المشروع القومي العربي والشمولية الغائمة...مفاهيم عشقها الإنسان العربي وعدّها أهم ما يملك في لغة «نحن»

المشروع القومي العربي والشمولية الغائمة...مفاهيم عشقها الإنسان العربي وعدّها أهم ما يملك في لغة «نحن»

ثقافة

الثلاثاء، ١٧ فبراير ٢٠١٥

المشروع القومي العربي، والقائلون بانحسار مدّه من خلال ما يعصف بالأمة من ظروف تتناهبها يمنة ويسرة، والنظرة المتشائمة من المتطلعين فيها وعليها والباحثين في شؤونها الزاعمين بموت العروبة أمام صعود التيارات الدينية الإسلامية، بشكل خاص؛ مالك النظرة الشمولية العائمة التي اخترقت مشروعها القومي تسللاً حتى غدا بُنيتها أو جوهرها، وبقي صورة لها، وعملت بتؤدة على إخماد شعور الوحدة القومية والقضاء على مشروعية الحلم بتحقيقها، وكذلك التهديد الدائم لمكونات المجتمع العربي ووحدة الوطنية على امتداد جغرافيته، وأنّ انفراط عقد تياراتها القومية وتوقف مشاريعها أمام تمدد مشاريع الهيمنة الأميركية والدعم المطلق للكيان الصهيوني وإطلاق يده كي تطول أي مشروع نهضوي، أظهر للمراقبين والمتابعين للشأن القومي العربي ضعفه في مواجهة الضخ الإعلامي الهائل الذي أخذ على عاتقه بثّ هدم مشروع الوحدة العربية قومياً، بل أكثر من ذلك؛ موت العروبة لمصلحة المشروع الإسلامي وهابياً أو إخوانياً.
ماذا حدث كي نصل إلى ما نحن عليه..؟ ومَن ذاك الذي يحاول إعادة الأمة إلى الوراء بعد أنْ كانت جميع المكونات العربية أفراداً وجماعات؛ حركات وأحزاباً؛ مفكرين ومثقفين؛ تؤمن بالمشروع القومي وتنادي به، من باب أنّه المشروع الوحيد الحضاري القادر على الارتقاء بالإنسان العربي وتحقيق رسائله في الوحدة والتقدم والتحرر؟ وأيضاً المُقنع بفعله المؤهل لإنقاذ الشعب العربي من التخلّف والتبعية، وقيمته الواقعية القادرة على إنشاء السدّ المنيع أمام الانهيارات الاجتماعية والتدخلات الخارجية وتنمية الشخصية الإسلامية.
هذا المشروع الذي أسس لمفاهيم فكرية عشقها الإنسان العربي واحتاج إليها واعتبرها من أهم ما يملك واشتغل لتحقيقها، وهي التحرر من نير الاستعمار بأشكاله الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وحتى العسكرية، الاتجاه عملياً لتحقيق الوحدة، وتعزيز لغة نحن على ثقافة القُطرية والأنا، وتهيئة المناخات لسيادة الديمقراطية الوطنية، والاتجاه سريعاً للانخراط في عمليات التنمية ورسم الخطط العلمية والمنطقية، والعمل للوصول إلى الأهداف بأسرع السبل، ما يوفر للمواطن الحياة الكريمة من خلال إرساء أسس العدالة الاجتماعية، والإيمان المطلق بالتجدد الحضاري لهذا المشروع النهضوي، الذي بدأ بالدخول إلى العقل العربي، وتعزز أكثر مع دخوله عصر النهضة على يد المتنورين في الخمسينيات من القرن الماضي، ما عزز وجوده كمبادرة إستراتيجية قادته لحمل دور مهم في مجموعة دول عدم الانحياز، وإثبات وجوده في منتديات العالم الأممي.
