المرأة التي أسرت ملك فرنسا.. واكتنفها حمام من الدم - كيد النساء - الحلقة 2

المرأة التي أسرت ملك فرنسا.. واكتنفها حمام من الدم - كيد النساء - الحلقة 2

ثقافة

السبت، ١٧ يناير ٢٠١٥

شمس الدين العجلاني
هي ليست أخت الرجال، بل أقواهم حنكة ودهاء وذكاء وقوة!؟ خطت اسمها على صفحات التاريخ بماء الذهب حين وضعت اللبنة الأولى لدولة المماليك التي استمرت أكثر من مئة عام، وهزمت الصليبيين وأسرت ملكهم في وقت لم يستطع الخليفة العباسي المستعصم أن يرد هؤلاء الفرنجة!؟
هي ليست أخت الرجال ولكن دعي لها في المساجد وطأطأت لها الرؤوس ودانت لها الرقاب، وقتلها كيد النساء والمؤامرات!؟ لأنّها لم تستطع أن تكون سوى امرأة في دائرة "إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيم".
إنّها المرأة التي بدّلت وجه التاريخ وغيّرته، إنّها أول وآخر سلطانة في العصر الإسلامي، إنّها شجرة الدر...
توران شاه:
كتمت شجرة الدر خبر وفاة زوجها السلطان الصالح أيوب، عن العامة من الناس وخاصة الجيش الذي كان يقاتل الملك الفرنسي لويس التاسع الذي قدم لاحتلال مصر خوفاً على معنويات الجنود والقادة. وقالت: إنّ الأطباء منعوا زيارته، وجمعت الأمراء والقادة من المماليك وقالت لهم: "إنّ السلطان يأمركم أن يكون خليفته من بعده ابنه توران شاه" وأخذت عهداً منهم بذلك وأقسموا على تنفيذ الأمر، ثم أرسلت بعد ذلك تستقدم توران شاه من حصن كيفا في جزيرة بلاد الشام وتستعجله بالقدوم إلى القاهرة لأنّ البلاد كانت في حالة حرب مع الفرنجة، وليستلم مقاليد الحكم في مصر والشام.
اتفقت شجرة الدر مع كبير وزراء الملك الصالح وكان اسمه "فخر الدين يوسف" على إدارة الأمور إلى أن يأتي توران شاه, ثم كلفت فارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس بالاستمرار في الإعداد للمعركة الفاصلة "معركة المنصورة" مع الملك الفرنسي لويس التاسع, وهكذا سارت الأمور بصورة طيبة بعد وفاة الملك الصالح، ولم يحدث الاضطراب المتوقع نتيجة هذه الوفاة المفاجئة، وفي هذه الظروف الصعبة.
وصل توران شاه إلى مصر في نشوة الانتصار على العدو في شباط 1250م واستلم مقاليد الحكم، وقام بعزل العديد من أمراء أبيه والمقربين من شجرة الدر من مناصبهم، وعامل شجرة الدر معاملة غير لائقة ولم يقدر لها دورها في حفظ البلاد وتدبير الأمور حتى مجيئه إلى مصر وتتويجها له سلطاناً على مصر والشام، فأخذ يضايقها وأرسل إليها، وكانت حينها في القدس، يحذرها متوعداً بأن تسلم له ما لديها من أموال أبيه وجواهره فأعلمته أنّها أنفقتها في شؤون الحرب مع الفرنجة.
غضبت شجرة الدر من أسلوب تعامل توران شاه معها، ولكنها صبرت عليه وكتمت غيظها حتى انتهت المعركة بالنصر على الحملة الصليبية الغازية والتي تم فيها أسر قائد الحملة الملك لويس التاسع ملك فرنسا وحاشيته حيث زادت مضايقة توران شاه لها وللعديد من قادة الجيش الذين كان لهم السهم الكبير في النصر على العدو فاصطدمت شجرة الدر والقادة المماليك مع توران شاه.
