عندما يكتب الوزير قصصاً من الواقع...هزوان الوز في صباح الياسمين صباح الغاردينيا يحافظ على ألق الإبداع

عندما يكتب الوزير قصصاً من الواقع...هزوان الوز في صباح الياسمين صباح الغاردينيا يحافظ على ألق الإبداع

ثقافة

الأحد، ١ فبراير ٢٠١٥

المثل العليا: الحق والخير والجمال، هي كمال مهمة الإنسان، وهي غايته إن أردنا أن نسعى إلى غاية، وما من عبث أراد الناقد الدكتور نضال الصالح أن يستنبطها من نصوص صديقه القاص الدكتور هزوان الوز، عندما أشار مشيداً إلى هذه القيم وبها «والتي تعبر عن حفاوة واضحة لدى القاص بإنجاز كتابة قصصية مؤرقة بقيم الحق والخير والجمال» هذا بعد أن ركز الناقد الصالح في مقدمته المحبة المتعاطفة التي تعانق برؤوس أصابع اليدين نصوصاً يخشى أن يخطف من رائحة ياسمينها، بعد أن ركز على هندسة القاص وشغفه بالبناء الهندسي لقصته وموضوعها.. فماذا عن هذه القيم؟
التصاق بالشغف
 
عرفت الدكتور الوز قاصاً في مجموعات سابقة، ووقفت عند ترجمته لكتاب عن الروسية، رجوت يومها أن يتابع هذه الترجمة، ولهذه الكاتبة تحديداً، لما أسبغه على النص من روحه الهائمة في عالم القص، فلم تكن ترجمته إلا للنص وروحه وسلافته في الوقت ذاته، ولكم فوجئت بالدكتور الوز يخبرني أن الرجاء كان بين يديه، وها هو يصدر عملاً آخر عن الروسية مترجماً، وترافق صدور هذا الكتاب مع صدور مجموعته القصصية (صباح الياسمين صباح الغاردينيا) عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق، وسعادتي كانت كبيرة بصدور الكتابين بالتزامن، لأنني رأيت صديقاً مبدعاً لا تأخذه الحياة والمهمات من الالتصاق بشغفه بالكلمة، وبقي على تواصل معها إبداعاً وترجمة، ولم يلجأ إلى كلمات رسمية أو ما شابه ليكون صاحب كتب لا تسمن ولا تغني.. فقد أدرك الوز أن البقاء للكلمة، والخلود الحقيقي للإبداع، لذا بقي على شغفه وأصدر هذه المجموعة الجديدة، ما يعطي اطمئناناً بأن طاحونة المهام لم تدفع بمبدع إلى طلاق الصورة، بل أبقته معها ومع اللوحة الناقدة المنتقدة، ويكفي أن يقول الناقد في مقدمته: «مرثية للقسوة التي تقوض هذا الإنساني في الإنسان» إذاً نحن لا نزال أمام قاص تعنيه رشا وعصافيرها، وينتقد المسؤول الذي لا تعنيه إلا مصلحته، ويرفض أن يكون الإنسان مجرداً من إنسانيته وعفويته وعظمته وخصوصيته الإنسانية».
 
