أيقونة دمشقية في سماء الأدب...غادة السمان أديبة متمردة... فراشة جميلة يعتبرها النقاد أهم روائية عربية

أيقونة دمشقية في سماء الأدب...غادة السمان أديبة متمردة... فراشة جميلة يعتبرها النقاد أهم روائية عربية

ثقافة

الأحد، ٢١ ديسمبر ٢٠١٤

حين يحدثك العامة من الناس عن أمر جلل فريد نادر يقولون ظاهرة لن تتكرر أبداً.. وفي حياتنا الأدبية هنالك ظواهر لن تتكرر وفي مقدمتها غادة السمان، الأنثى البرجوازية التي ولدت في حواري دمشق وغادرتها في صغرها ولم تعد إليها.
 
غادة السمان الأنثى صاحبة القد الجميل والعينين الرائعتين، المرأة الجميلة الثائرة المتمردة الرقيقة كفراشة، الأنيقة في ملبسها وكتاباتها، المثقفة التي نهلت العلم والثقافة من أبويها وعائلتها، المتحدثة البارعة تسحر من يستمع  إلى حديثها ونجواها.. غادة السمان التي خطت أسطورتها الأدبية بماء الياسمين.. عاشت لغزاً وغلف حياتها الغموض والوضوح في آن واحد كما يحيط بها العشق والياسمين.
غادة السمان ستبقى أيقونة دمشقية في سماء الأدب، فهي الروائية العربية التي حازت شهرة أدبية واسعة تجاوزت حدود الوطن.... ويعتبرها بعض النقاد الكاتبة العربية الأهم حتى من نجيب محفوظ.
 
غادة السمان
غادة السمان، سابقة عصرها، فمنذ نعومة أظافرها كانت قوية الإرادة صاحبة رأي، وترفض مبدأ الرجل والمرأة.. لذا كانت تقف إلى جانب الرجل في كل الأوقات، بقلب ووجدان المرأة، تشاركه معاناة الوجود، وتغوص في أغوار النفس بعيداً عن الأقنعة، بحثاً عن أسرارها وحقائقها، وفي معاناتها بدورها في البحث عن الحقيقة، بعيداً عن التعصّب، والمسلّمات، وضيق الأفق، والأحكام المسبقة، يتبلور وعيها أكثر فأكثر، وموقفها من الوجود، فتأخذ على عاتقها النضال جنباً  إلى جنب الرجل، تريد تغيير وجه المجتمع البائس، فتثور، وهي بدورها تبرهن أنها قادرة أيضاً أن تحمل هموم المجتمع، والجيل القادم، والشباب، فيتدفق من أعماقها نهر هادر من إبداع حي نراه بين قصة قصيرة وشعر ورواية ومقالات.
غادة السمان ولدت في دمشق عام 1942 م، والدها أحمد السمان الحاصل على شهادة الدكتوراه في العلوم الاقتصادية والسياسية من كلية الحقوق في باريس، صاحب الباع الطويل في النضال ضد المحتل الفرنسي والناشط في المجال الثقافي والاجتماعي بسورية، فهو من أسهم بتأسيس منظمة «الشباب الوطني»، كان عضواً في منظمة «القمصان الحديدية» التي أسسها الزعيم الوطني فخري البارودي لمقارعة المحتل الفرنسي، وممثلاً