مأساة حي وتاريخ منزل.. إيكوشار وصاروجا ومنزل رئيس الجمهورية.. منزل الرئيس "القصر الجمهوري"- الحلقة الثالثة

مأساة حي وتاريخ منزل.. إيكوشار وصاروجا ومنزل رئيس الجمهورية.. منزل الرئيس "القصر الجمهوري"- الحلقة الثالثة

ثقافة

السبت، ٢٧ سبتمبر ٢٠١٤

شمس الدين العجلاني
هناك العديد من الأوابد الأثرية والأبنية العريقة العتيقة لم تزل قائمة حتى الآن في سوق ساروجا ولكنها بحاجة دائمة ليد ترعاها وتحافظ على ألقها، فمنها ما هو بحالة يرثى لها أو شبه مهدّم، ومن أشهر الأبنية الأثرية الموجودة حتى الآن في ساروجا، المدرسة الشامية البرانية، جامع الورد، حمام الورد، حمام الجوزة، حمام القرماني، بيت العابد أو القصر الجمهوري، بيت العظم، بيت اليوسف، بيت الإيبش....
تعرض سوق ساروجا على مر الأيام والسنيين لكوارث عديدة منها بفعل الإنسان ومنها من غضب الطبيعة، فقد تعرض للتخريب في الزمن المملوكي نتيجة صراعات الأمراء على السلطة، وخاصة في عهد المماليك البرجية، ما أدى إلى دمار بعض من أوابده التاريخية، وازداد حال حي ساروجا سوءاً بعد أن احتل المغولي تيمورلنك دمشق عام (803 هـ / 1400 م)، فجعل ساروجا مكاناً عسكرياً لضرب دمشق والجامع الأموي بالمنجنيق، كما عمل على إحراق دمشق بما فيها حي ساروجا قبل أن ينسحب منها. علماً بأنّ تيمورلنك سكن في الحي بحارة القوتلي في سكن أحد القادة العسكريين المماليك ويدعى الأمير بتخاص السودوني وهذا السكن هو الآن مسجد بلبان.

ذكر " موقع أساسنز كريد " أنّ سوق صاروجا كان أكبر سوق في الأرض المقدسة وهو حي الأغنياء، ويذكر المؤرخون أنّ صاروجا في العصر الأيوبي كان أكبر سوق في دمشق حيث يوجد في شمال شرق حي الأغنياء، بجانب الجامع الأموي. حمل سمعة أنّه أكبر سوق في الأرض المقدسة، وانقسم إلى مبنيين؛ أحدهما من الغرب إلى الشرق، والآخر من الشمال إلى الجنوب.
في حي ساروجا وفي حارة قولي يقع قصر من أهم قصور دمشق عراقةً وتاريخاً إنّه قصر أول رئيس للجمهورية السورية في العصر الحديث (1932-1936) ويؤرخ تاريخ حقبة هامة من تاريخ بلادنا، ولكن مع الأسف هذا المنزل مهمل وآيل للسقوط منذ عشرات السنين وإنّه أحد مآسي سوق ساروجا.؟

رئيس سورية:
هو محمد علي بن أحمد عزت بن محيي الدين أبو الهول ابن عمر بن عبد القادر العابد، الذي انتخب رئيساً لسورية عام 1932م، ولد العابد في دمشق عام 1867 م. وتلقى تعليمة الابتدائي بدمشق ثم انتقل إلى المدرسة الإعدادية في بيروت، وبعد أن نال شهادتها انتقل إلى الآستانة لاحقاً بأسرته، فدخل مدرسة " غلطة سراي "، ثم أُرسل إلى باريس فدخل كلية الحقوق ونال شهادتها. عاد إلى الآستانة فعُين في قلم المستشار القضائي لوزارة الخارجية. ثم درس أصول الفقه الإسلامي بعدما درس الفقه الروماني والتشريع الأوروبي، وظل يتدرج في مناصب وزارة الخارجية حتى عُين سنة 1908م وزيراً مفوضاً للدولة العثمانية في واشنطن، فقصدها مع زوجته وأولاده. أجاد العابد اللغتين التركية والفرنسية إجادة تامة، واللغتان الانكليزية والفارسية كان يستطيع التفاهم بهما.
عُين العابد في البدء مفتشاً للعدلية في سورية واعتبر من أشهر السياسيين آنذاك، في عام 1922 م زمن الاحتلال الفرنسي عين وزيراً للمالية. وانتخب يوم 30 نيسان عام 1932 م نائباً عن دمشق في المجلس النيابي، وفي يوم 11 حزيران من السنة نفسها انتخب توافقياً رئيساً للجمهورية السورية، وبقي على سدة الحكم حتى عام 1936 م، وغادر سورية بعدها إلى باريس، وتوفي في عام 1939 فنقل جثمانه إلى دمشق ودفن فيها. وكانت فترة حكمه رئيساً للجمهورية أربع سنوات وستة أشهر وعشرة أيام.

