الإسلام السياسي الصعود والأفول دروس لم نستفد منها

الإسلام السياسي الصعود والأفول دروس لم نستفد منها

ثقافة

الثلاثاء، ٢٣ ديسمبر ٢٠١٤

«ما يسمى الربيع العربي كان ذا خلفية شبابية مدنية، تركز على مطالب بحل المشكلات، وعلى الرغم من اختفاء النعرات الطائفية والبعد عن الصبغة الدينية، والتركيز على مطالب بناء الدولة المدنية الحديثة الديمقراطية، فإن الأمر انتهى بعد انهيار الأنظمة القائمة إلى صعود للحركات السياسية الدينية»!
 
هكذا يبدأ معدا كتاب «حركات الإسلام السياسي والسلطة في العالم العربي- الصعود والأفول» الدكتوران جمال سند السويدي وأحمد رشاد الصفتي الحديث عن موضوع هذا الكتاب الخطير الذي يعد الأول في بابه أكاديمية وعلمية بعدما يسمى الربيع العربي، في محاولة للقراءة والنجاة في كثير من المناحي السياسية.
 
 
رصد ونتائج
 
العنوان بداية دال على حصافة وبراعة من أعدّ هذه الدراسات، فالربط بين الحركات الدينية والسلطة كان بارعاً، إذ لا تتمثل المشكلة بين الإنسان والدين، بل المشكلة في الحركات الإسلامية السياسية الساعية إلى السلطة، وهذا ما سيدفع بالضرورة إلى فهم آلية التفكير السياسي لهذه الحركات التي ما فتئت تفكر بالسلطة وتسعى إليها منذ منتصف القرن العشرين بشكل حركي سياسي منظم، وتأتي بعد ذلك عبارة الصعود والأفول لتعطي حقيقة ما آلت إليه هذه الحركات من صعود فاجأ الجميع بما في ذلك الحكام والسلطات، ولكنه لم يفاجئ عدداً من الباحثين والراصدين.
يبدو أن الإمارات العربية المتحدة هي من أكثر الدول رصداً لهذه الحركات، وحساسية أمام صعودها، ويعود ذلك للكتلة الاقتصادية الصاعدة والمنسجمة، وصعود الإسلام السياسي الفج قد يؤثر كثيراً في هذه الدولة القائمة على حرية الحركة في كل شيء، والتي تلبس مجتمعياً لا سياسياً اللبوس الإسلامي، وقد قرأنا وتابعنا مواقف دالة على هذا الرصد، ويأتي هذا الكتاب من أعلى هيئة بحثية في الدولة وهو مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية ليؤكد هذا الموضوع، وخاصة أن رأس المركز الدكتور السويدي هو الذي خطط للدراسات وقدم لها ليمثل رأياً سياسياً وفكرياً واستراتيجياً على المدى المنظور والمستقبلي يقوم على قراءة علمية وغير عاطفية لهذه الحركات في الإسلام السياسي، ومع الإيمان بضرورات التغيير نجد الحذر الذي عمّم على الكتاب من أولى صفحاته حذراً علمياً مسوّغاً، وأقصد بذلك تعبير الكتاب «ما يسمى بالربيع العربي» فمن خلال هذه المطالب المدنية والديمقراطية الحقة كما بدأت في التقديم انسربت الحركات الإسلامية السياسية لتهيمن على المشهد، وتقدم نفسها بديلاً لأنظمة الحكم القائمة، ولأن هذه الحركات لم تكن ذات فاعلية في جميع الدول التي شهدت اضطرابات وحراكاً وحرباً، فقد اقتصرت الأبحاث على تونس ومصر والمغرب واليمن وليبيا، وفي ذلك إشارات سأقف عندها من أن هذه الحركات لم تجد مسرحاً في سورية، وإنما نبتت عنها حركات متطرفة بدأت بلبوس سياسي عنفي.
 