إنّ إعادة تقوية مشروع القومية العربية الذي انضوت تحت لوائه جميع التيارات الفكرية والأحزاب اليمينية واليسارية وحتى الدينية، وبشكل خاص ظهور حركة البعث العربي في سورية، والتي بدأت منذ عام 1939، وثورة ناصر في مصر 1952، وبينهما تقدم الشعور بضرورة قيادة مشروع النهوض العربي الذي حملا لواءه، وقاداه تحت مسمى النهضة القومية العربية، وأدتا في ذلك الحين إلى حضوره في كامل الدول العربية، وتصديا إلى مشروع بل مشاريع الأحلاف الأوروأميركية، ومن ثم الوقوف أمام التمدد الصهيوني المتجلي في كيانه الذي اغتصب فلسطين 1948، ومن ثم احتل أجزاء من بعض الدول العربية عام 1967، إضافة إلى المُغتصَب والمُحتَل منه من قبل الدول المحيطة به سابقاً، تركيا؛ إسبانيا؛ الأهواز، وأيضاً مقاومة جميع أشكال التوطين، وتصنيفه قضية العرب الأولى فلسطين، وجَعْل الاهتمام بها رأس أولوياته.
لقد جيّش المشروع القومي الإنسان من محيطه إلى خليجه، وحفّز فيه السعي للتطور والتقدم والانتقال إلى المدنية الراقية مع الحفاظ على الشخصية والهوية، وسعى إلى تعزيز روح الوطنية، حتى إنّ أشد معارضيه كانوا يؤيدون أفكاره، بكونها تجسّد مشروعاً حضارياً يَسَّرَ فيه طريق الانتقال إلى الأفضل، حتى إنّ مشروع الوحدة العربية آمن به إنسان الجزيرة العربية والمنظومة المغاربية والسودان والصومال، وكان للتيارات الإسلامية الوسطية قناعات مهمة بهذا المشروع، حتى وصل بهم إلى دعمهم بقوة لأفكاره شريطة اعتبار الدين الإسلامي مكوناً رئيساً من مكوناته، وهنا كانت الخطيئة الكبرى التي وقع بها هذا المشروع الراقي والمهم، وهو تهميش الدور الإسلامي الوسطي، والغفلة من نشأة التشدد والتطرف اللذين اخترقاه، وكما أسلفت بداية حيث كانا يبنيان بهدوء وسرية من الإخوان المسلمين مروراً بالقاعدة وصولاً إلى داعش مروراً بالنصرة والجهاديين، ما حدا بالمشروع إلى التقوقع على نفسه، وعودة القوى الرجعية المؤمنة بالتبعية للحضور على ساحة القومية العربية لتعلن موت المشروع مرحلياً، وإعلان علو كعب الإسلاميين المتشددين بدعم من منظومات بعض الدول العربية والإقليمية مثل السعودية وقطر وتركيا، أي الإسلام الوهابي السلفي الإخواني الإسلاموي، الذي اعتبر الغرب مع الصهيونية البديل الواقعي للمشروع القومي العربي النهضوي، وبه يبقى العرب في حالة التخلف الفكري والتمدن الأجوف، ويكون الساعد القوي لتحقيق مشاريعهم في إقامة الدولة اليهودية الدينية، بعد إنشاء كيانات ضعيفة.
إنّ نجاح مصر في العودة إلى واجهة الأمة العربية بعد ضرب المشروع الإسلاموي، وانتظار إعلان سورية النصر على المشروع الإسلاموي الداعشي، يعيد للمشروع القومي العربي أهميته وهيبته ووجوده، مع ضرورة تفعيل مؤسساته بقوة، على الرغم من استمرارها واهنة ضعيفة، إنْ كان في شكل المؤتمرات القومية في سورية ومصر، وإنْ كان من خلال مراكز الدراسات والدعوة الدائمة لكافة المفكرين القوميين والعروبيين؛ وإحياء أفكار الوحدة والقومية العربية في الصحافة والإعلام المرئي والمسموع؛ وعبر وسائط التواصل الاجتماعي والشبكات الذكية من الانترنت، وتعميق الأبحاث وتعميمها، وأنْ يتقدم القوميون العرب بقوة إلى الأمام وبجرأة موضوعية من أجل إقناع الآخر وإثبات أنّ هذا المشروع لا يمكن دفنه، وأنْ يكون تناول الموضوعات العربية علمياً وثقافياً وفلسفياً بغاية إغناء الفكر وتعزيز ثباته أمام الهجمات المتتالية من البربرية والوحشية والهمجية التي حوّلت العربي إلى إنسان سلبي جاهلي بعيد من الحضارة والتحضر.