من تاريخ ظرفاء الشام: البارودي وتللو توءمان روحيّان / الحلقة -1-

من تاريخ ظرفاء الشام: البارودي وتللو توءمان روحيّان / الحلقة -1-

ثقافة

السبت، ٢٨ مارس ٢٠١٥

شمس الدين العجلاني
الظَّرافُة والطرافة والكياسة، النكتة والهزل والفكاهة، كانت تسرح وتمرح في بلادنا في تلك الأيام السابقات، وظهر عبر تاريخنا أسماء كثيرة لشخصيات سياسية وأدبية وفنية وشخصيات من عامة الناس اصطلح على تسميتهم "ظرفاء الشام"، فكان منهم الصحفي سعيد الجزائري، والمحامي الأديب نجاة قصاب حسن، وغسان الألشي ابن رئيس الوزراء جميل الألشي زمن الانتداب الفرنسي، والشاعر أحمد الجندي، والصحفي، نائب دمشق في المجلس النيابي، حبيب كحالة صاحب مجلة المضحك المبكي، وأمـير البـــــزق محمد عبد الكريم، ومحمد صبحي أبو غنيمة الأردني الذي عاش بدمشق، وفوزي تللو الذي ولد بدمشق عام 1917، وتوفي فيها عام 1977، وأبو درويش سويد السياسي والتاجر الذي كان لا يعرف القراءة والكتابة وكان الصديق الصدوق لمحمد كرد علي، والدكتور عزت الطباع، وأبو ماجـــد، وأبو سليمان الجيرودي، وعــزت ســلطان، وعبد الرزاق المرادي، وشيخ الصحافة عبد الغني العطري، وصلاح المحايري، والسياسي سعد اللـه الجابري، وضياء الحكيم الذي كان من رواد مقهى البرازيل وكان خياطاً للقمصان، والمحامي محمود الصابوني، والصحفي رشيد الملوحي، والفنان التشكيلي برهان كركوتلي، والفنان نهاد قلعي، والفنان حكمت محسن، والفنان محمد أنور البابا، والفنان عبد اللطيف فتحي، والصحفي سعيد التلاوي الذي يدعى (أبو ســمو). والشاعر محمد الحريري، ورجا الشربجي الذي كان جاراً للبارودي واشتهر أن النقد عنده ملازم للنكتة، وهو مقلد بارع ويقول أحمد الجندي عنه: " إنه أبرع من يقلدني بحديثي في لهجة أهل السلمية"، وغيرهم الكثير..
ورجا الشربجي المشهور باسم «أبو عامر» هو آخر ظريف عرفته دمشق.
كانت أخبار هؤلاء الظرفاء تتصدر صفحات الصحف والمجلات، ويتسارع الناس لمجالسهم ويتناقلون أخبارهم.
ويبقى الزعيم الوطني فخري البارودي الذي جعل منزله في حي القنوات ملتقى رجال الأدب والسياسة والظرف، وحسني تللو هو الصديق الصدوق للبارودي، نموذجاً فريداً متميزاً للصداقة والطرافة والنكتة.
البارودي الظريف :
هل منا من يتذكر فخري بك البارودي!؟ لا يكاد يعرفه في دمشق ربع من كانوا يعرفونه يوم وفاته «على حدّ قول دعد الحكيم» ومن يعرفه الآن فقد يعرفه بالاسم فقط! في يوم ما وزمن ما كان فيه فخري البارودي مالئ الدنيا، وشاغل الناس غنيّهم وفقيرهم، سادتهم وصعاليكهم.
فخري البارودي ظاهرة لم تتكرر في تاريخنا، تحتار أين تصنفه هل هو سياسي، عسكري، صحفي، شاعر، موسيقي!؟ تضيق عليه كل الأوصاف، ولكنه كان يحب لقبه الذي كنَاه به أهل الشام «شيخ الشباب».
هو فعلاً شيخ الشباب والوطنية والإبداع.. أعطى الوطن الكثير من ماله وجهده ونضاله وعذاباته، ولم يأخذ منه سوى الانتماء وهذا ما كان يحلم به، أن يكون جزءاً من ورد الشام وعبق ياسمينها وأريج زهر ليمونها..
الظرفاء هم فاكهة المجتمع وزينتها وجمال تنويعها، ولهم دائماً من حب الناس نصيب عظيم، بوجودهم تتلطف الأجواء وبقصصهم ونوادرهم تحلو المجالس وتتجمل، وعنهم يتناقل الناس السير والأخبار، ويقصون القصص والحكايا، ليست هنالك صفات محددة تحكم تعريف الشخص الظريف، وقد يكون الظريف "هو الشخص الذي يتمتع بالذكاء المقرون بالبراعة، وبسرعة الخاطر، وسرعة الخروج من الحرج، والكياسة واللباقة في التصرف والقول والمظهر. وهو إلى ذلك فَكِهٍ ضحوك، في نكاته وردوده، وتعليقه على قول أو حدث. وكثيراً ما يَشيع كلامه، ويصبح قولاً سائراً يردد في مثل المناسبة التي قيل فيها."
