فورد أبو دعسة !؟ في بلاد الشام.. بقلم: شمس الدين العجلاني

فورد أبو دعسة !؟ في بلاد الشام.. بقلم: شمس الدين العجلاني

ثقافة

السبت، ٦ سبتمبر ٢٠١٤

السيارة الآن في متناول يد الجميع رجالاً ونساءً، شباباً وشيباً، ميسورين ومتوسطي الحال وفقراء أحياناً. السيارة ركبها في السابق الأغنياء وأبناء الطبقة البورجوازية، واليوم وقد غدت في متناول يد الجميع هل خطر في بالنا أن نتوقف ذات يوم أمام سؤال يطرح نفسه بشكل أو بآخر: كيف بدأت حكايتها في الغرب وكيف وصلت إلى بلادنا, وما أول سيارة درجت على طرقاتنا؟ وهل استقبلها الناس بالترحاب أو بالرهبة كعادتنا أمام كل جديد؟!.
حين بدأت السيارات تصل إلى البلاد العربية أطلق عليها اسم (الأتومبيلات) ومفردها (أتومبيل)، ويقولون إنّ أول أتومبيل (سيارة) صنع في عام 1769م بمحرك بخاري وثلاث عجلات، وسير بها في شوارع باريس, وفي أميركا ظهرت محركات الاحتراق بواسطة فورد وأولدز.‏
في عام 1903م أصبحت مدينة ديترويت الأميركية المركز الرئيسي لصناعة الأتومبيلات (السيارات) في الولايات المتحدة.‏
ومن خوف البريطانيين من الأتومبيل (السيارة) كانوا يحاولون منعه من السير على الطرقات، وسعوا إلى مقاطعة السيارات! لكنهم وصلوا إلى حل يقضي بأن يصدر قانون يفرض وجود شخص يحمل علماً أحمر يسير أمام كل سيارة لتحذير المارة منها!!
البداية:
أطلق آباؤنا وأجدادنا على أول سيارة دخلت إلى بلاد الشام اسم " فورد أبو دعسة " وقيل إنّ سبب هذه التسمية يعود إلى وجود درجة قرب الرفراف يدعس عليها للصعود أو النزول، أو سميت بـ«أبو دعسة» لأنّها مجهزة بدعسة إضافية قرب المقود، يمكن في حال استخدامها، أن تسير من دون استخدام دواسة البنزين.
وتشير المعلومات إلى تواريخ مختلفة لدخول أول سيارة لبلاد الشام، ولكن على أغلب الظن أنّ أول سيارة دخلت بلاد الشام حوالي عام 1900م عن طريق ثرٍ دمشقي اسمه فيليب سكاف وكانت من ماركة فورد ولقبت بـ« فورد أبو دعسة». تواجدت هذه السيارة بدمشق بأعداد قليلة، وتشير الدراسات إلى أنّ عدد السيارات حتى نهاية الحرب العالمية لم يكن يصل إلى مئة سيارة وكانت معظمها من ماركة فورد المسماة (أبو دعسة)..
أول سيارة بدمشق:
أول سيارة دخلت دمشق كانت للثري الدمشقي فيليب سكاف؛ أحضرها بالباخرة من الإسكندرية إلى بيروت سنة 1903م وجربها على طريق صيدا- بيروت، وقد قطع المسافة بينهما - وهي 45 كم- في مدة ساعتين وثلث أي بمعدل 20 كم بالساعة.‏ لكنه في طريق العودة اختصر المسافة لأنّه عرف معالم الطريق.
وحين مرور سيارة فليب سكاف في شوارع بيروت اجتمعت جماهير غفيرة صغار وكبار لترى هذه الآلة العجيبة، التي جاء بها الدمشقي إلى بيروت.
لقد شهدت شوارع بيروت بهذه السيارة حادثة طريفة حيث دب الرعب في قلوب السكان، حين ظهرت دابة كبيرة غريبة مصنوعة من الحديد لا جلد لها، ذات عينين كبيرتين بلا جفون، يمتطيها رجل ويسير بها سريعاً في كل الاتجاهات.؟ دب الخوف والرعب في الشوارع والأزقة.؟ وهرعت الناس إلى شرفات البيوت هرباً منها ولكي يمعنوا النظر إليها من بعيد، لذا تسمّرت أعين هؤلاء وهم يمعنون النظر مشدوهين أمام هذا المخلوق العجيب الذي ظهر فجأة في مدينتهم.؟ ودارت الأحاديث والتكهنات حول هذه الدابة الغريبة ومن أين جاءت.؟ والحديث كان عند العديد من هؤلاء (كما ذكرت مجلة ثمرات الفنون الصادرة في تلك الأيام) أنّها عفريت يحركه عفريت.؟
وصل فيليب سكاف إلى بيروت من الإسكندرية على متن سيارة (أتومبيل) استقلها للتوجه إلى صيدا قبل أن يغيّر وجهته صوب برمانا. وكان في إمكان تلك السيارة أن تقلّ 13 راكباً بحسب ما أفادت به آنذاك مجلة (ثمرات الفنون 1875-1908) لعبد القادر قباني وهي تسجّل تلك الواقعة "التاريخية" للثري الدمشقي سكاف الذي أذهل أهل بيروت بهذا العفريت الذي يركبه..
