إسكندر لوقا مع عصر التنوير...لا بعصا الحاكم ولكن بقوة الاعتقاد

إسكندر لوقا مع عصر التنوير...لا بعصا الحاكم ولكن بقوة الاعتقاد

ثقافة

الأربعاء، ١١ فبراير ٢٠١٥

ما بين العتمة والنور خيط رفيع، وما بين مصطلحات التنوير والعتمة خيط دقيق، وما بين التنوير والمراوغة المعتمة أدق من خيط، وما هو دعوة تنوير قد يصدر عن ظلامي لغاية محددة، وقد يصدر عن باحث عن دور فردي أو جمعي، وقد يصدر عن متعصب قومي أو ديني أو طائفي أو مذهبي، وخاصة إن شعر أن الدائرة تضيق عليه بشكل كبير، فيلجأ إلى التنوير مكرهاً لتجاوز مرحلة ما!! أضف إلى ذلك أن دعوات التنوير بحد ذاتها هي إقرار بوجود ظلامية ما، وبوجود ما يجب مجابهته، وإلا ما وصف هؤلاء بالتنويريين؟!

قناديل والتميز

الدكتور إسكندر لوقا أصدر كتاباً صغيراً في حجمه بعنوان (قناديل.. أدباء من عصر التنوير) وهذا الكتاب أو الكتيب، ليس إلا دستوراً للنور والتنوير، وشهادات لأدباء يبحثون عن النور وسط العتمة، ويشكر الدكتور لوقا بهذا الجمع المتميز لأقوال المتنورين، أو الباحثين عن النور بصورة أدق، سواء أكانوا من الشعراء أم من الناثرين، من الأدباء أم المفكرين، من الفلاسفة أم من المتدينين، ليدلل على ضرورة النور أو التنوير، وقد انطلق د. لوقا من الواقع الظلامي الذي نعيشه اليوم بسبب ما تتعرض له الأرض العربية من عدوانات وحروب، والرؤية لديه جعلته يوسّع الدائرة، فليست سورية وحدها، ولا يُقصد السوريون وحدهم بما يجري، وبقدر ما تقصد الهوية والأرض والوجود.
وعندما بدأت قراءة الكتاب كنت أنتظر أن أجد تبعاً للعنوان عناوين تحمل أسماء الأدباء، ومن ثم تتعرض لحياة كل واحد منهم، لتصل إلى التنوير لديه، لكن ذلك لم يكن، فقد انطلق الدكتور لوقا من المقولات والمفهومات التي تشكل بذار التنوير، ودار معها بين هؤلاء الأدباء والفلاسفة والمؤرخين، ومن هنا جاء التميز الذي أشار إليه د. نبيل طعمة في المقدمة «يقدم عصارة فكره ورؤاه التي اجتهد على الامتلاء من فنون وآداب وعلوم مسيرة حياته وإنجازاته المتراكمة تراكم أولئك الخالدين» فالغاية الأولى المقولات والتنوير، وليست الغاية الترجمة والاحتفاء، ومن هنا أيضاً نفهم الانزياح الفكري صوب النور والتنوير من أين جاء، إن جاء من قومي أو علماني أو ديني، وهذا ما يجمع بين عبد الله يوركي الحلاق وعلي الطنطاوي ومحمد عبده وإيليا أبو ماضي، وبدوي الجبل وقسطاكي الحمصي، ورشيد سليم الخوري، وإلياس فرحات ويعقوب صروف وأديب إسحاق وسواهم كثير.

الفكرة والدلائل
يضع د. لوقا فكرته مميزة بحرف مميز ليدلف منها إلى آراء النور والمتنورين في عصر التنوير كما سماه معتمداً تقسيمات الأدباء والمؤرخين.. «يعلم الجميع الآن أن سورية لم يسبق لها أن اعتادت قتالاً بين أهلها حتى في أحلك الظروف التي مرت بها أيام الاستعمار في سياق محاولات التفريق بين هذا وذاك بحسب انتماء إلى دين أو مذهب أو معتقد، هذا هو التقديم، أو هذه هي الإشارة التنويرية أو القضية التي يريد د. لوقا أن يطرحها، لينتقل بعد ذلك إلى آراء الأدباء وأقوالهم، وفي هذه الفقرة يأخذ لرشيد سليم الخوري القروي «نحن أصحّ الخلق أبداناً وأرجحهم عقولاً وأحسّهم أرواحاً، فلو فكت عنا أغلال القوة الغاشمة لسبقنا العالمين في مضامير العمران، ولأسبغنا على العلم من دماثة أخلاقنا ما يروض أوابده، ولكننا دون هذه الأمم الحرة، أمة تشلها قيود التقاليد الرثة والتعصبات المقيتة».
وعن دور الإعلام وأثر الكلمة يقول: «في الزمن الراهن لا يمكن لأحد أن ينكر نفوذ الكلمة وقدرتها على اختراق العقل..» ورأي أحمد لطفي السيد يقول: «إن الصحافة علة الرأي العام بمعناها الحالي في الأمم، فهي الحكومة الحقيقية للبلاد المتمدنة، إنها أقوى حكومة لأنها حكومة تسوق الناس لا بعصا الحاكم ولكن بقوة الاعتقاد».
وفي موضع آخر يقول: «نحن في بلاد الشام، أصحاب الرسالات السماوية الثلاث، وبالتالي لنا قيمنا ومثلنا التي نؤمن بها ونخشى عليها من الضياع أو الزوال» وبعد مناقشة الفكرة يأتي برأي ميخائيل نعيمة الذي ينتقد فيه السلطويين والأغنياء، ويحذر من الشعوب «من شأن الناس الذين انتفخت جيوبهم وصناديقهم بالمال أن يتصرفوا كما لو كانوا هم أسياد الناس والشعوب بلا منازع، وكما لو كان لهم الحق الأول والنصيب الأكبر في خير ما ينتجه الناس وخير ما تجود به الأرض والسماء، ولكنهم، وهم في نشوة الاعتزاز بالسلطان الذي يحمله إليهم المال قلما يلقون أي بال إلى الجراثيم الفتاكة التي ينفثها المال في أجسادهم وأرواحهم بالسواء» كتاب بديع لا يعتمد منهجاً تقليدياً، بل هو التقاط لأفكار، يمكن لبعضهم أن ينسبها إلى الطوباوية والمثالية، وكنت أتمنى بعد قراءته لو حمل عنواناً دالاً على الأفكار لا الأشخاص، فجملة الآراء التي جاءت في هذا الكتاب مستلة من بطون الكتب والتاريخ والذكريات الأليمة في تاريخنا، وتستحق منا أن نعيدها إلى الذاكرة، فالناس يرحلون وتبقى آراؤهم وأفكارهم، والزمن يحكم بالظلامية أو النور والتنوير.