كان يا ما كان في قديم الزمان..الرقابة على الصحافة زمن الاحتلال العثماني"3".. "الجورنالجي" جاسوس السلطان والفلقة للصحفيين

كان يا ما كان في قديم الزمان..الرقابة على الصحافة زمن الاحتلال العثماني"3".. "الجورنالجي" جاسوس السلطان والفلقة للصحفيين

ثقافة

السبت، ٢٢ نوفمبر ٢٠١٤

شمس الدين العجلاني
كان العثمانيون على عداءٍ دائمٍ مع الصحف والصحافيين، برغم صدور الصحف الأولى في العهد العثماني ولكن كانت غايتها آنذاك خدمة المصالح العامة للسلطة، ونشر أوامرها وقراراتها، وترويج سياستها، ومواقفها، ولغتها، وترسيخ وجودها - الدكتور أديب خضور - وغلبت على هذه الصحف اللغة التركية.
عُرف السلاطين العثمانيون وولاتهم بإرهابهم للصحفيين، فعلى سبيل المثال قام السلطان عبد العزيز من خشيته من الصحافة بتأسيس المكتبجي "مكتب للصحافة" مهمته مراقبة تنفيذ قانون الصحافة الذي أصدره والتقيد بحرفية، وملاحقة الصحفيين، فمارس هذا المكتب سلطاته بأفظع مظاهر الظلم وعدم الكفاءة وانعدام الأمانة والتضييق والتعسف على الصحف والصحفيين، واشتهر السلطان عبد الحميد الثاني بكراهيته للصحف وكتابها وخشيته من تأثيرها على الرعية لذا أمر بتقييدها وفرض الرقابة المشددة عليها وملاحقة الصحفيين.
يذكر الدكتور سنان سعيد مدى قلق السلطان عبد الحميد الثاني من الصحافة حيث يقول: "يخشى على حكمه وحياته من خطر الصحافة، وأصدر أوامره إلى الصدر الأعظم (رئيس الوزراء)، (بتكميم أفواه الصحافة، وغلق بعض الجرائد)، وفرض حكماً استبدادياً بتعطيله البرلمان (مجلس المبعوثان)، والدستور، (وشكّل عام1877هيئة رقابة جعلها تابعة لمديرية المطبوعات)".
ويذكر فيليب طرزي، أنّ السلطان عبد الحميد الثاني كان لا يهتم بأمور الدولة بقدر اهتمامه بسلامته الشخصية والمحافظة على مركزه، ولا يحب الصحف، وأصدر (أوامره بتقييد حريتها، وضيّق عليها المراقبة حتى صارت جسماً بلا روح، فما كانت تنشر سوى ما يطيب للسلطان من ألفاظ التفخيم والتعظيم والتمجيد في مدح عدالته رغم مظالمه واستبداده وسوء إدارته). حتى وصل به سوء الظن عام 1898 إلى درجة (وضع المطابع تحت إشراف الشرطة).
ويذكر فخري البارودي: "السلطان عبد الحميد قضى أيام حكمه بالخوف والهلع، والإكثار من تعيين الجواسيس، حتى قالوا إنّ الجواسيس في آخر أيامه كان عددهم يزيد عن الثلاثين ألفاً... وقد كمت الأفواه وكسرت الأقلام..".
لقد مرت على بلادنا في عهد الاحتلال العثماني ظروف الجهل والأمية والفقر وقمع الحريات وغياب الديمقراطية وأنظمة الرقابة الصارمة والغريبة على الصحف والصحفيين، "كان الشعب العثماني على اختلاف عناصره غارقاً بالجهل إلى ذقنه. والذين يقرؤون، ويكتبون من أفراده يعدّون على الأصابع في كل بلدة، حتى في عاصمة الدولة. والشعب الجاهل يسير حسب أهواء زعمائه – فخري البارودي"
وكان على الصحف العربية أن تتحدى كل مظالم الاحتلال العثماني وتصدر برغم كل ذلك، وقد استطاع الرواد الصحفيون العرب أن يتغلبوا على معظم هذه الصعوبات، رغم تكرار إغلاق صحفهم وملاحقتهم، أو سجنهم، أو نفيهم.
