الشوارع كانوا يضعون على رؤوسهم هذه اللبادة.
وهنالك أيضاً العقال وهو قديم جداً، ظهر في بلاد الشام خلال عصر البرونز، وهناك صور لنقوش كنعانية تعود إلى عصر البرونز المبكر، تظهر فيها النساء وهن يربطن عصبة على الرأس مباشرة، ولكن في العصر البرونزي المتأخر تركت النساء العقال وأصبح الرجال يضعونه على رؤوسهم.
وهناك صور على جدران المقابر تعود إلى القرن الخامس عشر قبل الميلاد يظهر فيها الكنعانيون الرجال وهم يرتدون العقال على رؤوسهم. وفي بداية القرن الرابع عشر قبل الميلاد تطور العقال وأصبح قريباً من الشكل المعاصر، وكان عبارة عن شريط طويل من القماش، ويطرز أحياناً ويربط على الرأس فوق طاقية مطرزة،
كانت هنالك أنواع كثيرة من «العقل» منها العقال المؤلف من ثلاث دوائر ويسمى العقال «الفيصلي» وهو من زمن الملك فيصل الأول أول وآخر ملك على سورية، والحطة، وهي قطعة من القماش النقي الخفيف جداً الناعم الملمس، يختلف طولها وعرضها حسب مقياس الرأس ورغبة الرجل، وتوضع فوق طاقية الرأس وتنقسم إلى نوعين - حطة الصوف ويشتهر بها رجال البادية - حطة الشماخ أو الكوفية تصنع من القطن وتزين أرضيتها بأشكال هندسية معينة ترسم باللون الأحمر أو الأسود، وأيضاً هنالك الكوفية وترجع تسميتها إلى مدينة «الكوفة»، حيث كانت تُصنع من قماش القطن، وقد عُرفت على نحوٍ واسعٍ لدى السوريين والفلسطينيين واللبنانيين والعراقيين والخليجيين عموماً، وهنالك من يقول: إن الحطّة المرقّطة بالأسود تعود إلى الحضارة السومرية، فقد كان السومريون الذين احترفوا الصيد يقومون بوضع خطوط سوداء متقاطعة فوق قماش غطاء رؤوسهم وذلك رمزاً لشباك الصيد.
والعمامة أيضاً قديمة جداً وهي موجودة قبل مجيء الإسلام ولبسها الرسول محمد " ص "، وتلبس العمامة عادة عند ظهور لحية الرجل بعد سن البلوغ وتلف العمامة بـ (66) طريقة وعدد لفاتها لا تقل عن (40) لفة، ويلبس القرويون في فلسطين عمامة ذات ألوان مختلفة وعلى نطاقٍ ضيقٍ.
أما الطربوش فهو غطاء لرأس الرجل، وكان يستخدم غالباً في عهد العثمانيين وهو مخروطي الشكل أحمر اللون على سطحه مجموعة خيطان تسمى شراشيب ويلبس الطربوش أيضاً في كل من لبنان ومصر والمغرب إلا أنه وفي وقتنا الحاضر لم يعد يرى إلا نادراً على رؤوس الرجال، وحلت الطاقية محل الطربوش.
الطربوش:
ازدهر الطربوش في بلاد الشام في عقود العشرينات والثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي، وكان يعتبر ظاهرة التزام الرجال والشباب بها، فقد كان خروجهم في عُرف تلك الأيام حاسري الرأس أمراً مستهجناً، والطربوش هو غطاء للرأس كالقبعة الحمراء اللون أو من مشتقات اللون الأحمر، ولم يعرف سبباً محدداً لكون الطربوش محصوراً باللون الأحمر، الطربوش على شكل مخروط ناقص تتدلى من الجانب الخلفي له حزمة من الخيوط الحريرية السوداء (الطرة)، يصنع الطربوش من الخام الخاص(الجوخ) ويوضع معه القش الذي يستعمل كعازل للرطوبة ويكسبه متانة أكثر، وقد يصنع من دون القش، ولكل رأس قالب خاص يتراوح بين 25 سم و75 سم، ولصناعة الطربوش يقوم الصانع بتفصيل القماش اللازم على القالب، ثم يدخل إليه القش وتركب الشرابة السوداء ويكبس على الستارة، والعملية في مجملها تستغرق نصف ساعة.
عِمِّةُ الطربوش البيضاء لم تكن زياً لكل العلماء في دمشق فالشريف " وهو من عقب الإمام علي بن أبي طالب " كان يلف الأغباني حول الطربوش أو اللون الأخضر، والعلماء المعمرون لا يتعممون إلا به، أما العمة البيضاء فكانت خاصة بقضاة دمشق من الأتراك فقط ولم يلبث التقليد أن فعل فعله حتى شاعت العمة البيضاء.
