د.نبيل طعمة رؤية في تشخيص أمراض الخطاب العربي بأطيافه..هل استطاع الخطاب النخبوي العربي حلّ مشكلة واحدة؟

د.نبيل طعمة رؤية في تشخيص أمراض الخطاب العربي بأطيافه..هل استطاع الخطاب النخبوي العربي حلّ مشكلة واحدة؟

ثقافة

الأربعاء، ١٠ سبتمبر ٢٠١٤

«ما زالت أمتنا تهاب كلمة أبنائها، وتحسب لها ألف حساب، بدلاً من أن تهاب أعداءها، وتستعد لهم من باب أنهم مستعدون دائماً للانقضاض عليها وعلى أبنائها مجتمعين أو متفرقين، تطاردهم لحظة أن يشي أحد ما بهم دون فهم في كثير من الأحيان لغاية الطرح».
 
أولى عبارات وجمل كتاب الدكتور نبيل طعمة «رؤى في الخطاب العربي» وحسناً فعل أن أفرده بعنوان، ومن ثم سلكه مفرداً في سلسلته فلسفة التكوين الفكري، وهذه البداية تشي بأزمة التكوين الفكري عند الأمة، ومن ثم تسمح بمحاولات من الأبناء لفلسفة هذا التكوين، ومحاولة إصلاح ما يمكن إصلاحه.
 
منهجية الخطاب
لم يلجأ الدكتور طعمة إلى التقديم والتأخير، ولم يجمّل القبيح، ولم يحوج القارئ إلى محاولة، استنباط رسالة ما يريد أن يقولها، وكان في هذا علمياً، فصبّ المشكلة التي تعاني منها الأمة في سطر واحد هو أول سطر من الكتاب، فالأمة نسب وجامع، والأم مشترك في اللفظ والمعنى، واختار كلمة الأم لما فيها من رابطة بين الابن وأمه عن سابق قصد، لذا اختار لفظ البنوة بانياً ذلك على مفارقة مؤلمة، ففي الوقت الذي يكون الابن أكثر حرصاً على أمه، وتكون الأم أكثر حباً لبنيها، وجدنا الأمة (الأم هنا) تخاف من أبنائها، لا بل من كلمة من كلماتهم، ولا تكتفي بالخوف والهيبة، بل تضع حسابات لكلمة الأبناء، ذلك في الوقت الذي لا تتهيب هذه الأمة أعداءها، ومن الأصح لا تهاب ولا تحسب حساباً، ولا تعد لهم العدة، هؤلاء الأعداء الذين يترصدون بالأمة جمعاء أو بالأمة متفرقة الأبناء.
وينتقد النهج السلطوي للأمة في مصادرة الرأي، الذي من المفترض ألا تهابه وألا تخافه مهما كان صريحاً وقاسياً، فهي أي الأمة ممثلة بالسلطة والقرار لا تسمح لأبنائها أن يدلو بكلمة، وإن فعل أحدهم كان محل اتهام ومطاردة دون أن يسأل! وتكتمل المفارقة أنه تتم مطاردته دون أن تفهم الغاية من طرحه الذي طرحه والكلمة التي قالها فكانت بسببها لعنة المطاردة والاتهام!
بدأ من الأمة بجمعها، وهي التي تشكل مجموعة الأفراد المطارِدين والمطارَدين لينتقل إلى الخطاب، هذا الخطاب الذي يحمل لغة الأبناء الأفراد، وبذلك سينتقل مرة أخرى صعوداً ليحدد هذا الخطاب بمختلف مسمياته الذي صنعه فرد الأمة، فهل الأمة هي المسؤولة أم الفرد؟
 