لسورية في اللجنتين الثقافية والاقتصادية لجامعة الدول العربية، كما كان مفوضاً مقرراً في مجلس الشورى السوري، وعميداً لكلية الحقوق عام 1954 م ورئيساً للجامعة السورية بالوكالة حتى عام 1956 م، ووزيراً للتربية والتعليم والثقافة والإرشاد القومي عام 1961 م، له العدد الكبير من المؤلفات الحقوقية والاقتصادية، توفي عام 1968 بدمشق.
تزوج أحمد السمان من السيدة سلمى رويحة مدرسة اللغة الفرنسية من مدينة اللاذقية، توفيت سلمى وغادة ما تزال طفلة، فتربت غادة في كنف والدها وجدتها، كان والدها محباً للعلم والأدب العالمي ومولعاً بالتراث العربي في الوقت نفسه، ووالدتها لها باع في الكتابة، كانت شديدة التأثير على غادة مما منح شخصية غادة الأدبية والإنسانية أبعاداً متعددة ومتنوعة.
أنجب أحمد وسلمى ولدين غادة وسلمان، توفيت سلمى أثناء ولادتها بطفلها سلمان، تزوج أحمد السمان بعد عشرات السنين من سيدة من عائلة الشيشكلي ورزق منها طفلتين هما زلفى ونورا.
غادة السمان خارج كل طقوس العادات والتقاليد البالية، لها شخصيتها المتميزة وأفكارها الحضارية، تعشق الحرية والمغامرة ، نشأت في مجتمع دمشقي محافظ فسرعان ما اصطدمت به فغادرت دمشق  إلى حيث تجد نفسها، وقيل أكثر من ذلك وأن سبب مغادرتها دمشق في الستينات من القرن الماضي شأن سياسي وزُجت بالسجن لثلاثة أشهر لمعادة السُلطات ومن ثم غادرت دمشق ولم تعد إليها. وهذه القصة لا أعتقد أنها صحيحة فغادة السمان كانت تكتب في الصحافة السورية يبدو أن كتاباتها لم تنل رضى الرقيب آنذاك فتعرضت لمضايقات، غادرت  إلى بيروت وصدر حكم عليها بالسجن غيابياً لمدة ثلاثة أشهر بسبب مغادرتها  إلى لبنان من دون إذن من الجهة الرسمية التي كانت تعمل لديها لأنه في ذاك الوقت كان موظف الدولة من حملة الشهادات العليا يحتاج لموافقة رسمية حين مغادرة سورية.. وفي السبعينات من القرن الماضي صدر عفوٌ في سورية «عن جرائم ترك العمل لحملة الشهادات العالية والسفر من دون إذن» وشملها هذا العفو.
في كتابات غادة العديد من الرموز والتلميحات حول ذلك، فهنالك في مجموعتها «عيناك قدري» قصة تحت عنوان «هاربة من منبع الشمس» وورد في إحدى قصصها: «هنالك من أول يوم سجنت فيه وأنا أعيد قراءتها. أراها بعين جديدة. كل خبر صار له مغزى جديد ودلالة مختلفة».
تزوجت غادة السمان في لبنان من الدكتور البعثي «بشير الداعوق» وهو أستاذ جامعي، وصاحب «دار الطليعة» للنشر، وأنجبت منه ابنها «حازم»
 