ولكن لا نستطيع نكران أن معظم الجرائد كانت: "عبارة عن صحف تجارية ليس لها هم إلا كسب الدراهم وتضليل الأمة بالأخبار الكاذبة التي ترضي جلالة السلطان – فخري البارودي".
هذه الظروف القاهرة التي عانى منها حملة القلم في البلاد السورية دعت بعضهم للهجرة داخل الوطن العربي، وتحديداً إلى مصر زمن حكم أسرة محمد علي التي لديها وضع مستقل عن السلطان العثماني، فكان الخديوي أكثر رحابة صدر وأقل تشدداً على رقابة الصحف. ولكن لا يعني ذلك أنّ الخديوي منح الحرية والديمقراطية للصحف والصحفيين!؟ فمثلاً الصحفي المصري يعقوب صنوع صاحب صحيفة "أبو نظارة" القاهرية هرب من مصر خوفاً من بطش الخديوي إسماعيل لنقده إياه.
 هاجر الكثير من الصحفيين الشوام (من أبناء سورية ولبنان) إلى مصر وأصدروا صحفاً فيها. وكانت بعض هذه الصحف علامات بارزة في تاريخ الصحافة العربية، وتحدث عنها الكثير من الكتّاب والسياسيين المصريين في أكثر من موقع وتحدثوا مطولاً عن هجرة الصحفيين "الشوام" ودورهم في تأسيس الصحافة المصرية.
وهاجر قسم من الصحفيين السوريين إلى أوروبا "إنجلترا وفرنسا" ليصدروا صحفهم من هناك ويرسلونها إلى البلاد السورية عن طريق البريد الأجنبي (نظراً لنظام الامتيازات) لتفلت من الرقابة ويمكنها التأثير في الأوضاع السياسية الظالمة في بلادهم، ولكن جواسيس السلطنة العثمانية كانوا يقفون على مداخل مكتب البريد الأجنبي، لتوقيف الخارجين وتفتيشهم والتحقيق معهم.
وهناك أيضاً من هاجر من الصحفيين للخارج وأصدر صحفاً لأبناء الجاليات العربية الجديدة في الأميركيتين الشمالية والجنوبية الذين أخذ عددهم يتزايد في تلك الفترة.
 الفلقة للصحفيين:
لقد ابتدع العثمانيون أساليب كثيرة وغريبة لمحاربة الصحف والصحفيين من قتل، وسجن، وتعذيب، وملاحقة، وتجسس، ورقابة صارمة.
 كانت الشؤون الصحفية مرتبطة بنظارتي المعارف والداخلية في استانبول. والرقابة المسبقة كانت السيف المسلط على رقاب الصحف والصحافيين وخصوصاً في أوقات الحرب، فيطبقها مراقب المطبوعات والذي عرف آنذاك بـ "المكتبجي" في الولاية وفق أهوائه ومصالحه أيضاً، فهو لم يكن على قدر من المعرفة والفكر والتعقل، بل اتصف بعضهم بالجهل المطبق!؟
لقد استخدم "المكتبجي" العقاب الجسدي بحق أصحاب الصحف والصحافيين، فكثيراً ما كان "المكتبجي" لا يتردد في معاقبة الصحافي الذي يعتبره مخالفاً بالفلقة (أي الضرب المبرح على الرجلين) وفي أي مكان يراه مناسباً بما في ذلك منزله وأمام أسرته وذويه، أو في الشارع على مرأى ومسمع المارة.
كان "المكتبجي" في الولاية صاحب اليد الطولى في الرقابة على "الأنباء" الصحف، حتى إذا ما كتب أحد الصحفيين خبراً لم يعجبه، أخذ الأخير عدة الفلقة، وقصد الصحفي!؟. كما حصل مع الصحفي اللبناني سليم سركيس محرر جريدة لسان الحال اللبنانية، وهذا ما دعا سليم سركيس لإصدار كتابه "غرائب المكتوبجي" فالفلقة كانت من الأساليب المتبعة لإرهاب الصحفيين!؟ كما ذكر د. عبد الوهاب الكيالي. في كتابه تاريخ فلسطين الحديث وسليم سركيس في كتابه غرائب المكتوبجي والذي صدر على إثرها حكم بإعدامه، فهرب إلى أميركا.
