د. صباح قباني آخر قامة وطنية غادرت مع العام المنصرم...دمشق ودعت ابنها ومثقفها وديبلوماسيها البارع...

د. صباح قباني آخر قامة وطنية غادرت مع العام المنصرم...دمشق ودعت ابنها ومثقفها وديبلوماسيها البارع...

ثقافة

الاثنين، ٥ يناير ٢٠١٥

«ما مضى منها فحلم، وما بقي فأمانيّ» قول للزاهد المزني استعاره الدكتور صباح قباني ليدون كلامه عبر الأيام، وذلك بعد أن فرد أوراق عمره أو بعضاً من هذه الأوراق، فكانت مسيرة إنسان ووطن..
صباح قباني السوري المنتمي بامتياز، الذي أمضى عمره سورياً متفاعلاً مع سورية حتى لحظاته الأخيرة هو مثال من أمثلة العلم والنبل والإخلاص للوطن، أمضى سحابة عمره الحلم، ومن شرفة تطل على دمشق جلس النسر يرقب ويتمنى، وكان قدره أن يبقى في إطار أمنيات أيام الحلم، يتمنى لوطنه سلاماً وحباً، ولشامه أمناً... يطل صباح قباني كما لا يمكن لغيره أن يفعل حاملاً صفحات عمره وصوره، وهو يقلب من شرفته ما كان، لينتقل من الأمنيات إلى الحلم فيغفي، وأنّى لمثله أن يغفو، وكل ما غازل حياته كان لسورية وتاريخها الحديث؟!
الاسم والهيبة
 
التقيت الدكتور صباح قباني مرات عدة في لقاءات عامة، أغلبها كان في صالون فندق حيث ينتظر أحداً، أو ينتظره أحد، ولم تتعدّ رؤيتي له السلام، إلى أن جلست معه مرة حين كنت مع فنان الشعب رفيق سبيعي في فندق الشام منذ خمسة عشر عاماً، لكن اسمه المقترن عندي بالتلفزيون والإعلام والثقافة وفرق الفنون والعمل الدبلوماسي منعني من المبالغة في الحديث معه أو التقرب منه، إضافة إلى كونه من آل القباني، والأخ الأصغر للشاعر الفذ نزار قباني جعلني أتهيب الاقتراب منه مع ما يوحي به مظهره، وما تقدمه أناقته المفرطة من صورة عذبة لشخص قلّ أن تجد مثله، وحين عرض عليّ صديقي مروان ناصح أن أقرأ أوراق عمر صباح قباني فتح عليّ الرجل على مصاريعه، ولا أزال أذكر هذا الرجل النبيل عندما درست الكتاب كيف تواصل وعبر عن شكره لما أديته من واجبي، في الوقت الذي تجد فيه من هو أقل شأناً غير قادر على أن يقرأ ما تكتبه عنه ولو بعد حين. لا أنسى كلماته وتواضعه لقارئ مثلي.
تهيبت دخول عالمه مع جمال هذا العالم وسحره، ومع عشقي لنزار وعالمه، وبقي الأمر كذلك حتى سنحت الفرصة في الوطن، وتكرم السيد رئيس التحرير بالموافقة على نشر حلقات عن نزار قباني كل إثنين، ولا تذهب المفاجأة بعد الحلقة الثالثة حين وصل إلى سمعي صوت الدكتور صباح قباني هادئاً عذباً رصيناً، ليخبرني سعادته بهذه الحلقات، وشهد شهادة أفخر بها، كما تمنى أن تكون هذه الحلقات في كتاب خاص عن نزار، وتحقق ما أراده في حياته، وقد سعيت مرات للقائه لكن الحالة الصحية حالت دون ذلك، وفي كل مرة كان يقول لي: عندما تتحسن حالتي وأكون مستعداً لاستقبالك سنشرب القهوة معاً، لكن الموعد لم يتحقق إلا عندما كنت خارج دمشق فوصلني خبر رحيله وأنا أشرب قهوة لا أشاركه بها.. أذكر هذا لأن الدكتور صباح هو الوحيد من الذين التقيتهم وأحببت محاورتهم لم أعمل على إحراجه وإقحام نفسي، وليتني فعلت، فما لديه في كل جانب ليس لدى أحد سواه.
 
