المرأة التي أسرت ملك فرنسا.. واكتنفها حمام من الدم ..الجارية التي هدمت عرشاً - الحلقة 3

المرأة التي أسرت ملك فرنسا.. واكتنفها حمام من الدم ..الجارية التي هدمت عرشاً - الحلقة 3

ثقافة

السبت، ٢٤ يناير ٢٠١٥

شمس الدين العجلاني
استتب الأمر وأصبحت شجرة الدر سلطانة على مصر وبلاد الشام في 10 صفر سنة 648 هـ. ولكن لم يدم حكمها أكثر من ثمانين يوماً!؟ أصدرت خلال هذه الأيام الأوامر والقرارات باسم (أم الخليل) وتقربت من عامة الشعب وخفضّت الضرائب المفروضة عليه وحاربت الغلاء وفرضت على الأغنياء نصيباً من أموالهم للفقراء، ونقشت اسمها على النقود هكذا (المستعصمة الصالحية ملكة المسلمين والدة المنصــــــور خليل خليفة أمير المؤمنين). وأصلحت ما شوهته الحرب مع الفرنجة للمباني والطرقات ووسائل الري وجعلت لها مجلساً للشورى وكان مرجعها في إصدار الأحكام ولم يعرف عنها أنّها أصدرت أمراً بمفردها إلا ما تعلق بقتل زوجها!؟ وأوقفت الأوقاف الكثيرة منها مدرسة في القاهرة سميت باسمها وحمام سمي حمام السيدة، وقامت أثناء حكمها بتسيير محمل الحج إلى أرض الحجاز محاطاً بالجنود لحماية الحجاج وإرسال المؤن والأموال لأهل البيت مصحوباً بالهدايا والنقود للحجاج والمساكين.
لقد برهنت شجرة الدر في حياتها أنّ النضال مهمة المرأة مثلما هو مهمة الرجل، فقادت البلاد بقدرة عالية وبحكمة نادرة وبتبصر حكيم وكانت أقوى امرأة شهدها العصر الإسلامي وقال عنها الكتّاب: لم تكن شجرة الدر بالملاك المعطر ولا بالمرأة التي تخلبها الزينة وتحجبها عن الحقيقة، وإنما كان لها عقل يدبر ويفكر ويقدر، قادت معركة المنصورة ضد الصليبين في أحلك الظروف, وحققت النصر الساحق عليهم، إنّها امرأة جبارة تستحق التقدير والثناء، دخلت التاريخ من أوسع أبوابه. وأخطأت خطأها الكبير بقتل زوجها ومن هنا كانت نهايتها المفجعة.
سلافة:
سلافة هي إحدى جواري السلطان الصالح الأيوب، هي جارية كردية الأصل، وكانت تفاخر سائر الجواري بأنّها تحمل نفس نسب الملك الصالح نجم الدين أيوب، وكانت بالفعل هي المفضلة والأثيرة عنده لجمالها الأخاذ وذكائها النادر "والقاتل"، فكانت مستحوذة على قلبه وعقله، وهذا ما دعا السلطان لتعيينها قيّمة على قصوره.
سلافة لم تلد من السلطان لكن الجارية شجرة الدر ولدت له طفلهما خليل، فأضحت "شجرة الدر" أقرب الجواري للسلطان.
سلافة كانت بارعة الجمال لكنها قليلة الدهاء وشديدة الغيرة وسريعة النقمة وكانت مشهورة بجمالها الفتان، يتحدث أهل الروضة والقاهرة بحسنها وإن لم يرها منهم إلا القليلون. كانت من أقرب الجواري للسلطان وكان يرغب بالزواج منها، لكن ظهور شجرة الدر في الأفق والتي كانت أكثر ذكاء ودهاء من سلافة، فاستحوذت على قلب الصالح وتزوجها ورزقا بطفل مات صغيراً.
زواج شجرة الدر من السلطان ترك آثار الحقد والغل تنخر في قلب سلافة التي انهارت عندما توفي الملك الصالح.