مشكلات الفرد العربي
يطرح د. طعمة سؤالاً موارباً، الإجابة عنه محفوفة بالمخاطر: هل وصل الإنسان العربي إلى مرحلة يستحق أن ينادي بالديمقراطية؟ هذا السؤال يروق للمنادين بها لوضع الأدلة، ويروق لأعدائها الذين يرون أن الإنسان العربي لم يدخل مرحلة يقدر فيها أن يكون ديمقراطياً أو مستحقاً للديمقراطية! ولكن طعمة وفق منهجيته خرج من إهاب الجمع «الأمة» ليدخل في تفاصيل الفرد، ومن ثم ليسقط الفردي على الأفراد الذين يشكلون الأمة، فما من أحد لا يستحق الديمقراطية، وما من مجتمع لا يملك الحق في المناداة بالديمقراطية، ولكنه يحلل بوعي يسقطه على الأمة المذنبة التي أورثت أبناءها ما يمنع من الديمقراطية، ويلوم الفرد أنه لم يتحرر مما وضعه فيه السباق التاريخي.
«الإنسان العربي فردي في طبعه، ديكتاتوري في أسرته، تسلطي في مجتمعه إن استلم سلطة صغيرة فكيف به في أكثر من ذلك؟! سريع الفساد بسبب فلسفة جشعه القادمة من عدم ثقته بالأدنى قبل الأعلى، لم ينتم لوطن بل إلى مذهبه وطائفته وأيديولوجيته، أزماته مسكونة فيه قبل أن تسكن مجتمعة، لذلك نجده منخرطاً في تعزيز الأزمات والولوج فيها، لا يسعى إلى حلها بالحوار، كونه لم يمتلك أو يعتنق مفاهيمه وأسسه، فكيف ينادي بالحرية والديمقراطية وفي داخله صراع بين التخلف والتقدم، لم يعمل على إنهائه من داخله؟!».
وفردي هنا تعني حرصه على أناه، ولا تعني حسب مفهوم علم الاجتماع المجتمع الفردي، فالمجتمعات الغربية فردية لكن بصورة إيجابية، ومجتمعاتنا جمعية اتكالية قبلية، وما نجت المجتمعات الغربية إلا بالإبداع الفردي، وبالابتعاد عن الثقافة الجمعية وثقافة القطيع، وأزعم أن المؤلف يقصد تمجيد الفرد عند العربي أكثر من العمل المبدع الفردي الذي جعله «غيرث هوفستيد» علامة تقدم المجتمع، وخلاص الطاقات من أعباء الكسل الجماعي.. والمؤلف هنا يضع يده بمهارة على جهل الإنسان بنفسه ومذهبه وطائفته وأيديولوجيته، وحقاً لو سألت من ينادي بفكر ما، أي فكر عن أي تفصيل فيما ينادي به لأدهشك جهله، فما بالك بجهله بالآخر...؟!
وإشارات المؤلف واضحة إلى رغبة الإنسان العربي في الانخراط بالأزمات والانغماس فيها بدلاً من حلها، لأمر واحد هو افتقاده الحوار، ولمؤثر خارجي عن الأزمات ينبع من داخله هو عدم الثقة، وفي إشارته إلى الأدنى والأعلى يقصد المؤلف من هم أدنى من الإنسان، ومن هم في مستواه، الذين يمثلون الامتداد الأفقي الإنساني، ويذهب أبعد من ذلك، فالإنسان لجهله وعدم محاكمته لا يمتلك ثقة بالأعلى أي بما يعتد به من بعد إيماني.
والسؤال الموارب الذي بدأ به يجيب عنه بلا مواربة في نهاية طرحه «الحرية والديمقراطية لغة لها مدلولاتها وخصوصيتها في عالم الشمال، لتوافقها مع المنبع الروحي الذي تتمتع به، مما يدعونا للتفكر أيضاً بأن أي حرية وديمقراطية عربية ينبغي أن تدرس خصوصية تعلقها بديانتها وكتابها وتفاسيرها والقائمين على إدارة أمورها، ولو أردنا تحقيق المعادلة فمن الواجب علينا فهم تلك الصورة، ومن خلالها تهيئة البرامج التي تنجز التعادل وترسم الأهداف الحاضرة والمستقبلية.... التي تأخذ بنا من الهاوية التي ننزلق إليها، أو على الأقل توقف انحدارنا» والكلام يأخذ بعضه برقاب بعض، وينتقل المؤلف ليظهر الأسباب التي تدعو إلى إعادة النظر في الديمقراطية ضمن مجتمعاتنا، فنحن لا ننظر إلى المستقبل، وإنما ننظر إلى الماضي فأصبحنا ماضويين نعيش الماضي بدل قراءته «لم يستثمر الحاضر وحاجاته كي يكون المستقبل أمامه، إنما استند دائماً إلى عملية استنطاق الماضي، معتبراً إياه جزءاً مهماً من رهانه على الحاضر» فإذا ما ربطنا تعلق العربي بالماضي على حساب الحاضر مع ما أشار إليه من جهله بنفسه وطائفته ومذهبه، وهما محور الماضي رأينا الطامة الكبرى في خسارة الحاضر والمستقبل، وتحوّل الماضي من المجد إلى موقف لعجلة أي تقدم.
 