خافت شجرة الدر على نفسها، وأَسَرَّتْ بذلك إلى المماليك البحرية وخاصة فارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس، فوجدت الوساوس نفسها في نفوسهما في ذات الوقت، ومن ثم اجتمع الرأي على سرعة التخلص من توران شاه قبل أن يتخلص هو منهم.. فقرروا قتله..!!
نفرت من توران شاه القلوب وضاقت منه النفوس، وحيكت ضده المؤامرة وتلاقت رغبة الجميع على الخلاص منه، وحانت لهم اللحظة الحاسمة لقتله يوم الإثنين في 2 أيار عام 1250م، عندما مُدت له مائدة الطعام فانقض عليه بعض المماليك ضرباً بالسيوف، فقطعت بعض أصابعه، وهرب إلى البرج الخشبي الذي تم إنشاؤه بفارسكور، إلا أنّ المماليك حاصروه بالبرج وأوقدوا فيه النيران حتى رمى نفسه، كما ذكر ابن تغري بردي «وتعلق بذيل الفارس أقطاي فما أجاره، فقطعوه قطعاً وبقي على جانب البحر ثلاثة أيام منتفخاً لا يجسر أحد أن يدفنه، حتى شفع فيه رسول الخليفة فحُمل إلى ذلك الجانب فدفن به». ومن أهم من ساهم وخطط لقتل السلطان توران شاه من النساء هن شجرة الدر، والجارية البارعة الجمال شوكار.
بمقتل توران شاه "حكم 40 يوماً فقط" انتهى حكم الأيوبيين تماماً في مصر وبدأ حكم المماليك، إذ حظيت شجرة الدر بعد مقتل توران شاه بتأييد كبار الأمراء والقادة المماليك لما اتصفت به من حكمة ومقدرة وحسن سيرة وخبرة في شؤون البلاد، واتفق المماليك على تولية شجرة الدر ملكة وسلطانة عليهم وذلك في أيار من عام 1250م ونُصّبت على رأس الحكم واتخذت لنفسها عدداً من الألقاب منها، المستعصمة وملكة المسلمين والدة الملك المنصور خليل أمير المؤمنين وبالستر الرفيع والحجاب المنيع ملكة المسلمين.
ولابد من ذكر بعض صفات توران شاه وتصرفاته كما وصفها المؤرخون، فقيل إنّه يوُصف بالتهور والجنون، وكان إذا تناول الخمر وسكر يجمع الشموع ويضرب رؤوسها بالسيف ويقول: «كذا أفعل بالمماليك البحرية، ويذكرهم بأسمائهم»، ولم يحفظ لمماليك وأمراء أبيه فضلهم في توليه حكم مصر وبلاد الشام، ويذكر ابن تغري بردي في النجوم: "أنه لم يشكر شجر الدر على موقفها معه".
شوكار:
بدأت شجرة الدر في إدارة دفة الحكم بعد أن آل إليها عرش مصر، وكان من يلازمها دوماً ولا يفارقها جاريتها شوكار وهي مغنية فاتنة الجمال من أصل أرميني أيضاً مثل شجرة الدر، وكانت أعظم الناس حباً لشجرة الدر، وكانت شجرة الدر تعتبرها ابنتها وبيت سرها، وفي إحدى المرات كانت شجرة الدر تناقش مع القائد المملوكي ركن الدين بيبرس البندقداري أمور الحرب وسفره لمواكبة جنده بوجود شوكار، لاحظت شجرة الدر نظراتهما لبعضهما، وفكرت كيف يكون اللقاء بينهما، فأرسلت لبيبرس لكي تخبره أن يذهب لدمياط ليقضي على الإفرنج الموجودين هناك، وكانت تحادثه في وجود شوكار وتراقب أعينهما، فقالت لهما: "أعلم بحبكما، ولم يكن لدي اعتراض على هذا، بل يسعدني الأمر، وبعد أن تعود سوف تكون شوكار زوجة لك إن شاء الله"، وسمحت لهما أن يتصافحا، وخرج بيبرس وهو سعيد بلقاء شوكار ومصافحتها لأول مرة، وَوعْد شجرة الدر بأنّها له.