القصر الجمهوري:
حين انتخب محمد علي العابد رئيساً لسورية لم يكن هناك قصر جاهز للرئاسة فجعل منزل والده في حي ساروجا قصراً جمهورياً. وكان هولو باشا العابد جد محمد علي قد بنى هذا القصر في القرن الثامن عشر.
حجز الرئيس العابد قسماً من هذا القصر وجعله مقراً للرئاسة، واستمر هذا الحال لمدة ستة أشهر انتقل بعدها للقصر الجمهوري في حي المهاجرين وظل القصر سكناً للرئيس العابد حتى عام 1942 م.
كان منزل العابد منزلاً كبيراً وفخماً ويعد من أهم البيوت الدمشقية في حي ساروجا يقع في منتصف حارة قولي، وتبلغ مساحته 1580 متراً مربعاً ومساحته الطابقية 2645 متراً مربعاً، يتألف من ثلاث كتل: الحرملك، والسلملك، والخدملك، وله ثلاث فسحات سماوية، إضافة إلى إسطبلات للخيول وثلاث باحات. ويطل على حارتي «قولي»، و«المفتي»، وتتوزّع غرفه الـ 65 على طبقات، أسقفها من القرميد وجدرانها الداخلية كانت مكسوّة بالخشب المحفور...
لا يزال منزل محمد علي العابد إلى يومنا هذا في حي ساروجا ضمن دمشق القديمة.
بعد وفاة الرئيس محمد علي العابد، تم تأجير القصر من ورثته وأصبح «المدرسة الأميركية»، وبعد إغلاق هذه المدرسة استأجر سليم يازجي القصر وجعله «الثانوية الأهلية» وسميت السيدة أسما زوجة الزعيم الوطني فارس الخوري رئيسة فخرية للمدرسة، واستمرت هذه المدرسة تشغله حتى عام 1970.
وكان سليم اليازجي قد اشترى القصر من ورثة محمد علي العابد على عدة مراحل، وجعل الطابق العلوي سكناً له ولعائلته، إضافة للمدرسة.
حين تم تأميم المدارس الخاصة في سورية، اعتبر القصر ملكاً لوزارة التربية وأصبح مقراً لمديرية تربية محافظة القنيطرة، واستثمرته المديرية كمدرسة للنازحين السوريين اسمها "ثانوية نجم الدين عزت" لمدة سبع سنوات، وفي عام 1995 م أعيد القصر لمالكيه من ورثة سليم اليازجي بعد عدة دعاوى قضائية.
أهمل القصر على مر الأيام وأتلفت الكثير من محتوياته وسرق بعضها الآخر لاسيما الأبواب الخشبية والأسقف العجمية، وتعرض القصر لحريق هائل عام 2006م طال أجزاء كثيرة منه وقضى على أحد طوابقه سببه ماس كهربائي، كما تعرض لحريق آخر عام 1993م امتد إلى الطابق الثاني من المبنى (السلملك).
نتيجة ظروف متعددة وقرارات مختلفة منها لمحافظة دمشق حين وضعت عام 1978 م منطقة ساروجا قيد التنظيم المعماري استناداً لمخطط المهندس الفرنسي ميشيل إيكوشار الذي صنف كافة الأحياء الدمشقية الواقعة خارج السور كمحاضر تنظيمية والحكم على بيوتها وقصورها الدمشقية العريقة بالهدم بهدف إنشاء أبنية جديدة مكانها. أبنية لا هوية لها تجدها في أي مدينة في العالم.
حين أعلنت محافظة دمشق عام 1978 م منطقة ساروجا قيد التنظيم المعماري فهذا يعني عدم السماح بالترميم أو البيع والشراء، لأنّ المنطقة برمتها مرشحة للهدم لإنشاء أبنية جديدة مكانها.. !؟ فلم تطل يد المساعدة لقصر الرئيس العابد، إلى أن صدر قرار مجلس الوزراء عام 2003 القاضي بإنهاء عملية التنظيم في المنطقة وجعلها مكاناً تراثياً وسياحياً...
تعرض القصر خلال تاريخه إلى الإهمال بشكل كبير كما تعرض للسرقة والتخريب ووضعه الحالي في غاية السوء، والزائر إلى القصر يشاهد بأم عينيه التخريب والخراب الذي يعاني منه القصر، ويشاهد أيضاً أنّ قسماً منه تحول إلى ورش أحذية!!!
مأساة منزل الرئيس محمد علي العابد هي مأساة للتراث الدمشقي الذي انهار أو ينهار