من تاريخ ظرفاء الشام..البارودي وتللو توءمان روحيان - حسني تللو 2 من 2

من تاريخ ظرفاء الشام..البارودي وتللو توءمان روحيان - حسني تللو 2 من 2

ثقافة

السبت، ٤ أبريل ٢٠١٥

شمس الدين العجلاني
عائلة تللو عائلة دمشقية عريقة تعود بجذورها إلى العباسيين، هاجروا من المدينة المنورة إلى الشام وتركيا، وعملوا في الشام بمهن متعددة، وتولوا مناصب دينية ودنيوية، وقاوموا المستعمر العثماني والفرنسي، فكان منهم الشهيد نايف تللو الصحفي في جريدة المقتبس، الذي أعدمه جمال باشا السفاح.
وحسني تللو "أبو عدنان" الذي اشتهر بظرفه وخفة دمه وصداقته العميقة مع الزعيم الوطني فخري البارودي، وهو ابن سعدو آغا تللو وجده أبو الخير آغا تللو من وجوه دمشق المعروفة زمن المحتل العثماني، وكان من ظرفاء وأذكياء دمشق، وله قصته الشهيرة مع الإمبراطور الألماني غليوم الثاني وزوجته الإمبراطورة فكتوريا حين زيارتهما لدمشق عام 1898 م ورفضه إهداء حماره الأبيض للإمبراطورة،
وكان أبو الخير يفاخر دائماً بأن له حبيبين: حماره الأبيض وحفيده حسني؟
ظريف الشام:
المهتمون بتاريخ الظرافة والضحك في بلاد الشام يصنفون حسني تللو أنه أظرف ظرفاء دمشق: "حسني تللو واحد من أظرف ظرفاء دمشق. إذا تكلم صمت الآخرون، وأصغوا إلى طرفه ونوادره التي لا تنتهي – عبد الغني العطري".
هو سيد مجالس دمشق خلال فترة العشرينات إلى الستينات من القرن الماضي، اشتهر حسني أنه من أظرف ظرفاء الشام لخفة دمه وسرعة البديهة لديه، وكان على علاقات صداقة مع أكثر السياسيين والكتاب والصحفيين وهو الصديق الوفي الودود والتلميذ البار للزعيم الوطني فخري البارودي.
اشتهر حسني بضخامة جسمه، ويصفه أصدقاؤه ومعارفه أنه كان ذا جسم منتفخ جداً وعريض مدور الوجه محمرّه دائم الابتسامة حتى في المآتم، هو صاحب الوجه المشرب بالحمرة المستدير ذو العينين الخضراوين مع جفنين يظللانهما وأنف صغير وفم كالخاتم، صاحب بطن كبير جداً وفخذين كأنهما عمودان في بناء قديم. يتسابق الناس إلى مجالسته ومنادمته وهو لا يردّ نفسه عن مصاحبة إنسان شريطة أن يكون المجلس هادئاً والاجتماع رائقاً، هو على حد قول الشاعر أحمد الجندي: " جسده العريض يستطيع أن يستر عشرة أشخاص فلا يظهرون".
مع كل ضخامة جسم تللو كان صحيح البنية يمشي ويأكل ويدخن ويسهر ويرقص ويهزج ويرتاد النوادي والملاهي ويفعل كل ما يفعله الشباب، ويسأله البارودي في رسالة أرسلها له من منفاه في الأردن أن يصف له : " حياتكم تفصيلاً تاماً، وكيف تعيشون، وماذا تعملون في النوادي والأسواق، في الدور والملاهي، في المقاهي ومحال الاجتماعات.." كان يتمشى كل صباح ومساء حوالي الساعة من منزله إلى بيت البارودي في القنوات.