نماذج دينية إسلامية
يحاول كثيرون التمييز بين أنواع من الإسلام بين معتدل ومتطرف، أقصد الإسلام السياسي الساعي إلى السلطة، وقد كشف كتاب كثيرون منذ انهيار الاتحاد السوفييتي في التسعينيات غلط هذا الفرز، فالفكر الديني موسوياً أو مسيحياً أو إسلامياً لا يختلف في درجاته عندما يكون سياسياً ويسعى إلى السلطة، وهذا ما يشير إليه بوضوح د. عبد الله يوسف سهر كاتب الدراسة الأولى «صعود التيارات الإسلامية في ضوء معادلات الهيمنة وتوازن القوى الإقليمي» فيتناول بعلمية بدايات الحركات الإسلامية السياسية منذ سقوط الدولة الإسلامية «ظاهرة الصراع بين النماذج الدينية الإسلامية تجلت في الصراع الذي نشب بين (الإسلام كدين) و(الإسلام العصري) و(الإسلام الرسمي) و(الإسلام غير الرسمي) وكذلك بين (الإسلام التعبدي) و(الإسلام الثوري)، كل تلك النماذج تم تبنيها من قبل بعض الحكومات والجماعات الإسلامية في المحيط العربي الإسلامي» الكاتب ببراعة تناول التصنيفات كلها ولم يترك أي تصنيف، وهذا لإظهار التمايز قبل الدخول في دور الحكومات في تعزيز الانقسام وبلورة فكرة الإسلام السياسي وفق تصنيفات وصلت إلى العنف.. الإسلام الدين، والإسلام العصري، يقومان على فكرة الخصوصية، والإسلام الرسمي وغير الرسمي هو ما تسعى إليه الحكومات مستعينة بالقاعدة الدينية وطبقة رجال الدين، ومن العبادة إلى الثورة انطلق اللبوس السياسي الذي يبدأ- وقد أشرت إلى ذلك في دراسات سابقة- من الخلاف بين السعودية ومصر وحول مرجعية الأزهر للعالم السنّي الإسلامي، إذ رأت السعودية ضرورة سحب هذه المرجعية المؤثرة في كل العالم من مصر لتكون تحت سيطرتها، وحين أخفقت في ذلك مع عبد الناصر أنشأت منظماتها، ووضع عبد الناصر الأزهر تحت سيطرة الدولة، وبذلك فإن الصراعات السياسية هي التي أغرت الحركات الإسلامية على الانخراط في الواقع السياسي.. ويستمر الكاتب ليظهر القطبيات الإسلامية المتعددة التي ظهرت في محاولة للهيمنة على العالم الإسلامي بأسره، والقارئ المتمعن يكتشف ذلك الصراع الإيراني التركي بغية السيطرة على العالم الإسلامي، وكل جانب يعتمد أطرافه التي تأخذ التبعية منه، وربما الاعتراف بوجوده، ومع الكمون الذي يشير إليه الباحث بعد أن أجهض عبد الناصر الفكرة إلا أنها عادت إلى الظل لتحيا من جديد بانتظار فرصة جديدة تظهر فيها للعلن، وكان ما يسمى الربيع العربي هو الفرصة التي استطاعت من خلالها حركات الإسلام السياسي أن تظهر لتركب الموجة، وبفعل إقليمي وعالمي أراد تغيير وجه المنطقة، ومع هذا فالكاتب ينتهي إلى نتائج مهمة جداً، وحبذا لو التفت إليها المعنيون العرب، وهي التي مكنت الحركات الإسلامية من الدخول في هذا الصراع مجدداً: «الحكومات التي ليس بمقدورها أن ترى جماهيرها الذكية لا يمكنها أن تواجه الحشود والتنظيمات، استطاعت الجماعات الذكية أن تشكل عدداً يصعب حصره من المنظمات والمنتديات وتحدت أميركا.
السيناريو القادم سوف يتضمن الكثير من المفاجآت، سيكون متمحوراً حول عاملين رئيسيين هما: التغيرات على مستوى النظام العالمي وثورة المعلوماتية وتطوراتها..».
 
