المضحك المبكي ورواد فن الكاريكاتير السوري

المضحك المبكي ورواد فن الكاريكاتير السوري

ثقافة

السبت، ٢١ فبراير ٢٠١٥

شمس الدين العجلاني
رسم بسيط وتعليق قصير ساخر لفكرة كبيرة، هكذا عرّف الباحثون فن الكاريكاتير، وأنه رسم قد يختصر آلاف الصفحات، ويرسم الإبتسامة على شفاه آلاف القراء.. رسم قد يُطبع في ذاكرة الإنسان لسنين طوال.
فن الكاريكاتير هو الفن السهل الممتنع، الفن الصعب الذي يحاكي المتلقي بكل بساطة... الفن القادر على اختزال كم هائل من المشاعر والمواقف في مشهد واحد يعتمد التكثيف البصري والمعالجة الغرافيكية أداة لاستنفار مخيلة القارئ وإشراكه في العمل الإبداعي.
الكاريكاتير حسب تعريف اللغويين هو: فن الإضحاك بالتضخيم، أو المسخ لصورة شخص ما، أو قضية ما، أو شيء ما، بهدف الانتقاد والسخرية، أو هو حسب رأيهم: فن مضحك في ظاهره، ناقد فني في مدلوله..
عودة للماضي :
يقولون: إن عمر فن الكاريكاتير تجاوز خمسة آلاف سنة، وإن بدايته كانت في مصر الفرعونية، فالمصريون القدماء هم أول من تنبّه إلى هذا الفن الذي يحقق مآربهم في السخرية والتعريض بالحاكم وكل ذي سلطة مستبدة، في ذلك الوقت كان التفكير للسادة فقط: الملك، والكاهن. فهما وحدهما يعرفان الخير والشر، ويدركان الأسرار والأشياء، ويعلمان ما حدث بالأمس، وما سيحدث في الغد، أما باقي أفراد الشعب فليس لهم سوى الطاعة وتنفيذ رغائب السلطة.. فكان الفنان الفرعوني يستخدم الحيوانات والرموز البسيطة للتعبير عن رأيه الحقيقي بأصحاب السلطة ويُظهر عيوب مجتمعه أملاً في إصلاحها،. لأن هذا الفن منذ وجد لصالح المجتمع بكافة شرائحه لم يكن له أي هدف ضد السلطة أو القوى الحاكمة بقدر ما كانت غايته الإصلاح والسير بالمجتمع نحو التقدم والخير.
كما عرف فن الكاريكاتير عند الآشوريين، واليونانيين، وذكر المؤرخون أن مصوراً يونانياً يدعى بوستن، أو بوزون، صوّر بعض المشهورين على شكلٍ يدعو إلى السخرية، الأمر الذي أدى إلى معاقبته أكثر من مرة، دون أن يرتدع. تحدث عنه أرسطو، وأرستوفانتس، بوصفه شخصاً يرسم رسوماً ساخرة للناس، وقيل إنه قتل تحت التعذيب بسبب تلك السخرية!
أما في العصر الحديث فقد بدأ هذا الفن ينتشر في أوائل القرن السابع عشر في هولندا، ومن ثم في إنجلترا حيث ظهر جورج توتسهند، ووليم هوجارت وتوماس رولاندسون وجيمس جيلراي، وكانت رسوماتهم باللونين الأبيض والأسود، ثم يلونونها بأيديهم ويوزعونها على المكتبات، وفي إيطاليا ظهر جيروم بوش وينبال، ويُعِدُّ الكثير من الباحثين أن ليونارد دي دافنشي أبًا لفن الكاريكاتير في إيطاليا، وكان من أشهر الايطاليين تيتيانوس (1477-1576)، الذي عمد إلى مسخ بعض الصور القديمة المشهورة، بإعادة تصويرها بأشكال مضحكة. وفي فرنسا شهد هذا الفن تطوراً كبيراً على يد مجموعة من الفنانين أهمهم هو شارل نيليبون الذي أصدر مجلة كاريكاتيرية، ثم جريدة يومية باسم الشيفاردي عام 1830م، وأندريه دومييه الذي سُجن في عهد الملك لويس فيليب بسبب رسوماته الساخرة من الطبقة الأرستقراطية والملك نفسه.
وفي الاتحاد السوفييتي ظهر هذا الفن على يد ابنيه ستروب ولورسي إيفيموف اللذين لعبت رسوماتهما الكاريكاتيرية دورًا تحريضيًّا سياسيًّا.
قد يكون العرب عرفوا فن الكاريكاتير بطريقة خاصة ومنذ زمن بعيد، فهذا الشاعر الحطيئة الذي صور وجهه هاجياً نفسه بطريقة ساخرة حينما قال: أرى لي وجهاً قبح الله خلقه ... فقبح من وجه وقبح حامله.