كان والد حسني تللو من أغنياء حي الميدان يعمل في تجارة الحبوب ولدية عدة " بواكي "وحسني تللو كان يسكن في زقاق "البركة" قرب باب السريجة، متزوج وله عدد وفير من الأولاد، منهم عدنان تللو الرحالة السوري الشهير، توفي حسني عن عمر قارب سبعةً وثمانين عاماً وقيل خمسة وسبعين عاماً، كان يكره العلم إلا على السماع، ويخوض في السياسة إلى عنقه، وهو فنان بالطبع ويجيد السماع والحديث والضحك والأكل. يقول عنه أمـير البزق محمد عبد الكريم في تصريح لإحدى المجلات الدمشقية عام 1963م: "حسني تللو هو ظريف دمشق رقم 2 وأنا أحب منه إشارات يديه أثناء الحديث وكثرة كلامه ومحبته الزائدة للطعام (أبعده الله عن باب بيتنا). ويتابع القول: "والذين يجالسون السيد حسني تللو وأنا طبعاً واحد منهم لا يكادون (يطيقون) فراقه لحظة.. إن حسني أبو النكتة..، وابن جلسة مرح لا يجارى". حسني حين يروي نكته ونوادر كان أشبه بممثل على المسرح فلم يكن يكتفي بألفاظه الرشيقة المنمقة فحسب، بل كان يشرك معها وجهه وعينيه الجاحظتين، وحاجبيه، وخديه، ويديه، وكل تقاطيع وجهه، وكرشه الضخم المكتنز..
بين البارودي وتللو :
حسني تللو هو صفي ونديم الزعيم فخري البارودي، هو الصديق القديم رقم واحد للبارودي، عاشا معاً قرابة الستين عاماً متلازمين تجمعهما المحبة والود والولائم ومجالس الظرافة والضحك، رغم المتناقضات بينهما ! واختلافهما في كل شيء!
البارودي رفيع نحيل، وتللو سمين مكور ويزن ثلاثة أمثال وزن البارودي، والبارودي عصبي لحد الانفجار، وتللو بارد هادئ حتى الصقيع، البارودي سريع الحديث فكلماته تخرج من فمه بسرعة مئة كلمة في الدقيقة، بينما تللو بطيء الحديث، البارودي زاهد بالطعام، فأكله ومشربه مثل الطيور، وتللو يعشق الطعام وهو لذته من الحياة، البارودي من عشاق الموسيقا وأستاذها، وتللو بعيد عن الموسيقا بعد السماء عن الأرض.
ومع كل هذه التناقضات يقول البارودي لتللو : "أنا راضٍ بك صديقاً لي، على الرغم مما فيك من علل"
البارودي وتللو تلازما برغم تناقضاتهما سنين طوال، وحين توفي البارودي عام 1966 م، لزم تللو منزله ولم يفارقه طوال ثلاث سنوات إلى أن وافته المنية عام 1969م، ويصف الشاعر أحمد الجندي وهو من أصدقاء تللو حالته بعد وفاة البارودي بالقول: " متعباً مرهقاً وكأنه يرى الموت أمامه، فإذا ابتسم كان ابتسامه مظلماً، وإذا ضحك كانت ضحكته كالبكاء، مبحوحة جافة".
عرف تللو بمداعباته ومشاكساته ومجادلاته لأستاذه وصديقه الحميم فخري البارودي، وذات مرة اختلف البارودي وتللو، ولكن لم يلبث أن طوى تللو الصفحة وعاد إلى سهرات بيت البارودي، فقال له الشاعر أحمد الجندي :
- هلأ كنتو متخانقين، فشو جابك لهون؟
فأجاب حسني تللو ضاحكاً:
- والله يا أحمد، لو وجدت محل بالنظارة، ما جيت لهون.
وذات مرة وفي منتصف إحدى السهرات في بيت البارودي استأذن تللو البارودي، فسأله هذا: إلى أين؟ فأشار بيده إلى بيت الخلاء.. وهنا تجاهل البارودي وعاد يسأل: إلى أين أبا عدنان؟ قال: إلى الششمة - بيت الخلاء بالتركية- وإمعاناً في التحريض على النكتة عاد البارودي إلى السؤال : ماذا ستفعل هناك؟ قال أبو عدنان: سأنقض وضوئي. وسأل البارودي أيضاً: كبيرة أم صغيرة؟ قال حسني تللو- وقد نفد صبره: من جيلك.