سردية وعفوية
لم تشأ العينان اللتان رقبتا الخريف قبل عقدين، ولا طائر السمرمر الذي دوّن ما رآه في حكايات أن يتخلف عن تصوير صباحات الياسمين والغاردينيا، فصورها ونقلها في ست من القصص المتنوعة الموضوعات، لكنها اشتركت في سمتين رأيتهما هما السردية السلسة والعفوية، وقد ابتعد الكاتب القاص هنا عن أي نوع من التقعر أو الحذلقة على القارئ، وقد يدفعه إلى ذلك دافعان، الأول يتمثل في تعمّق تجربته، وعادة ما يحاول الكاتب بعد مرور سنوات على تجربته أن يجنح في أسلوبه موهماً بالرمزية والعمق وما شابه ذلك، والثاني يتلخص في هاجس مبدع له حيثياته التي تدفعه إلى ترقب النقد، وربما وضعه في حسبانه قبل أن يدون النص على الورق، وهذان الدافعان كافيان لإلغاء فكرة الكتابة عن ذهن مبدع أو كاتب لا يثق بانخراطه في عالم الكتابة، وفي أحسن الأحوال قد يدفع هذان الدافعان إلى الابتعاد عن القارئ خلف التعمية والترميز، فالمبدع وهذه حاله، إما أن يلجأ إلى الصمت حفاظاً على خصوصية طرحه مؤثراً السلامة، وهذا أهون الشرور، أو أن يتحول طوباوياً لا يرى ما يدور حوله..!
المجموعة خرجت مفاجئة بعفويتها، وبتسميتها للأشياء بمسمياتها، وأكثر من ذلك، كانت أكثر التصاقاً ببيئة الكاتب المهنية والنقابية، فاكتسبت بذلك الصدقية، ولامست هموم الإنسان الذي عاش معه، وربما قرأ همومه من دمع دون بوح، أو من بوح خافت كان ينهيه برجاء عدم الفهم الخاطئ، لكن القاص خزّن ما رأى من دمع، ووثق ما سمع حتى جاءت لحظة الحقيقة فقام بتدوينها، ولم ينتظر مرحلة جديدة ليكتب، بل كتب وهو الناقد في وقت يزعم الآخرون فيه أنه موضع انتقاد، وهذا الرأي لا نلمسه إلا إذا قرأنا العمل، وإلا كنا كمن تحدث عنهم الكاتب في أحد نصوصه: «هل جربت السير يوماً في شارع مزدحم وأنت مغمض العينين؟ ذات يوم أغمضتهما ومشيت..» فهل نغمض العينين ونحن نقرأ نصاً مهماً لمجرد أننا نريد أن نجرب الحكم دون قراءة؟
قلت: مع أن هذه المجموعة تمثل تطوراً في تجربة الوز القصصية إلا أنها جاءت متساوقة مع التجارب السابقة، ومتابعة لأسلوب اعتمده، فطوره بالتدريج دون أن تحدث فجوة ما بين الأعمال في مستويات القص واللغة، وهذا إن دل فإنه يدل على أن القاص لم يتوقف عن الكتابة القصصية، وإن كان على مدد متباعدة فبقيت الروح، وبقي التواصل مع مجتمع لم يفترق عنه... فماذا قدم لهذا المجتمع؟ وكيف قدم تواصله مع محيطه ومجتمعه؟ وهل انقلب إلى واعظ؟
 