وفي العصر العباسي نجد السخرية أيضاً في النثر عند عثمان الجاحظ ولعل ما كتبه عن البخلاء لخير دليل على ذلك، وعند أبي دلامة وعند ابن الرومي الذي يرسم أحد البخلاء بلهجته الشعرية فيقول: يقتر عيسى على نفسه، وليس بباق ولا خالد ولو يستطيع بتقتيره، تنفس من منخار واحد.
ولكن هذا الفن لم يظهر عند العرب ضمن الإطار الحالي حيث تأخر في الظهور إلى أن تأثر بعض الفنانين العرب بالعالم الأوروبي فكان ظهوره في مصر، كما تشير أغلب المراجع، على يد الصحفي يعقوب صنوع، صاحب الجريدة الهزلية التي كانت تسمى "أبو نظارة".
ومن ثم توالى ظهور رسامي وفناني الكاريكاتير على مساحة الوطن العربي وأسسوا فنًّا عربياً قائماً على بنية سياسية وثقافية واجتماعية عربية وأبدعوا في مجالهم، وتربعوا على قممه وحصدوا الجوائز الدولية..  
تعتبر فترة الخمسينات من القرن الماضي هي فترة ولادة فن الكاريكاتير العربي على يد كل من صلاح جاهين وجورج البهجوري وناجي العلي وبهجت عثمان و.. وتطور فن الكاريكاتير لاحقاً، وتعدّدت أنواعه، فمنه الكاريكاتير السياسي، والاجتماعي، والرياضي... وتربّع على قمة هذا الفن، فنانون كبار، في مصر وسورية ولبنان وفلسطين، وفي غيرها من البلدان العربية.. فساهم العديد من الفنانين العرب في إرساء دعائم هذا الفن منهم عبد اللطيف مارديني، سمير كحالة، علي فرزات محمد الزواوي وخليل الأشقر... وكانت أعمالهم الفنية دعوة صريحة ضد طغيان الاستعمار آنذاك، أو انتقاداً لحالات اجتماعية، أو سياسية..
ويشير بعض المهتمين بفن الكاريكاتير أن فن خيال الظل (الكاراكوز) الذي شهدته بلادنا زمن العثمانيين هو بداية لفن الكاريكاتير. ويرى هذا البعض أن فن (الكاراكوز) أقوى وأشد خطورة من الكاريكاتير المرسوم على الحجر، فهو يتحرك ويمثل ويروي قصصاً. 
فأين الفنان السوري من فن الكاريكاتير !؟
المضحك المبكي :
قد تكون بدايات فن الكاريكاتير السوري مبنية على قصص الأولين في كليلة ودمنة والحكواتي وصندوق الفرجة وخيال الظل (كراكوز وعيواظ)، والنكتة الشعبية... وأن هذا الفن تطور في بلادنا في العشرينات من القرن الماضي، دون أن يخضع للدراسة الجامعية الأكاديمية لمُبتكريه، بل كان مولوداً من داخل الفطرة والموهبة الفردية المدربة على رؤى مشهدية ومُخيلة مفتوحة على السرد.. : (لعل هذه الرسوم إذا وقعت عليها عين رسام ماهر وجد فيها أخطاء جمة، وأنا أعترف بذلك لأنني لم أهتد في رسومي هذه إلا بفطرة وسليقة أضيف إليهما شيء قليل من التثقيف الفني والتمرين.. عبد اللطيف الضاشوالي عام 1947 م).
في ذاك الزمن ظهر على ساحة فن الكاريكاتير في سورية كل من، عبد اللطيف الضاشوالي، وطارق ممتاز يازغان آلب، سمير كحالة، مظهر شمه...
شهدت فترة الخمسينيات من القرن الماضي قفزة نوعية في الصحافة السورية حيث صدرت المئات من الجرائد والمجلات في كافة أنحاء سورية وانتشر معها هذا الفن وكانت تجربة صحيفة المضحك المبكي لصاحبها حبيب كحاله(1898-1965) تجربة سورية نادرة افتقدتها الساحة العربية وبرز على صفحات المضحك المبكي الفنان سمير كحالة (ابن حبيب كحاله) برسومه الكاريكاتيرية الجريئة التي تناولت كل جوانب الحياة السورية، وابتدعت المضحك المبكي العديد من الشخصيات الطريفة التي سخرتها لمعالجة قضايا المجتمع، مثل السياسي الحشاش، وأبو الشمقمق، والأستاذ المقص وشخصية الحمار، وظهرت على صفحات " المضحك المبكي " أبوابها الهزلية والساخرة المتعددة مثل: (حديث سياسي حشاش) و(القراء يسألون ويستفتون والمضحك المبكي تفتي لهم) و(هنا يحرر الأستاذ المقص) و(الكلام بسرك) و(مضحكات مبكيات) و(حكمة الحمار) وإلى آخر ما هنالك من أبواب اشتهرت في هذه المجلة واشتهرت المجلة بها.
