شذرات من حياة الباحث والناقد الموسيقي ناظم انطكلي

شذرات من حياة الباحث والناقد الموسيقي ناظم انطكلي

ثقافة

الاثنين، ١٧ نوفمبر ٢٠١٤

نبوغ أسعد
ولد الباحث الموسيقي ناظم ابن شبلي انطكلي في مدينة حماة عام 1931 في منطقة المدينة جانب القلعة التي يجاورها نهر العاصي.. حيث ترعرع على ضفافه فظلت جمالية النهر والطبيعة راسخة في ذاكرته وصوت الناعورة بما تنشده من أنغام وموسيقا عذبة تركت ميولاً في عواطفه إلى الموسيقا منذ نعومة أظفاره.. اكتسب كثيراً من أخيه الذي كان مرتلاً في كنيسة حماة برتبة شماس والذي كان يتقن الألحان البيزنطية وثقافتها.. إلا أنه صب اهتمامه على الموسيقا العربية.
وفترة خدمته بالجيش أوفد إلى مصر في عام1956لفترة ثلاثة أعوام وظل فيها حتى وقع الانفصال.. في تلك الفترة اكتسب كثيراً من العلوم الموسيقية واهتم بحفلات كوكب الشرق أم كلثوم فاقتنى كل أغانيها واستمع إليها وقرأها بشكل دقيق.. وكان كل ما يقبضه من راتب يشتري به الإكوانات "الديسكات" التي تحتوي على أغانيها وحفلاتها النادرة وعند عودته إلى سورية حوّل هذه الديسكات إلى أشرطة "بَكَر" ثم إلى أشرطة كاسيت.
تعمد العمل في محل بيع أشرطة كاسيت في باب توما وهي من أشهر محلات الكاسيتات في دمشق.. يدعى /صوت دمشق/ ليكون منغمساً في كافة الألوان الطربية.. وكان من أصدقائه في مكان بيع الأشرطة فاروق أوضه باشي وأيمن مارديني وكانا مثله شديدي الاهتمام بالموسيقا العربية فأسسوا معاً بيت الفن الموسيقي ليصبح منتدى لاجتماعاتهم مع الموسيقا.
لم يقتصر اهتمام انطكلي على أم كلثوم فقط بل اقتنى أشرطة لأهم الموسيقيين العرب مثل محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وصباح وفيروز ووديع الصافي هذه الأشرطة كان يعمل على اقتنائها على نسختين الأولى مسموعة والثانية مطبوعة في كتب أو في خط اليد ثم حفظ معظمها وراح يبحث في كيفية تلاؤم الكلمات مع النوتة الموسيقية وأنغامها حتى أصبح لديه مكتبة موسيقا مرقمة تتضمن كل ما غناه الفنانون العرب الكبار وفيها أسرار فنية لا يعرفها إلا القليل وحفلات نادرة مثل سيد مكاوي وصفوان بهلوان ووديع الصافي وجورج وسوف التي حضر معظمها وسمع ما فيها من إبداع عفوي.. كما أنّه كان خارج نطاق الترتيب والتنظيم الإداري الذي يراه أو يسمعه المستمعون يتداخل في نقاشات مع بعض الفنانين ويثني على تحولاتهم الموسيقية الايجابية، وكثيراً ما توافق مع سيد مكاوي وصفوان بهلوان وهذا كله مدوّن بأشرطة في مكتبته وقد أثنى أيضاً صفوان بهلوان على الرؤيا الموسيقية عنده وعلى نقده وتذوقه.
معظم الفنانين الذين تركوا له أثاراً مكتوبة بخط اليد أمثال الشاعر عمر حمدي الذي كتب لأم كلثوم والفنانة السورية ميادة الحناوي مطربة الجيل الجديد وظل الناقد الباحث الموسيقي ناظم انطكلي متابعاً للحركة الموسيقية وما يدور على الساحة الفنية في كافة أنحاء الوطن العربي.
بيد أنّ الحركة الموسيقية توقفت عنده أمام هؤلاء المطربين الكبار وظل يعتبرهم النجوم المتلألئة في سماء الفن حتى أواخر حياته..
أثناء مرضه كان يلجأ أصحابه وأصدقاؤه وولده المقرب إليه شبلي إلى أغاني أم كلثوم حتى يسمعها فيفتح عينيه برغم أن المرض قد سلبه كل شيء إلا بصيرته التي حافظت على ذائقته الموسيقية وقدرته على الانتقاء وحفاظه على الانتماء كما تضمنت مكتبته مخطوطات تتضمن بدايات الموسيقا وتكوينها عند العرب منذ نشأتها الأولى واكتشافات وأسرار الموسيقيين والجوانب الغامضة والمظلمة في حياتهم والتطور الفني بمختلف مراحله ومن هذه المخطوطات جوانب من أسرار محمد عبد الوهاب وزكريا أحمد وسيد مكاوي وأم كلثوم وسيد درويش والقصبجي والمئات من الموسيقيين والملحنين واعتبر الفن برفقته منفصلاً عن تردي الحالات الاجتماعية.. وهو قيمة سامية لأن الروح لا يمكن أن تحلق إلا إذا اكتسبت ونمت الموسيقا ولاسيما موسيقانا العربية التي رآها الباحث ناظم انطكلي أنّها تفوق الغرب وموسيقاهم بالجمال والشفافية، فهي تلامس القلب قبل أن تطرب الأذن...
قبل وفاته بأيام قال لولده شبلي عليك يا ولدي أن تجعل من هذه المكتبة منهلاً ثقافياً في الموسيقا لكل من يرغب بذلك وإياك أن تفرط بها مهما كانت الظروف.. اتركها قيمة ثقافية في مكتبة العروبة الذاخرة وقيمة وطنية تساهم في الحفاظ على كرامة الفن العربي، وإرثنا الغنائي الأصيل الذي بات مهدداً من الغرب. لذلك اصطحبنا ولده شبلي انطكلي إلى مكامن هذه الثروة الفنية وفتح لنا ملفاتها لنساهم معه في تخليد تلك المكتبة عربون وفاء للوطن وتقديراً يخلد ذكرى رجل رباه على الأصالة والوفاء.