الخطاب خطابات
يسترعي الانتباه هذا التفصيل الموفق في أنواع الخطاب، وإذا ما تحدث أحدهم في الخطاب تناول كل ما يدور جملة، ولكن طعمة بدأ بالخطاب وتناقضاته وقيامه على الماضي، وإخفاقه في الوصول إلى الشرائح المستهدفة، ويختم الخطاب بعبارة تشي باستحالة الوصول، وإن غلفها بسؤال يأمل الكثير: «فهل يصل الخطاب العربي إلى جمهوره وشعوبه، ويردم الهوة بين طبقاته؟! أعتقد أن جميع الإنسان العربي يحلم بذلك» ويبقى الحلم مجرد حلم، وخاصة إذا رأينا تفصيله في المراحل التي قطعها الخطاب العربي دينياً وقومياً وعلمانياً..
واحد وعشرون خطاباً فصّل فيها القول، وتستحق منا أن نذكرها، وإن لم نقف عندها بالتفصيل، فالعرض مركز وموجز ويثق بقدرة القارئ لذلك من العسير اجتزاؤه واختصاره:
«الخطاب الإلهي- الخطاب الديني- الخطاب الإسلامي- الخطاب الإنساني- الخطاب الجنسي- الخطاب العاطفي- الخطاب الثقافي- الخطاب الاجتماعي- الخطاب التربوي- الخطاب الاقتصادي- الخطاب السياسي- الخطاب الشعبي- الخطاب الشعبوي- الخطاب الجماهيري- الخطاب النخبوي- الخطاب الفلسفي- الخطاب العلمي- الخطاب الطائفي- الخطاب الجمالي).
أزعم أن الأزمة التي تمر بها سورية اليوم، والمجتمع العربي عموماً كان وراء استخلاص هذه الخطابات، ووراء الغوص في عمق هذه الخطابات، وقد صدرت منجمة على أعداد الأزمنة، وهذا ما يشكر لها، لأنها وصلت إلى أكبر شريحة ممكنة عبر المجلة وموقعها، وربما هذا يعطيها تأثيراً أعمق قبل أن تجمع في كتاب، وإشارتي هذه لأبرز دور المثقف الذي يقرأ ما يدور حوله، ومن ثم يحاول بما أوتي أن يقدم رؤيته، وإن لم يكن صاحب قرار أو موقع، وهذا يبرز في التمييز بين الخطابين الديني والإسلامي. والخطابين الشعبي والشعبوي، وإفراد الطائفي بخطاب، إذ ليس من الخطاب الديني أو الإسلامي ذلك الخطاب الطائفي، وفي كل خطاب من هذه الخطابات يقوم المؤلف باستعراض المفهوم والواقع والمآل.
ففي الخطاب الإلهي يقرر المؤلف المفهوم ويقر به «ينبع من جوهري، أعلم ما لا تعلمون، حيث أسس على ضرورة الحسم، وأنه لا بد من وجود لغة قاطعة، تمنع الإخلال بالمراد لمن يريد..» ويختم هذا الخطاب «لا أحد يختلف مع هذا الخطاب، إنما نختلف من خطاباتنا، ونعترض عليه، أعني على بعضنا، التي نحاول بها تقليده، لكن ألم نعلم أن ليس كمثله شيء» ألا نجد بيننا من يأخذ دور الخطاب الإلهي، يقرر ما يريد وبلغة الحسم القاطعة التي هي من خصوصية الخطاب الإلهي؟!
ويقف بقسوة عند الخطاب النخبوي، قسوة مسوّغة، قسوة مصحوبة بالأدلة ليطرح سؤالاً مؤلماً ينفي أي دور إيجابي للنخبة إن لم ينف وجود هذه الفئة المدعاة! «أي خطاب نخبوي عربي استطاع تقديم حلول ناجعة لأزمات متراكمة؟ هل قدر على حل مشكلة واحدة؟ وهل استطاع أن يقدم إبداعاً فكرياً يتجه إليه الكل؟ ولماذا هذا الانفصال؟ ولماذا بقي على تضاد مع الخطاب الجماهري والشعبوي؟».
 
خطاب وفكر وأزمات
كما بدأ من مقدمات الأمة والفرد يختم طعمة كتابه «رؤى» بأحاديث عن النظام العربي المتشكل من هذه الخطابات، وشرّح في الفكر الذي كان نتيجة- إن وجد- لهذه الخطابات، ويعرض أزمات الخطاب، ويتحدث في العلمانية والوطنية، الصهيونية وإسرائيل والوهابية والإخوان بما لا يخفى أن هذه الموضوعات كانت نتائج للخطاب العربي بتعدد أطيافه، ومع أن الدكتور طعمة يختم بشيء من التفاؤل، إلا أنه التفاؤل المشوب بالحذر والقدرة على الفعل فهل نفعل؟