موضوع واخز وتشريح
سبق أن قرأت للشاعر الصديق الراحل جوزف حرب قصيدة يبكي فيها على ديوانه الذي أهداه إلى جاره الذي لم يقرأ سوى أرقام الصفحات.. ولست أدري لماذا عادت هذه العقيدة إلى ذهني بإلحاح من ديوانه (الحضر والمزمار) وأنا أقرأ هزوان الوز في اللوحة التي تبكي، وكأني بهذه القصة الواقعية غير واقعية، وبهذه الواقعة المتخيلة واقعة كل يوم، وقد استفاد القاص من تجربته الإدارية ليقدم نصاً دقيقاً، ولا أغالي إن قلت: إنني لمحته في النص، وهو يقرأ عبارات الآخرين، وربما رسخت إحدى الصور من مهامه فألبسها لشخصيات يعرفها من لحم ودم رآها فأحسن وصفها، وإن كنت أخالفه في حكم القيمة الذي صدر على لسان بطل اللوحة حول الفن التجريدي وفهمه، ووصف الآخرين بالغباء لأنهم لم يتقبلوه..!
لوحة تبكي قصة تتقاطع مع مشاهد كثيرة نراها، لكنها صادمة من الوز الذي قدم صورة ساخرة للمسؤول النقابي تجمع ما بين الجهل واللامبالاة والسرقة والتسلط والغباء، وفي السلسلة الهرمية لنا أن نتصور خطورة مثل هذا الشخص في أعلى سلطة هرمية نقابية..!
اللوحة راقت لمبدعها، لم ترق للآخرين الذين لم يفهموا التجريد، وربما كانت رجل الكرسي، مع ما فيها من دلالة وإيحاء هي الوحيدة التي عشقت اللوحة فالتصقت بها ومزقتها، لتعود بها إلى مرسم الفنان لمعالجة روحه الممزقة المتهتكة كما لم يحدث للوحة، فاللوحة عادت تبكي وتنتظر الترميم، ولكن أنى لروح الفنان التي سعدت بأن المسؤول اختار لوحة لبيته؟!!
ربما لم يقصد القاص هذا الجانب، لكنني لا يمكن أن أمنع نفسي من قراءته وقد فهمته بهذا الشكل، لأتخيل اللوحة والفنان وحدهما في المرسم كل منهما يسعى إلى مداواة الآخر بطريقته، وحسب اللوحة أنها أبت أن تدخل المستودعات لتعود إلى مرسمها وأخواتها، لكن ما شأن الفنان الذي سعد باختيار المسؤول للوحته؟!
 
المكان الإنساني
عندما يصاب السجين، يختار القاص لإصابته وقتاً يسمح له بفضح مجتمع مسؤولي السجن، من المدير إلى الطبيب والحرس، فكل ما في السجن من آليات تخدم مدير السجن، أما السجن والسجناء لم يتبق من الصورة إلا السجن المظلم والسجين الغارق بدمائه، الحالم بما يريد على رواية السجناء لما شاهدوه منه..
لا سيارة إسعاف
لا سيارة طوارئ
لا سيارة خدمة
لا بنزين...
وكان بإمكانه ألا يجد أي وسيلة ليغرق السجين في دمائه، لكنه اختار للسجين إنسانية، واختار له مستقراً لإسعافه، وهذا المستقر الوحيد هو سيارة القمامة، فكان الإيحاء واضحاً من صفارة الاستنفار التي أغضبت المسؤول في السجن لاستخفافه بما جرى للسجين، وإلى قرار هذا المسؤول أن تكون القمامة شريكة السجين، فهل كانت شريكته، أو سمحت له أن يكون شريكاً لها لأنه من جنسها؟!
مكاشفة محسوبة لصالح هزوان الوز المبدع الذي انحاز إلى هم الإنسان، ورأى الواقع الذي وصل إليه في الوقت الذي يكشف فيه حقيقة هذا المواطن، وإن في نص آخر، فهو يقرأ زرادشت، ويقلب أوراقه ليقرأ بوذا وغيره، هذا هو نفسه، وربما كان قريباً منه هو الذي ترك المجال واسعاً لدمه أن يتعطر بالقمامة...!!
هذا هو الإنسان في واقعه، وثمة فرق بين الواقع والمشتهى من الإنسان... وموضوعات أخرى طرقتها المجموعة في نصوصها الستة، تنشد الإنسان المغمس بالياسمين ورائحته، فهل نرقى أو نصل؟
لا يستطيع القارئ أن يعرض مجموعة كاملة، وليس هذا من مهامه، لكنها إشارات لمحتوى عام، وإن اختلف في العرض بين قصة وأخرى...
أطمئن نفسي إلى أن المبدع انحاز إلى إبداعه، وحافظ على موقعه الإبداعي، وبقي على تواصل معه، وأتمنى أن يرعى الأمر من المنظور ذاته الذي قدم فيه نصوصاً، فأرحم الناس مبدع ذرف دمعة لفكرة مجردة، وهو أكثر قدرة على التفاعل مع الحدث غير المتخيل.