وبعد أن سافر بيبرس حضر رسول من الخليفة ومعه كتابه لشجرة الدر، وكان القائد المملوكي عز الدين أيبك موجوداً وقتها عند الجارية سلافة قيمة قصر الملك، وعندما سمعا الخبر ظهرت الفرحة على وجه سلافة، وسألها أيبك عن سر هذه الفرحة فأجابت أنّها تعلم ما في كتاب الخليفة من رفض لشجرة الدر، وقالت له سوف يُطلب منك شيء يجب عليك تنفيذه، فسألها وما هو؟
فقالت: سوف يطلب منك الرسول أن ترسل شوكار إلى الخليفة فلا ترفض، فقال لها إنّها جارية شجرة الدر، فقالت أعلم، ودهش أيبك من معرفة سلافة بما تحويه رسالة الخليفة، ولكنه لم يستغرب لأنّه على علم بأنّ سلافة على علاقة بالخليفة العباسي والأمراء الأيوبيين.
أُرسلت شوكار إلى الخليفة العباسي، وبقدوم شوكار إلى عاصمة العباسيين بغداد، أشعلت حرباً بين سادتها!؟ فخُطفت قبل دخولها بغداد وقيل يومها إنّ الذي خطفها هو الوزير مؤيد الدين بن العلقمي الذي كانت له اليد الطولى في إدارة الحكم في زمن المستعصم، وعَلِم ابن الخليفة المستعصم أبو بكر أنّ الجارية شوكار موجودة عند الوزير مؤيد في الكرخ ومن ثم نقلت إلى الكاظمية فأرسل في طلبها لنفسه وارتكبت بسبب ذلك مذبحة في الكرخ من أجلها راح ضحيتها العديد من الجند والأهالي، واسترجع ابن خليفة المسلمين الجارية وضمها إلى جواري قصره، ودار حديث مطول في بلاط خليفة المسلمين شارك فيه الوزير مؤيد الدين والأمير أبو بكر بن المستعصم وسحبان وهو تاجر كبير معروف في ذاك الوقت انتهى بأن طلب الخليفة إحضار شوكار بين يديه وأجابت رداً على سؤال الخليفة: "وكيف أخذك ابني وأنت محمولة إلي»: قالت: "لما وصلت مع الركب إلى قرب بغداد جاءنا جند قالوا إنّهم قادمون من قصر أمير المؤمنين ليأخذوني إليه، فدفعني الركب إليهم فأخذوني إلى قصر عرفت بعد ذلك أنّه للأمير أحمد أبي بكر.. أخذني ابنك الأمير أبو بكر وأخفاني عنده» فأخذ الغضب من الخليفة مأخذاً عظيماً، وصفق، فجاءه غلام فأومأ إليه أن يأخذ شوكار إلى قصر التاج ويسلمها إلى القهرمانة ويوصيها بها خيراً "والقهرمانة هي المسؤولة في دار النساء عن الجواري والسراري وكانت صديقة مقربة للجارية سلافة في بلاط الملك الصالح أيوب وقيمة قصوره في مصر وسلافة كانت وراء إرسال شوكار إلى الخليفة العباسي.
ذهبت الجارية شوكار مع غلام الخليفة إلى دار النساء، برغم إرادتها، لكنها كانت تفضل أن تكون فيه على أن تبقى عند ابنه أبي بكر. وكانت قد قضت فترة وجودها عنده وهي في حرب دائمة معه، لأنّه يريدها لغير الغناء وهي تأبى ذلك، ولاسيما بعد أن جاءها كتاب ركن الدين مع الخصي عابد البصري رسولها إليه ضمنه العطف عليها والوعد بإنقاذها.
في دار النساء هذه التابعة لخليفة المسلمين والتي تضم المئات من الخصيان والجواري والمغنيات عاشت شوكار على أمل أن ينقذها القائد المملوكي ركن الدين بيبرس، ولكنها لقيت حتفها قتلاً بتدبير من الجارية سلافة قيمة قصور الملك الصالح أيوب غيرة منها وانتقاماً من شجرة الدر والقائد المملوكي بيبرس.