المناخ والحركات الإسلامية
من المهم للغاية أن تتم دراسة واقع الحركات الإسلامية والواقع السياسي العربي من منطلقات الأسباب وصولاً إلى الواقع والنتائج، لأنه من غير المفيد أن يتم النظر إلى ما جرى على أرض الواقع فقط، فثمة مناخ أتاح لهذه الحركات الوصول إلى السلطة بدءاً من محاولاتها في عهد عبد الناصر وصولاً إلى تجربة الجزائر التي كان من المفترض أن تفيد في تشريح العلاقة بين الدين والسلطة، وانتهاء بالمرحلة الحالية ووصول التيارات والحركات الإسلامية إلى قمة هرم السلطة في تونس ومصر وليبيا، وبما أن الكتاب حديث جداً فقد وقف عند إخفاق هذه التجربة، والباحث المغربي الدكتور محمد سعدي في بحثه «الحركات السياسية الإسلامية: تحديات السلطة وتحولات الخطاب» يقف عند جملة من القضايا، ولعلّ أهم ما وقف عنده هو إغراء السلطة، وكيف يتم التحول في الخطاب، ويرى، وهذا ينطبق على أي حزب سياسي أو حركة، أن أي حركة تنتقل من السرية إلى السلطة تترهل وينكشف العور فيها «فقد كشف ما يسمى الربيع العربي عن واقع الحركات السياسية الإسلامية ووضعه تحت المجهر، بعد أن ظلت تتوارى لمدة طويلة داخل الظل أو على الهامش» ويظهر الكاتب عدة فرضيات واجهت الحركات الإسلامية عند مواجهتها للسلطة، وهذه الفرضيات غاية في الأهمية:
- وفّر ما يسمى الربيع العربي فرصة تاريخية للحركات السياسية الإسلامية للعمل السياسي الشرعي وللوصول إلى السلطة، غير أن نجاحها سيكون مرهوناً بتحمّل تحديات عدة منها الانتقال من منطق الشعارات إلى منطق الأفعال.
- دخول مجال العمل السياسي يوجب تبني نهج من الواقعية والبراجماتية وتقديم توافقات وتنازلات، ما سيجعل الإسلاميين يفقدون تمايزهم الأيديولوجي.
- بقدر ما يتزايد دخول الحركات السياسية الإسلامية مجال العمل السياسي، يتسع انتقالها من الدعوة إلى الدولة.
- كلما زادت درجة الانفتاح السياسي والديمقراطي تشتتت هذه التيارات وزادت الانشقاقات.
- المجتمعات ستحكم على هذه الحركات من خلال إنجازاتها بعيداً عن الاعتبارات الدينية والشعارات الفضفاضة.
- من المرجح أن تتعرض الحركات السياسية الإسلامية لتآكل هويتها ومرجعيتها الدينية لخضوعها لصيرورة علمنة غير معلنة.
وبعد تناول عدد من التجارب يؤكد الباحث رأيه من خلال تجربة المملكة المغربية التي بدأت قبل مدة بدمج حركة العدالة والتنمية السياسي السلس، ما أثر سلباً على الحركة فقدت من خلاله الكثير من جاذبيتها ويخلص هذا البحث العميق إلى نتائج مهمة فيما يخص الحركات الإسلامية السياسية يجب الوقوف عندها ليس عند خصومها ومنتقديها وحسب، بل عند الذين نادوا بها وقادوها، فالإشكالية تتجاوز كما يرى البحث المعمق مسألة الشعار، وهذا ما يؤكده الباحث «إن انتصار الحركات السياسية الإسلامية ووصولها إلى السلطة بعد سنوات عدة من ممارسة المعارضة والعمل خارج الأنظمة السياسية أو على هامشها، يشكل بلا شك هزيمة للمشروعات الليبرالية الحديثة، ولكن هذا يعني أيضاً أن العدو بعد اليوم بالنسبة إلى الإسلاميين ليس اليساريين ولا الليبراليين، بل إنه الإسلاميون أنفسهم، وقد استنفدوا إمكانيات ومبررات وجود خطابهم، ما يجعلهم يعيشون تناقضات بين مثاليات العمل الديني الدعوي وحسابات السياسة ومناوراتها، بين خطاب المعارضة وتحديات السلطة..».
 