وفخري البارودي الزعيم الوطني المعروف كان يتصدر قائمة ظرفاء الشام، فقد عُرِف عنه منذ نشأته بميله إلى اللهو والمرح ومجالس الأنس والطرب، كان ذكياً جداً يعرف ما يريد أن يعمل ويعمل بعقل وبتؤدة، وكثيراً ما كان يستشير الصغير والكبير في أموره الخاصة، هو ظريف ومحدث لبق، لكنه كان عصبي المزاج بسبب مرض السكر الذي كان مصاباً به، وكان قوياً حتى آخر أيامه، ولكنه كان لا يملك السيطرة على لسانه، فإذا ثار بدرت منه ألفاظ غير لائقة، ولكن أصحابه ومعارفه تعودوا على سماع هذه الألفاظ حتى لم يعودوا يستنكرونها، بل كانوا يثيرونه بين الفينة والأخرى ليسمعوها منه، وكان أكثر من يثيره من أصدقائه كل من حسني تللو وأحمد الجندي ورجا الشربجي..
سجن وهاجر ونفي ودعم الثورة ضد المستعمر الفرنسي، وكان الوطنيون يزورونه في بيته في دوما.
هو خطيب شعبي كانوا يخافون جرأته ولسانه، نظيف المظهر جداً يكره النميمة والحديث عن الناس، كانت الورود الحمراء من اهتمام البارودي وكانت الوردة الحمراء لا تفارقه ولا تترك صدره أبدأ.
يسجّل للبارودي سبقه في عالم الصحافة الفكاهية، فكان قد أصدر عام 1909 م أول جريدة فكاهية بدمشق وأطلق عليها اسم «حط بالخرج»، وكانت صحيفة أسبوعية يحررها بالعامية بأسلوب ضاحك، مرح وخفيف الظل. وأصدر العددين الأولين بتوقيع «عزرائيل» فراجا رواجاً كبيراً
امتاز فخري البارودي بروحه المرحة وسخريته ودعابته ومزاحه وبمقالبه.
كان البارودي يستخدم طرافته وظرفه وخفة ظله أحياناً لينجو بنفسه من مأزق يقع به، فأثناء محاكمته عام 1925 م إبان الثورة على المحتل الفرنسي، بتهمة معاونة الوطنيين وإمدادهم بالسلاح والمؤن، حضر رئيس الاستخبارات الفرنسي، لأداء الشهادة أمام القاضي، وكانت شهادته لمصلحة البارودي، ما أثار المدعي العام الفرنسي، فقال غاضباً، ألهذا الحد بلغ بك الدهاء يا مسيو بارودي حتى لعبت بعقل رئيس الاستخبارات؟ فأجابه البارودي: يا سيدي أنا رجل بسيط من شعب بسيط، وأعتبر نفسي جاهلاً لا أحمل أي شهادة، فإذا كنت أستطيع أن ألعب بعقل رئيس استخبارات فرنسا، الرجل العالم الذي يحمل أكبر الشهادات العليا، فإنه يكون من حقنا، أن نندب عليكم لا أن تندبوا علينا، لتعلمونا وتوجهونا. فضج الناس بالضحك، حتى إن رئيس المحكمة عندما ترجمت له هذه العبارة أغرق في الضحك، وقد حكم بعد ذلك ببراءته، شرط إبعاده إلى لبنان، وقد ظل رده هذا موضع تندر أهل البلد وإعجابهم مدة طويلة.
كان فخري البارودي رحمه اللـه زعيماً وطنياً سياسياً، شاعراً مبدعاً، فناناً، مؤرخاً ممتازاً، صحفياً بارعاً، وكان بيته مركزاً إشعاعياً ثقافياً واجتماعياً وفنياً. كان رحمه اللـه سيد الطرفة وتربع على قائمة ظرفاء الشام.
وكان بيت فخري البارودي مرتعاً للسياسة والفن والأدب والطرفة والظرافة.
بيت البارودي :
يعتبر بيت فخري البارودي من أجمل بيوت دمشق التقليدية خارج السور، ويعود تاريخ بنائه إلى أكثر من 200 عام، وعماره البيت خليط من العمارة العربية والأوروبية، فهو يحمل مجموعة من السمات التي تراكمت خلال العصور المتعاقبة، فهو بيت تقليدي من الناحية الإنشائية استلهم زخارفه ورسوماته من الفنون الأوروبية.