الرحيل بين المرافئ من دون عودة
انطلقت في عالم الأدب منذ كانت على مقاعد الدراسة في المرحلة الثانوية، حيث نشرت أول قصة لها في مجلة المدرسة تحت عنوان «من وحي الرياضيات»، ولاقت تشجيعاً من مدرّسة اللغة العربية، واستمرت في كتابة القصص القصيرة للمجلة الأدبية الخاصة بالمدرسة.
كتبت أول مقالة لها عن تحرير المرأة عام 1961. وفي عام 1962 نشرت مجموعة من القصص القصيرة بعنوان «عيناك قدري».
ثم هربت، أو غادرت غادة السمان دمشق  إلى بيروت في الستينيات من القرن الماضي، وعملت في الصحافة اللبنانية وبرز اسمها أكثر، وصارت واحدة من أهم نجمات الصحافة هناك، وأصدرت مجموعتها القصصية الثانية «لا بحر في بيروت» والثالثة «لا بحر في ليل الغرباء» عام 1966.
خلال الفترة بين عامي 1966-1969، تنقلت غادة بين لبنان ومعظم العواصم الأوروبية وفي أواسط الثمانينيات استقرت في باريس، ولا تزال تقيم هنالك حتى الآن.
منذ غادرت غادة السمان دمشق في الستينيات من القرن الماضي لم تعد إليها!؟ رغم عشقها لدمشق وعشق دمشق لها، حتى حين كرمتها دمشق بمناسبة « دمشق عاصمة الثقافة العربية 2008» لم تأت إليها واكتفت بإرسال رسالة عشق لها وتليت الرسالة في الاحتفاليات، ألم نقل أن غادة عاشت لغزاً ويحيط حياتها الغموض والوضوح في آن واحد، كما يحيط بها العشق والياسمين ودمشق: «ولم أَخُنْ ياسمين جدتي، لا تسأليني يا شام، النص الذي سأخطه الآن عن دمشق لن يكون موضوعيًا. وعلى من يبحث عن معلومات محايدة، وموثقة بالأرقام عن تلك المدينة السحرية ألا يتابع القراءة.
فأنا أتحدث عن مسقط قلبي ورأسي، إمبراطورية الياسمين، مدينة غبارها النجوم وأنشودتها نغمة التحدي للفاتحين على مر الدهور.. مدينة تكسرت محاولات الزمن لإذلال شعبها الرقيق كحد سيوفها، الشرس كأحصنة العرب البرية التي تستعصي على ترويض يد غريبة. دمشق مدينة أحزاني البضة، مدينة القبلة الأولى، دمشق التي يتعذر على عشاقها مثلي سجنها داخل صناديق الذاكرة الموصدة، وستظل  إلى أبدي تهيم في قاع روحي، وعبثًا أحاول أن أنسى بإتقان ما كان، أو أتذكر بدقة كل ما كان، أو أختم بالشمع الأحمر ذاكرتي معها - غادة السمان».
أثر الحروب العربية الإسرائيلية على كاتبتنا:
حين نشبت حرب عام 1948 م كانت كاتبتنا طفلة لم تعِ مجرياتها، إنما عاشتها من خلال ما قص عليها أهلها من حوادث ووقائع، وشكلت هزيمة حزيران 1967 م صدمة كبيرة لها، ونقطة تحول في مسيرتها الحياتية والأدبية، ويومها كتبت مقالها الشهير «أحمل عاري إلى لندن»، الذي أثار ضجة كبرى في الشارع العربي. لقد حذرت غادة الساسة العرب والأدباء العرب من استعمال هندسة وعلم الكلام لتبرير هزيمة حزيران وتخدير العقل العربي، وهي بذلك كانت من القلائل الذين حذروا من استخدام مصطلح «النكسة» وأثره التخديري على الشعب العربي.
عقب حزيران 1967 م اعتزلت غادة الكتابة لفترة من الوقت، ومن ثم أصدرت مجموعتين قصصيتين تعرضت من خلالهما لما ألم بنا من حزن وقهر نتيجة هزيمة حزيران، ووقع الهزيمة على المثقفين العرب. عبّرت غادة من خلال قصصها عن أبعاد الهزيمة في نفس وروح وجسد الأنثى بمنظور أنثوي أخّاذ.
وعلى أثر حرب تشرين عام 1973 م أصدرت مجموعتها «رحيل المرافئ القديمة» والتي اعتبرها بعض النقاد الأهم بين كل مجاميعها، حيث قدمت بقالب أدبي بارع المأزق الذي يعيشه المثقف العربي، والهوة السحيقة بين فكرة وسلوكه.
في أواخر عام 1974 أصدرت روايتها «بيروت 75» والتي غاصت فيها بعيداً عن القناع الجميل لبيروت «سويسرا الشرق» إلى حيث القاع المشوه المحتقن، وقالت على لسان عرافة من شخصيات الرواية «أرى الدم.. أرى كثيراً من الدم» وما لبثت أن نشبت الحرب الأهلية اللبنانية بعد بضعة أشهر من صدور الرواية.
وتقول الدكتورة إلهام غالي: «في أواخر عام 1974، وقبيل بداية الحرب اللبنانية (نيسان، 1975) فاجأت غادة السمان القراء بأول رواية في حياتها الأدبية، والرواية العربية الوحيدة التي سجلت البدايات غير المرئية للحرب، فتنبأت بها على نحو من الأنحاء».
وعن الحرب الأهلية اللبنانية سطرت أيضاً غادة روايتها الطويلة «كوابيس بيروت». لقد عايشت غادة الحروب العربية وذاقت طعمها المر، في جوفها في عمق روحها وعرفت كيف تحول الألم إلى إبداع، فهي لم تقف سلبية، متفرّجة على هامش الحدث، ولم تهرب مذعورة، بل شاركت في الحرب على طريقتها ومن خلال قلمها وصدق روحها.
غادة السمان تعيش الآن في باريس، وحيدة بعد وفاة زوجها، يسدل الستار على جزء كبير من حياتها العامة والخاصة والأدبية، وتبقى أيقونة دمشقية في سماء الأدب، فهي الروائية العربية الأولى... وظاهرة لن تتكرر أبداً في حياتنا الأدبية.