وأخذ الولاة يفرضون الطربوش على رجال الدولة وصغار الموظفين، فلبسوه امتثالاً ورهبة، أما الشعب فلم يَرُق له الطربوش في البدء حتى يروى أن بعض رجال الدين أفتوا سراً بتحريمه وحضّوا الناس علي مقاومته، ولكنهم تراجعوا عن ذلك لأنهم خافوا على أُعطياتهم أن تتوقف وعلى مراكزهم أن تزول.
كلمة طربوش محرفة عن الفارسية “سربوش” وتعني زينة رأس الأمير ثم حُرِّفت إلى “شربوش” قيل أصله نمساوي، أو مغربي، ويسمى في اللغات الأوروبية بكلمة FEZ وهي تعني مدينة فاس إحدى مدن المغرب.
لكن السلطان العثماني محمود الثاني عام 1808 م قام بزيارة رومانيا وشاهد الطربوش فأعجبه وأحضره من هنالك وهو أول من لبسه ومن ثم فرضه على كافة البلدان التي كانت تقع تحت حكمة. واشتهر الطربوش في بلاد الشام، واختلفت أنواعه وعرفت بعض العائلات بتميزها بطرابيشها فكان هنالك طربوش بيت «الأبيش»، و«المهايني»، و«العظمة»، و«البكري»، و«الحسيني»، و«السبيعي»، وقد يختلف شكل الطربوش ومقاسه من بلد إلى آخر، ففي سورية ولبنان وفلسطين كان طويلاً وأشد احمراراً منه في العديد من الدول الأخرى.
حكايات الطربوش:
للطربوش قصص وحكايات، منها السياسية ومنها الشخصية، فطريقة وضعه على الرأس تشير إلى مزاجية مرتديه ووضع الطربوش مستقيماً يدل على وضع عادي لصاحبه، وإذا كان مائلاً إلى الخلف فيدل على المزاج الرايق، وإذا كان مائلاً للأمام فهذا يعني الغضب الذي يمتلك صاحب الطربوش، فتغير وضعية الطربوش على الرأس يشير إلى مزاج صاحبه.
يحدد نوع الطربوش الانتماء الجغرافي لصاحبة وذلك تبعاً لنوعية الطربوش وتزيينه بين بلد وآخر، فطربوش المغرب يختلف عن طربوش الشام، وطربوش الشام يختلف عن طربوش مصر..
والطربوش يدل على المستوى الاجتماعي والسياسي، فطربوش رجل السياسة غير طربوش العامة من الناس، وطربوش العين غير طربوش الرجل العادي، وما يلبس من ملابس مرافقة للطربوش يختلف تبعاً لوظيفة الشخص وموقعه الاجتماعي والسياسي.
إذا دخل الرجل بيته وطرة طربوشه، وهي عبارة عن حزمة من الخيوط السوداء، وتسمى في مصر شرابة، للأمام فوق الوجه فهذا تعبير عن الغضب والعصبية، فما على أهل البيت (نساء ورجالاً كباراً وصغاراً) إلا " الوضوء باللبن " وهذا تعبير كناية عن الخوف واتقاء الشر والبعد عنه، فلا يكلم سيد البيت أحداً حتى تهدأ ثورته، وللطرة أنواع منها ملكية أو عسكرية أو عباسية.
تميز الطربوش "الشامي" أحياناً بالتطريز بالخيوط الذهبية على حوافه وكان رمزاً اجتماعياً وثقافياً خاصاً لمناخ مرحلة من مراحل "دمشق" بصفة خاصة، والذين كانوا يرتدون "الطرابيش" كانوا يمتلكون موقعاً مهماً على المستوى الاجتماعي والسياسي، ولن يكون من المبالغة القول: إن الطرابيش الشامية تتكلم وتفصح عن شخصية صاحبها ومكانته الاجتماعية والسياسية ومزاجه وميوله وحالته الشخصية بشكل عام.
غدا الطربوش مع تلك الأيام الماضيات الصفة العامة لكل فئات الشعب من الغني إلى الفقير والموظف والبائع المتجول.. ودخل حياتنا السياسية والاجتماعية والثقافية من أوسع أبوابها حتى إنه تربع على كنيات أهل الشام، فكان هنالك عائلة الطرابيشي، وعائلة أبو طربوش، وعائلة طربوش، وكان هنالك الأمثال الشعبية التي دخلها الطربوش " بقرش مبخوش منعبي الطربوش و" البيس طربوشنا وقعود محلنا" وأيضاً دخل الطربوش عالم الغناء فكانت أغنية "الطربوش" و" أغنية ارمي الطربوش".
اندثر الطربوش الآن في بلادنا وأصبح من النادر جداً أن نرى شخصاً مرتدياً الطربوش، بعد أن كان الصديق الصدوق لآبائنا وأجدادنا، وكان يلازمهم حتى بعد الممات، فقد كان الطربوش يوضع على نعش المتوفى المحمول على الأكتاف وهو ذاهب لمثواه الأخير.
يتبع