تروي صفحات التاريخ أنّ من الأسباب القوية التي ساعدت في عزل وقتل الجارية السابقة وسلطانة مصر والشام لاحقاً شجرة الدر، كانت الجارية سلافة المرأة التي ألهبت النيران قلبها حسداً وحقداً من شجرة الدر وكانت من منغصات الحياة على شجرة الدر قبل وبعد وفاة الملك الصالح، وكانت سبباً رئيسياً في عزلها وقتلها بعد موت زوجها السلطان الصالح.
كيد سلافة:
تبوأت شجرة الدر السلطنة، وانتقلت من جارية إلى زوجة السلطان وشريكته في الحكم إلى سلطانة على مصر والشام، وهذا ما دفع بسلافة إلى البحث للتحالف حتى مع الشيطان للقضاء على شجرة الدر!؟
بدأت سلافة في تجييش شياطينها لإعلان الحرب على غريمتها شجرة الدر، وهنا تذكرت التاجر البغدادي الثري سحبان الذي يميل إليها ويغدق عليها كلّ غال ونفيس من الهدايا والمجوهرات والأقمشة باهظة الثمن حتى ينال رضاها.
وسحبان كان تاجراً كبيراً على جانب كبير من الدهاء والذكاء والمال يتردد على قصر السلطان الصالح أيوب ومعه الأقمشة الفارسية والهندية، وكان الملك الصالح يدعوه إليه ويشتري منه ما يختاره لجواريه ويطلب منه إحضار ما يحتاج إليه من مصنوعات العراق وفارس وغيرهما. وفي أحد الأيام وحين كان هذا التاجر يعرض بضائعه على السلطان الصالح كانت سلافة حاضرة لتختار نوعاً منها، فوقع بصره عليها فأخذت بمجامع قلبه، لكنه تجلد وتهيب، وشعرت هي بما جال في خاطره، وتجاهلته، وأخذ سحبان يتودد للجارية سلافة عن طريق خصيان القصر بهدايا يبعث بها إليها..
أرسلت سلافة بطلب سحبان ليقابلها في قصر الروضة، وهناك استقبلته في فناء القصر واستغلت جمالها وحسنها ودلالها لتوحي له بحبها ليكون طوع بنانها إذا ما استعانت به. وبعد أن رأت في عينيه فيض المشاعر نحوها اطمأنت وسردت عليه خطتها الشيطانية.
حديث طويل دار بين سلافة وسحبان وحين أدركت سلافة أنّ سحبان أصبح طوع يديها، طلبت منه أن يكون رسولاً يحمل كتاباً منها إلى بغداد، ويسلمه إلى قيّمة قصر النساء للخليفة العباسي المستعصم عبد الله بن المستنصر بالله وهي صديقة ودودة لسلافة.
وسلافة كانت بارعة في الخط والإنشاء لأنّ السلاطين كانت لهم عناية في تعليم الجواري الكتابة واللغة والأدب. تضمنت رسالة سلافة التحريض على شجرة الدر وضرورة خلعها عن السلطنة... وصلت الرسالة إلى القيّمة على قصور الخليفة في بغداد وبدورها أوصلت الرسالة إلى الخليفة المستعصم عبد الله، وما هي إلا أيام حتى وردت رسالة من الخليفة إلى السلطانة.
وفي نفس الوقت أخذت سلافة تبث سمومها في كل من حولها، وهي تعلم أنّ شجرة الدر في حكمها تعتمد على القائد المملوكي عز الدين "قبل أن تتزوجه". فكانت تذهب إليه في أبهى ما تكون عليه أنثى رائعة الجمال متسترة وراء حجاب، تبتغي من وراء ذلك الإيقاع بينه وبين شجرة الدر، وحين أيقنت أنّه أصبح عجينة لينة بين يديها، بدأت توغل في صدره ضد شجرة الدر وأنّه أحق منها في حكم مصر، وأنّ النساء لا يصلحن للحكم، وأنّ السلطة لا تليق إلا بقائد عظيم مثله.
وحين تنازلت شجرة الدر عن الحكم لزوجها عز الدين أيبك، لم تكف سلافة عن حقدها وكيدها لشجرة الدر وأيبك، فكانت تدعو إلى قصرها الذي أعده لها أيبك، القائد المملوكي ركن الدين بيبرس في محاولة منها للإيقاع به.