موافقة إصدار الصحيفة:
كانت الصحف تخضع لرقابة "المكتبجي" المسبقة أي يجب إرسالها إليه قبل نزولها إلى الشارع فيقوم بقراءة موادها ويحذف ما يريد أو يمنع صدورها كلياً دون تهمة أو محاسبة. ويحدد "المكتبجي" لأصحاب ومحرري الصحف ممنوعات عامة، وعند الحاجة ممنوعات خاصة مـرتبطة بوقـت أو حدث معين، وفق مزاجه الخاص وفكره الضيق.
 لم تكن الرقابة لوحدها أحد السيوف المسلطة على رقاب الصحافة والعاملين فيها بل الحصول على موافقة إصدار الصحيفة كان أيضاً على غاية من الأهمية وتعقيدات ومصاعب مبالغ بها، إذ يتطلب موافقات معظم موظفي الولاية بالإضافة إلى موافقة العاصمة الآستانة. لأنّ الموظفين العثمانيين لا يلتزمون بالقرارات الإدارية طمعاً بالحصول على الرشاوى من مقدمي الطلبات!؟
"الجورنالجي" جاسوس السلطان:
من أطرف التسميات التي أطلقت على الجواسيس الذين يتابعون الصحف والصحفيين اسم "الجورنالجي" وكان السلطان العثماني يعتمد في حكمه عليهم لإرهاب الصحفيين.
اعتمد السلطان العثماني، على شبكة واسعة من الجاسوسية، وكان الجواسيس المرتبطون برجال القصر يعرفون "بالخفية" لأنّهم يتجسسون على الناس "خفية" وأما التقارير التي يقدمونها فكانت تسمى "جورنال" ولهذا السبب كان هؤلاء يعرفون أيضاً باسم "الجورنالي" وكان عددهم كبيراً، وكان كل واحد منهم مرتبطاً بكبار رجال البلاط الملكي، الذين كانوا مرجعاً ورئيساً لجماعة من الخفيات. وكانوا يندسون بين الناس في الشوارع والميادين، في المقاهي والملاهي وفي التراموايات والمنتزهات ويتجولون في الشوارع المحيطة بالمدارس العالية، وبقصور الأمراء وبيوت بعض الرجال، ويقدمون التقارير السرية عما يسمعونه أو يلاحظونه من أقوال وأفعال. وكثيراً ما كانت هذه التقارير تعتبر كافية لاعتقال بعض الأشخاص وإملاء السجون بجماعات من الشبان والطلاب المنطلقين إلى الحريات الفكرية والسياسية. وكثيراً ما كان الاعتقال يترافق مع ضروب من التعذيب وينتهي في بعض الأحيان إلى النفي والتعذيب.
ومن المثير أنّ سلطات ما يسمى بالانقلاب الدستوري عام 1908م عثرت في قصر يلدز على الآلاف من هذه التقارير قدرت حمولتها بحمولة عربة (كارة)، وتضمنت أعمال ألف وأكثر من أولئك الجواسيس.
كانت لمكتب "المكتبجي" فروع متشعبة داخل البلاد السورية وخارجها تشعب العروق في الجسم، إذ كان عمالها مبثوثين في كل دوائر الحكومة من الوالي السوري إلى النظارات المنفصلة عنه إلى كل فرع من فروعها. ولم يكن في البلاد السورية كلها زاوية خارجة عن رقابتها حتى قال أحد الظرفاء لو تشعبت في البلاد السورية طرق الحديد واخترقت سهولها وجبالها اختراق جند الخفية. لكانت بلا ريب أغنى دول الأرض "على حد قول شمس الدين الرفاعي".
يتبع