قباني واللقب
صباح قباني يحمل شهادته العالية، ومع ذلك، ومع حصوله على دكتوراه في الحقوق من جامعة السوربون، إلا أن مؤلفاته كلها تحمل اسمه (صباح قباني) دون أن تحمل لقباً قبله، وهو بذلك ينتمي إلى الرعيل الذي تعرف الشهادة به، ولا يعرف هو بها، والدليل على ذلك أن الدكتور قباني حمل الدكتوراه في الحقوق، ولكن عشقه الثقافي والإعلامي جعله بعيداً نوعاً ما عن ممارسة التخصص، فهو مدير برامج الإذاعة السورية، ومدير الفنون بوزارة الثقافة، ومدير التلفزيون وقنصل سورية في نيويورك، ومدير إدارة الإعلام بوزارة الخارجية، ووزير مفوض بجاكرتا، ومدير إدارة أميركا في الخارجية، وسفير لسورية في واشنطن.. وفي المهام التي أوكلت إليه كان أولاً، فما من حديث عن تأسيس التلفزيون والإعلام لا يكون قباني أساسه الأول، وما من حديث عن الفنون والثقافة والفرق الفنية إلا وقباني صاحب سبق وما من موهبة فذة في أوائل التأسيس إلا كان قباني وراء استقطابها.
 
القباني القيمة الوطنية
لابد من العودة إلى كتب الدكتور قباني، ففيها سيجد القارئ هذه القيمة، فقد بذل كل ما بوسعه عندما تولى التأسيس لعدد من المديريات الثقافية والإعلامية، وترك أثراً لا يمحى، لا يزال لقباني أصدقاؤه ومحبوه ومريدوه، والذين اكتشف مواهبهم وغيّر مسار حياتهم، وأذكر أن أحد الفنانين المبدعين قال لي يوماً: للقباني الفضل في استقدام عدد من الفنانين والطاقات التي لم تكن لتدخل الميدان الفني لولاه بسبب النظرة إلى الفن.
وفي عمله الديبلوماسي نجد الدكتور قباني متخصصاً في القضايا الأميركية في وقته بالخارجية السورية، وربما كان هذا وراء اختيار الرئيس الراحل حافظ الأسد له ليكون أول سفير في واشنطن لسورية بعد عودة العلاقات 1974، ومن هنا تنبع أهمية آراء الدكتور قباني تجاه أميركا، فهو الخبير والسفير الذي التقى وعايش وخاطب وقابل، لذلك ما من فراغ أن يقول عن أميركا بعد أحداث الحادي عشر من أيلول: فقدت أميركا براءتها.
وبقي الدكتور قباني منذ استقالته من عمله الوظيفي 1981 وحتى رحيله مرتبطاً بسورية ودمشق، حتى في أعماله وكتاباته، فها هو يجلو الصورة العربية في الغرب من خلال ترجماته لكتب ابنته رنا، ويسجل سيرة الجامعة السورية ومؤسسها بقالب قلّ مثيله ويسجل شهادته وأوراق عمره، ليكشف جوانب من الشخصيات السياسية والديبلوماسية والفكرية والفنية، وذلك من داخل هذه الشخصيات، وليس اعتماداً على رؤية خارجية.. صباح قباني يرحل في يوم حزين من أيام دمشق الشام، وهو يشرف على الأمويين ليرجو الرب بغد قادم أفضل، أعطى سورية جهده فاعترفت بفضله، وها هو يضاف إلى القامات الكبيرة التي آثرت الرحيل مع اليوم الأخير للعام المنصرم تاركة فسحة الأمل والعيش في القادم للراكضين وراء الأمل وحب سورية.
وبرحيله خسرت سورية اسماً قبانياً لامعاً لا يقل عن نزار مكانة، ولكن بنكهة أخرى وثوب مختلف.