البيت يحتوي على النقوش التزيينية  للأسقف والجدران المشغولة بما يعرف بـ«العجمي»، فضلاً عن المخطط الرئيسي لتوزع غرف البيوت الدمشقية القديمة، التي تتوضع عادة على طابقين، وتحيط بفناءٍ داخلي تظلله أشجار «النارنج» والبرتقال، والليمون الحلو، وعرائش الياسمين، ونبتة «المجنونة» المشهورة بها البيوتات الدمشقية، على حين تمنحه نافورة المياه سحراً خاصاً. بيت البارودي ذو مساحة كبيرة تبلغ 1800 متر، مؤلف من طابقين، ويضم عدة أواوين «الإيوان هو قاعة مسقوفة بثلاثة جدران فقط والجهة الرابعة مفتوحة تماماً للهواء الطلق، أو قد تكون مصفوفة بأعمدة أو يتقدمها رواق مفتوح وتطل على الصحن أو الفناء الداخلي للبيت الدمشقي». وفسحات سماوية وقاعات داخلية واسعة وبحرات خارجية وداخلية وطوالع مياه. تم اعتبار بيت فخري البارودي شريحة أثرية، وتم ترميم جزء منه بمساحة 900 متر وهي قسمان «السلاملك» و«الخدملك» ويضمّان 20 غرفة، أما قسم «الحرملك» فهو لم يستملك بعد وتشغله جمعية خيرية، وهو في حالة يرثى لها.
البيت ينقسم إلى ثلاثة أقسام كحال البيوت الدمشقية العريقة، وهي «السلاملك» وهو مخصص للضيوف و«الخدملك» وهو مخصص للخدم العاملين في البيت «الحرملك» وهو مخصص للنساء. وكان قد اشتراه والد فخري البارودي من إحدى العائلات الدمشقية وسكنه. وقام بإنجاز الكثير من أعمال الإصلاح في البيت.
يشكل بيت البارودي جزءاً لا يتجزأ من تاريخ دمشق على الصعد السياسية والثقافية والفنية.. ولن يكون من المبالغة القول: إنه يشكل أهم صفحات تاريخنا وأنصعها بياضاً.
في بيت البارودي، تأسست الحكومات، وأسقطت الحكومات، في بيت البارودي تأسست الأحزاب وعقدت الثورة السورية عزمها على مقارعة الاستعمار الفرنسي، وفي بيت البارودي سرجت خيول الانتصار وولدت الوطنية والفن والثقافة والطرافة.
ليس هنالك سياسي أو شاعر أو مطرب أو موسيقي، كان بدمشق أو أمَّ دمشق لم يمرَّ ببيت البارودي.. من الوالي حسين ناظم باشا إلى فارس الخوري وسعد اللـه الجابري وأم كلثوم، أحمد شوقي، عبد الوهاب، فايزة أحمد، عمر البطش، أمير البزق محمد عبد الكريم، وصباح فخري والقائمة تطول؛ كلهم مروا بهذا البيت أو تربوا فيه أو تمت رعايتهم والاحتفاء بهم.
في بيت البارودي سكن والي دمشق العثماني حسين ناظم باشا لمدة سبع سنوات ريثما أنجز قصره الذي بني في حي المهاجرين، فحين قدوم هذا الوالي لدمشق أراد بناء قصر يليق به، وبحث عن بيت يسكن به ريثما يتم بناء القصر، فقام والد فخري باستضافته في منزله لمدة سبع سنوات، وانتقل هو وأهله إلى منطقة دوما وسلم البيت للوالي.
في بيت البارودي تأسست أول حكومة سورية سنة 1918 في عهد الأمير فيصل... تعدى الإنسان والزمان على بيت البارودي، فبعد أن تخلى عنه فخري آلت ملكيته إلى آل ـبيضون، وتحديداً للأديب وجيه بيضون حيث استعمله لأعماله التجارية فجعله داراً للنشر ومطبعة اسمها مطبعة ابن زيدون.
ظلت المطبعة قائمة في بيت البارودي حتى نهاية سبعينيات القرن الماضي، وبعدها تنبهت الجهات المعنية إلى أهمية البيت وتمَّ استملاكه لغايات ثقافية، وبقي البيت فترة زمنيه مهملاً متهالكاً بعد أن تمَّ استملاكه من الدولة، إلى أن تمَّ ترميمه منذ سنوات وأصبح مقراً لمنح شهادة ماجستير الدراسات العليا لترميم المباني التاريخية والحفاظ على المواقع الطبيعية والأثرية والعمرانية.
يقع بيت البارودي في حيٍّ يعود تاريخه لأكثر من ألف عام، هذا الحي هو حي القنوات الدمشقي العريق، الذي تعود بدايات تشكله إلى الزمن الروماني، ولكن توسع الحي وظهور تشكيله كان في العهد المملوكي وازدهاره كان في العهد العثماني، بعدما قطنه أعيان دمشق والعديد من المسؤولين الأتراك نظراً لقربه من المباني الحكومية المهمة.
في هذا البيت ولد جزء كبير من تاريخنا السياسي والنضالي والأدبي والفني وكان مرتعاً للطرافة والظرافة ومستقراً لظريف دمشق حسني تللو.
يتبع