التجارب الإسلامية والسلطة
جاء الكتاب المرجعي المهم، والذي يجب أن يكون إلى جانب كل عامل في حقول السياسة والفكر والشأن العام في ستة فصول، ستة أبحاث، إضافة إلى البحثين التأسيسيين ضم الكتاب أبحاث: التوجه الإسلامي والقبلية والتغيير السياسي في العالم العربي للكوري جيو نغمين سيو، المجال السياسي العام والأحزاب الإسلامية في العالم العربي للدكتور عبد الحق عزوزي، الحركات السياسية الإسلامية في الجمهورية التونسية للدكتور محمد الحداد، من السجن إلى السلطة والعكس، تجربة حكم الإخوان في جمهورية مصر العربية للدكتور بهجت القرني، وهذه الأبحاث تتناول التجارب التي كانت للحركات السياسية الإسلامية في الحكم، هذه التجارب التي أخفقت عملياً على أرض الواقع، وبعيداً عن العاطفة يحلل الباحثون أسباب الإخفاق في عمق الفكر والأيديولوجية مبتعدين عن فكرة المؤامرة الخارجية، بل الجميع يعرف، والباحثون أشاروا إلى شبه اتفاق دولي وإلى عون تلقته هذه الحركات لتنتقل إلى السلطة، ولكنها جاءت غير مجهزة وغير مسلحة بما يلزم لممارسة العمل السياسي، وبقيت تؤدي الدور السياسي بصورة أبوية رعوية دعوية دون أن تتنبه لما يجب أن يكون عليه العمل السياسي الذي دفعت عقوداً للوصول إليه!
ود. القرني في دراسته العميقة عن تجربة حكم الإخوان يقدم فرشاً مهماً للمقدمات والأسباب والنتائج، ويوثق ما قام به حراك المجتمع المدني، ويوصف عمل كل واحد منهم، فهم مرتبطون بمؤسسات عالمية رعت أنشطتهم مثل غوغل، والاستفادة من الواقع السياسي المترهل أفسح المجال لهذا الحراك المدني الذي اختطفه الإخوان، لكنهم مارسوا ما قامت عليه منظمات المجتمع المدني، فعادوا إلى ما خرجوا منه وهو السجن، وجاءت عبارة الخاتمة الصوابية «المشهد السياسي يحدث تحولات في الإسلاميين أكثر مما يحدثه الإسلاميون من تحولات في هذا المشهد» فالمشهد هو الفاعل، والحركات الإسلامية والإخوان تحديداً العنصر المنفعل الضائع حسب تعبير الخاتمة بين المشاركة والمغالبة والتمكين.
وفي خاتمة البحث العام الجامع للبحوث الستة نجد الكلام السياسي الخالص «يمكن القول إن المنطقة العربية بصدد جولة صراعية كونية جديدة تكاد ملامحها تتبلور في الأفق، وهذه الجولة ليست عابرة أو طارئة، بل ستكون على الأرجح جزءاً من تغييرات هيكلية جذرية ممنهجة تحدث بشكل تدريجي وعلى نحو سلس في بنية النظام العالمي القائم.. وقد ظهر ذلك بوضوح في تشدد مواقف كل من الصين وروسيا حيال الأزمة السورية، ما يؤكد أن إدارة هاتين القوتين العالميتين للأزمة تعكس في جانب منها الحضور الهائل للمصالح الدولية في التحولات الإقليمية الراهنة...».
كتابات وكتب كثيرة نشرت بعدما عصف بالوطن العربي ما عصف، ولكنني عندما قرأت هذا الكتاب شعرت أهمية أن تكون علمياً في التناول، وأن تشرّح الحدث بدون انحياز إلى رغبات دول أو أشخاص أو مؤسسات، كتاب (حركات الإسلام السياسي والسلطة في العالم العربي) مشغول بحرفية ومهنية غايته التحليل والشرح، والبحث عن مخارج لهذا الوطن المأزوم.