المضحك المبكي :
تعتبر " المضحك المبكي " الساخرة الهزلية من أهم الجرائد السورية بل الجرائد العربية التي اعتمدت على فن الكاريكاتير، وهي ليست السباقة بالصدور بدمشق كجريدة هزلية ساخرة إنما سبقها بالصدور، صحيفة " حط بالخرج " لصاحبها فخري البارودي، ثم تلاه توفيق جانا في صحيفته "جراب الكردي"، وجريدة "جحا" لصاحبها "محيي الدين الزركلي"، وجريدة "حمارة البلد" لصاحبها "نجيب جانا" وفي عام 1929 صدرت مجلة " المضحك المبكي" لصاحبها " حبيب كحالة"، وكانت " المضحك المبكي " أهم هذه المطبوعات، سواءٌ بخطها التحريري أم بالمكانة الرفيعة التي كانت تخصصها للكاريكاتير. وهي الصحيفة التي أطلقت فن الكاريكاتير في سورية، فكانت تخصص غلافها الأول والأخير لرسم كاريكاتيري ناقد هزلي ساخر جريء، وحمل غلاف عددها الأول رسماً كاريكاتيرياً لرئيس الجمهورية آنذاك الشيخ تاج الدين الحسني، وكان حبيب كحالة، مؤسس " المضحك المبكي " ورئيس تحريرها ومديرها، ورساماً كاريكاتيرياً أيضاً.
عمل نجيب كحالة على استقطاب الفنانين التشكيليين، لممارسة فن الكاريكاتير على صفحات مجلته، وطلب من الرسام الرائد في الفن التشكيلي في سورية توفيق طارق (1875-1940) رسم الكاريكاتير على الغلاف الأول والأخير لمجلة المضحك المبكي، فقام توفيق طارق برسم الأعداد الخمسة الأولى من المجلة، وقد تعرف حبيب كحالة في بيروت على شاب يدعى خليل الأشقر، وكان يجيد رسم الكاريكاتير فاتفق معه على العمل في مجلة المضحك المبكي وقدم معه إلى دمشق، وخصص حبيب كحالة لهذا الشاب مكان الإقامة، واستمر خليل الأشقر برسم الكاريكاتير للمجلة تسع سنوات، وكان يوقع رسومه باسم خليل وأحيانا باسم جوليان أو جوليان درويش أو درويش فقط بالحرف العربي وأحيانا بالحرف اللاتيني.
كان الرسم الكاريكاتيري الأول " للمضحك المبكي " بريشة خليل الأشقر على الغلاف الأخير في العدد الصادر عام 1931، وتحت عنوان (نصيحة وزاوية) وهو رسم يمثل المسيو بريان وهو أريستيد بريان (1862-1932) سياسي فرنسي تولى رئاسة الوزارة ووزارة الخارجية الفرنسية، يسأل الشيخ تاج الدين الحسني (1890-1943) الذي شكل الوزارة السورية وتولى رئاستها في فترة المندوب السامي هنري بونسو، وقد استمرت هذه الوزارة من 15 شباط 1928 إلى  تشرين الثاني عام 1931و التعليق يقول : " المسيو بريان: (دخلك يا شيخ قول لي شو عمال تعملوا حتى ثابتين بوزارتكم ونحنا كل يوم بتسقط عندنا وزارة؟)
الشيخ تاج: نصيحة لوجه الله، روحوا شكلوا وزارة مؤقتة، ابتبقا عطول..."
ونجد في الرسم الكاريكاتيري الثاني والذي نشر على الغلاف الأخير لمجلة المضحك المبكي في العدد(36) الصادر عام 1931، وقد وقعه خليل الأشقر باسم جوليان بالحرف اللاتيني زعيم الشباب الوطني فخري البارودي (1889-1966) يخاطب وزارة الشيخ تاج الدين الحسني، وينشد لهم أغنيته التي اشتهرت في ذلك الوقت والتي كان مطلعها: لزقتو متل التمرية.. وماكنتو تقوموا تروحو.
أعطى نجيب كحالة، عبقري الصحافة الهزلية السورية، جلّ اهتمامه لفن الكاريكاتير فكانت صفحات مجلته تعج بالرسومات الكاريكاتيرية واستطاع بذلك تأسيس الكوميديا السياسية على ساحة الصحافة السورية. كانت «المضحك المبكي» تتناول بالسخرية الشخصيات السياسية والأحداث التي تمر بها البلاد، وهذا ما جعلها عرضة للإغلاق فترات كانت تطول أو تقصر بسبب مقالات كان المفوض السامي أو مندوبه إذ ذاك يعتبرها مهينة من شأنها أن تؤدي إلى اضطراب الأمن وتهييج الشعب.
المراجع :
*أعداد مختلفة من مجلة " المضحك المبكي "
* مهيار ملوحي
* أرشيفي الخاص