الأمُّ التي أهواها .. بقلم: أ. إيمان العرقسوسي

الأمُّ التي أهواها .. بقلم: أ. إيمان العرقسوسي

ثقافة

السبت، ٢١ مارس ٢٠١٥

صيغ الكثير عن حضورها واختفائها، وحيائها وحنانها، ما سرُّ وجودها في حياتنا وعلاقة تعلقنا بحبل السرّة وتمسكنا برضاها؟ حدّثوني عن اسمها وشكلها وإشكالية تناول مغزاها، ما لونها؟ تأملوا معي حين نغيب؛ كيف يكون شكل عينيها؟ متهيبةً منتظرةً دائماً سماع صوتنا، أو ترنو إلى دبيب خطواتنا، تسترق السمع عن حياتنا ومجريات مسيرتنا، جلّ الذي أخشاه حين أو صانا بها؛ جلَّ الذي صاغ بناها، يا أجمل الجميلات!! سمراء كنت أم شقراء أم بيضاء، أنت الحلا مهما كبرت، تبقين أرشق من أي باشق، تبقين قلب الطفل الأقرب إلى القلوب من أي فاتنة، تملكين عقل رجال في جسد أنثى سهلة وصعبة في آن، بل في القلب والعقل، أنت البقاء، أنت بيت العمر والجنّة، نسجت تحت قدميك، فكنت لها جمال الظلال، المفردة اللغوية الوحيدة التي أجمعت عليها البشرية بعد كلمة الإله؛ كانت أنت، حيث كان خلقك بكذا شاكلة، كي يستمرّ الخلق منك ومعك، كنت الأولى بعده لكونك منتشرةً ومتشابهةً، وهو لا مثيل له، لتظهري على الوجود ضمن المعنى والإحساس والغاية في المبنى، ولست منحصرةً فقط في صورة الجسد. والحديث عن الأم تلد أو لا تلد، لا يتوقف عند معنى وحيد لها، لكونها مفردةً تخص الأنثى بين تنوعات حضورها، أي إن توافر عامل الأنوثة؛ يمنحها سمة اللطافة والأمان والحنان والحب، فهي مدرسة وأستاذة مربيّة ومتبنيّة، تهب ذاتها من أجل الآخر، تعطيه المفقود، وتعوض النقص لديه، لذلك تكون الأمّ، ليست فقط من تنجب طفلاً أنثى كان أم ذكراً، بل من الممكن جداً، أن تأخذ دور الزوجة والابنة والأخت، والصديقة العشيقة والعاهرة، الزانية والداعرة، أو الجدة والعمة والخالة، فالأمّ رمزية الحمل والولادة والحضن والحبّ والرعاية، الاحتواء الذي اختصت به حواء، فكان من اسمها أيضاً الأرض والدنيا والحياة والوطن، فهذه المفردة التي تسكننا من نعومة أظفارنا، واخترقت عقول جميع البشريّة على اختلاف درجات مراكزها، لا تعرف غنيّاً أو فقيراً، سياسياً أوً اقتصادياً، كاهناً أو شيخاً، كافراً أو مؤمناً، الكلّ يحمل فكرة الأم بقوة بين تلافيف فكره، مستذكراً بين الفينة والأخرى حضور أمومتها له بحكم الولادة المستمرة في الأسرة والمحيط، لذلك تجدني أعيدها إلى أصل الأشياء في الأجناس الحيّة؛ إنسان.. حيوان.. نبات.. وبعيد تفكيك تعريفها نقول: إنها الشيء يتبعه ما يليه، تعطي ولا تنتظر، تلد، تربي، تحتضن، تنشئ، تحمي، تهدهد طفلها، وتهزّ سريره بيمناها، وتحرّك العالم بيسراها، فكانت بصيغتها وصبغتها بين الأحياء أكبر من أيّ قداسة، حتى وإن تمَّ تجريدها من أيّ فضيلة تبقَ فضيلتها الخالدة الأمومة، التي يقف جميعنا أمامها باحترامٍ، وننحني باقتدار، تمثل لنا الوقار والهيبة، فرضاها رضى الإله، وغضبها غضبه، حتى وإن كان حالةً نفسيّةً، تريحنا أو تزعجنا، لذلك نسعى بالمحبة لاستسماحها، ونيل حبّها ورضاها، وإن غضبت في صوتها وشكلها، فإنَّ قلبها محبٌّ، لا يعرف الكراهية، ومهما كان ابنها ناجحاً أم فاشلاً، سيّداً أم عبداً، متعلماً أم جاهلاً، أميناً أم سارقاً، تحضنه بذات دموعها، تذرفها بين هنا وهناك، وحلمها الدائم، أن يكون الأفضل، وأحسن الحسن، حتى وإن كان بعيداً عن عناصر الجمال، فهو الأجمل، وكذلك هي كيفما كانت من درجات الجمال أو عدمه، حرّةً أم عبدةً أم سيدة فائقة الجمال، أم متوسطة، سجينةً كانت أم طليقةً، رائدةً في عملها أم ناسكة، راهبةً متعبدةً تحمل اسم الأمّ، وهو يحمل لقب الابن الوليد، الطفل الرجل الكهل، أو الصبيّة البنت، ومهما تعددت مراتبها العمرية، تصلِّ دائماً من أجلنا، تمدّ أنامل الحبّ، تمسح عنا آلامنا، حنوّها سلام تمرّ به، تداعب رؤوسنا، تعانقنا، تشاغل حياتنا، هي ليست فكرةً عابرةً أو صناعةً من كلمات، إنّها الفكرة والكلمات والبدء الذي لولاه لما كنّا، وكيف سيكون حالنا، لو أنّ ليليث أمّ حواء كانت عاقرة، وأيضاً لو كانت حواء أمّ البشرية فكرياً، لم تلد التوءمين؛ فهل كان للوجود وجود؟
بدأت الخليقة، كما أسلفت، بها، وتنتهي بها، لذلك كان الإصرار في يوم النهاية، أن يُنادى على المرء ذكراً كان أم أنثى باسمها، لأنها وحدها، تعرف مصدر جنينها، أي من أيّ ذكرٍ حملت، فهي الوحيدة بعد الإله، تعلم هذه الحالة. فالأمّ التي أهواها، ويهواها كل إنسان، تلك التي تحتمل عبثنا وشجوننا ومجوننا، وتلملم جراحنا، وتشدّ من عزائمنا، تلك التي تدفع بنا إلى الحياة طالبةً منا أن نبني فيها، تستثمرنا فيها، لتفتخر بثمرات استثمارها، تلك الصبورة في المحن والمدبّرة حين حلول الأزمات، تلك التي تعطي الأمل، وتدفع للعمل وحبّ الحفاظ على النعم، تلك الأمّ التي ينبغي على جميعنا أن نهواها.