وسلافة هي من حرضت ابن عز الدين أيبك، نور الدين علي ووالدته للفتك بشجرة الدر.
كتاب الخليفة:
وصل كتاب سلافة عن شجرة الدر بين يدي الخليفة العباسي المستعصم عبد الله بن المستنصر بالله، فكتب إلى شجره الدر: "إن كانت الرجال قد عدِمَت عندكم، فأعلِمونا حتى نسير إليكم رجلاً" وهذا ما يتطابق مع رواية المقريزي في "السلوك في معرفة دول الملوك" (1/ 2/ 368): " ووصل الخبر إلى بغداد، فبعث الخليفة المستعصم بالله من بغداد كتاباً إلى مصر، وهو يُنكِر على الأمراء ويقولُ لهم: "إن كانت الرجال قد عدِمَت عندكم، فأعلمونا حتى نسيِّر إليكم رجلاً".
في حين يروي شمس الدين الجزري في تاريخه: "وأرسل إليهم الخليفة المستعصم بالله يقولُ: "أعلمونا إن كان ما بقي عندكم في مصر من الرجال مَن يصلح للسلطنة، فنحن نرسل إليكم من يصلح لها! أما سمعتم في الحديث عن رسول الله: "لا يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة". وأنكر عليهم بسبب ذلك غاية الإنكار... فلمّا بلغ شجرة الدرّ ذلك، جمعت الأمراء والقضاة وخلعت نفسها من السلطنة برضاها، فكانت مدَّة سلطنتها بمصر ثلاثة أشهر إلاّ أيّاماً. (بدائع الزهور في وقائع الدهور 1/ 287).
إنّ رفض الخليفة العباسي الاعتراف بسلطة شجرة الدر كان مشكلة بالنسبة للمماليك المصرية لأنّ السلطنة الأيوبية لم يكن يعترف عليها ما لم يكن هنالك رضاء من الخليفة العباسي. لذا قرر المماليك أن يتم زواج شجرة الدر من القائد المملوكي عز الدين أيبك وتتنازل له عن الحكم. وهذا ما حصل، وتنازلت شجرة الدر عن الحكم بعد أن حكمت 80 يوماً فقط.
ولا بد من وصف هذا الخليفة العباسي وأنّه على حدّ قول المؤرخ ابن أيبك الدواداري: "إنّه كان فيه هوج، وطيش، وظلم، مع بله، وضعف، وانقياد إلى أصحاب السخف. يلعب بطيور الحمام، ويركب الحمير المصرية الفراء"
ومن مفارقات الحياة أنّ المرأة شجرة الدر انتصرت على الحملة الصليبية وأسرت قائدها الملك الفرنسي، وأجلت كلّ الجيوش الإفرنجية عن مصر، والخليفة العباسي المستعصم بعد مضي سنوات قلائل لم يستطع أن يحمي بغداد التي دمرها المغول، وقبضوا عليه وعلى حاشيته وقتلوهم شر قتلة!؟ فلم يجد الخليفة لديه رجالاً يدافعون عن بغداد!؟ ويروى أنّ هولاكو حَكم على الخليفة العباسي بوضعه في جلد البقر وضربه حتى الموت!؟
ويقول الكاتب المصري الدكتور حسين فوزي: "تندر الخليفة العباسي بالمصريين إذ ولوا عليهم امرأة، وأبدى استعداده لإيفاد رجال من بغداد، إذا كانت الرجال قد عزت في الديار المصرية. ويشاء القدر أن يرد سخرية هذا الخليفة إلى نحره، بعد مضي سنوات قلائل، عندما انقض على دولته ملك المغول هولاكو، يدمّر ملكه وحاضرة ملكه، فلا يجد رجالاً يدفعون عنها الكارثة. وإذا مصر تجد في رجالها، وفي المماليك الذين ولوا عليهم السيدة أم خليل، جيشاً قديراً على صد المغول وضربهم في عين جالوت".
يتبع