وذات مرة أراد البارودي أن يشرب مسهلاً لوعكة أصابته وصنعت له الخادمة "كلثوم" كأساً ملأى من مادة "الملح الانكليزي" وجاءت بها لفخري البارودي، ولكن حسني تللو كان أقرب إليها إذ كان جالساً في طرف المجلس فأعطته الكأس لينقلها لفخري، ولكن أبا عدنان أخذ الكأس وشربها دفعة واحدة، وجن جنون فخري وقام وهو يصيح: أعلى المسهل أيضاً، أعلى المسهل، يخرب بيتك؟
وذات يوم وفي إحدى سهرات الشتاء الباردة، قفزت ذبابة إلى مجلس البارودي، وصارت تضايقه بحركاتها وألعابها السمجة.. ووقفت فجأة على أذنه، فثار وغضب ثم صاح: يا ناس.. يا عالم.. ذبابة في عزّ الشتاء والبرد ؟ فحملق به تللو، وقال بعد صمت طويل: ليش مستغرب يا فخري بك؟ يمكن تكون لابسة كنزة صوف!
ويروى أيضاً عن تللو:
اشتهر في الثلاثينات من القرن العشرين أن لحسني تللو حماراً عزيزاً عليه، وهذا ما جعل الصحف والمجلات آنذاك تتناقل أخبار حماره، فتصف مجلة "المضحك المبكي" في عددها الصادر يوم 18 آب عام 1933م تحت عنوان"تكريم حمار حسني تللو" بالقول:" حمار السيد حسني تللو يعدّ سيد الحمير من دون مبالغة، وإذا نظرت إليه يمشي حسبته بغلة زرزورية، وهو ابن أصل، معروف أباً عن جد، وقد أقيمت له بالأمس حفلة تكريمية شائقة خطب فيها كثيرون من مقدري أصله وفصله، فجلس في صدر الياخور تحتاط به الجموع، والحمير مقامات."
ولظريف الشام حسني تللو حكاية مع سيدة الغناء العربي أم كلثوم، يرويها هو بنفسه فيقول: "جاءت أم كلثوم إلى الشام لتغني في المنشية ورحت مع أبي لأسمعها.. ونحنا قاعدين طال الانتظار.. ودبل أبي ونام!!! وقت طلعت أم كلثوم صحي... لكن كان لسّا النوم آخدو.. ولما بدأت الآلات الموسيقية وغنّت أم كلثوم الأغاني الرائعة.. رجع أبي وكبا..!! ونام !!! وكان قاعداً جنبي أحد كبار القوم.. قال لي: دخلك مين هالحمار يللي قاعد جنبك ؟ قلت له: أبي...!!
قال لي: الله يبارك لك فيه.. وهالسلالة إن شاء الله ما بتنقطع !!..
وفي الثلاثينات من القرن الماضي أخذ المستعمر الفرنسي يستعيد مصالح الدولة من أيدي السلطات الوطنية، فينقل مصلحة السجون من يد الحكم الوطني إلى يد السلطة الفرنسية، فيكتب حسني تللو رثاءً طويلاً في "المضحك المبكي" بمناسبة انتقال مصلحة السجون جاء فيه: "ولي على قامتي انشالله، شو بقا فضل بإيدنا بعد ما طارت منا مصلحة السجون، يو الدم يحرقني عليها، والله العظيم وقت سمعت هالخبر عنها نمّل كل بدني.. شو ساوينا نحنا مع ربنا حتى يكرفت علينا المصائب كرفته؟؟ كانت مصلحة الدرك بإيدنا فطارت منّا، وكانت دائرة الشرطة بإيدنا فطارت كمان وهاي اليوم طارت روح مصلحة السجون إلى رحمة السلطة.. فولي على هالحالة ما بعيد بكرا نحنا نطير كمان".
المراجع :
مذكرات فخري البارودي – عبقريات شامية لعبد الغني العطري – لهو الأيام لأحمد الجندي – أرشيفي الخاص