اللبنانيون الذين تسنّى لهم رؤية أول سيارة تدخل بلادهم عام 1903م ظنوا للوهلة الأولى أنّها دابة غريبة لا جلد لها، بل صفائح معدنية لامعة، ولا أرجل لها بل دواليب مطاطية سوداء، أما عيناها الكبيرتان جدّاً فلا يرف لهما جفن ولا ينامان ليلاً، بل يضيئان إبعاداً للدواب الأخرى وسائر المخلوقات من الطريق. لذا تسمّرت أعين هؤلاء ودارت وهم يمعنون النظر مشدوهين أمام هذا المخلوق العجيب الذي يحرّكه "عفريت" ما في داخله.
كان الناس عند سماعهم هديرها يهربون وهم يصرخون خوفاً من تلك الآلة المسكونة "بعفريت"! وقد وصفت الصحف اللبنانية آنذاك هذه السيارةَ بأنّها النقالة السريعة، وأعلن سكاف أنّه سيعمل على تشغيل سيارته الجديدة بين دمشق وتدمر لاختصار المسافة بينهما إلى ثماني ساعات بدلاً من خمسة أيام.
في عام 1908م كانت بداية تشغيل حقيقي للسيارات بين دمشق وبيروت إذ تقدم (ماريو فريكة) بطلب رخصة من السلطات العثمانية للنقل على الخط المذكور.‏
يقول فاتح المدرس عن ذكرياته عن سيارة (أبو دعسة): (لم أشعر بثقل كارثة الحياة التي كان يعيشها كل من حولي، أخوالي وخالاتي وأمي. تنقلنا الدائم بين حلب والقرية كان على الدواب أو في سيارات فورد أبو دعسة، كما يدعونها، ونبقى ثلاثة أيام على الطريق، وحولنا ثلوج وأمطار، أي كنت أتعذب).
حلب:
شهدت مدينة حلب أول (أتومبيل) سيارة عام 1909 م ركبها المشير زكي باشا الحلبي المرافق الفخري لإمبراطور ألمانيا غليوم الثاني (1888 – 1918) الذي زار حلب في خريف عام 1898م، وركب السيارة أيضاً قادة الجيش العثماني، وبعد انتهاء الحرب ركبها جورج عزيزة وكانت من ماركة دودج، تركها قائد ألماني وكانت تتوقف في كراج عزيزة في حي باب الفرج.
أما أول سيارة اشتراها مواطن حلبي من أوروبا كان أحد التجار الحلبيين المعروفين باسم الخواجة يوسف أندريا ليشغِّلها على طريق حلب- اسكندرونة. وكان الزعيم الوطني إبراهيم هنانو يملك سيارة مكشوفة من نوع (فورد أبو دعسة) ويتنقل فيها بمدينه حلب.
يقول فؤاد هلال في كتابه (حلب القديمة والحديثة دراسات تاريخية وأثرية واجتماعية وثقافية وإدارية عن حلب): (في مطلع القرن العشرين كان لكل وجيه في حلب إسطبل لحماره الأبيض بجانب بيته وكان الأطباء يتنقلون على الحمير إلى عياداتهم وعملت "الحناطير" التي تجرها الدواب في نقل الركاب داخل مدينة حلب منذ مطلع القرن العشرين، وفي عام 1909 م شاهد الحلبيون أول سيارة والتي كان يركبها المشير زكي باشا مرافقاً لغليوم إمبراطور ألمانيا، وبعد الحرب الأولى اقتنى جورج عزيزة صاحب كراج عزيزة في باب الفرج سيارة ماركة دودج واستخدمها لنقل الركاب بين حلب وبغداد وأول سيارة فورد أبو دعسة في حلب استوردها جميل كنه وقد تواجدت التاكسيات "سيارات الأجرة" في حلب إلى جانب الحناطير في مطلع الثلاثينيات من القرن الماضي.)
في عام 1912 دخلت أول سيارة إلى بغداد من حلب، ويقال إنّ الذي أدخلها هو أحد وجهاء بغداد من عائلة "بابان"، وأصبحت هذه السيارة إحدى عجائب تلك الفترة وكان يتجمهر حولها الناس باحثين عن الحصان أو الحمار الذي يحركها ويعتقدون أنّه مخفي في داخلها.
من حلب إلى بغداد:
في مساء يوم الاثنين 23 تشرين الثاني من عام 1908 وصلت بغداد أول سيارة قادمة من مدينة حلب عبر الصحراء الغربية. والذي أحضرها هو حمدي بابان من أغنياء بغداد وهو عضو في المجلس البلدي لمدينة بغداد في العهد العثماني، لم يكن الحدث "دخول السيارة الحلبية إلى بغداد" بالطبع عادياً، فيروى أنّ أهل بغداد خرجوا من منازلهم ومحالهم التجارية للتفرج عليها، وصار بعضهم ينظر تحتها لكي يكتشفوا الحصان الكامن في بطنها على زعمهم، إذ لم يكن من المعقول أن تسير عربة من غير حصان يجرها.
مشتى الحلو:
يروى أنّه كان في مصيف مشتى الحلو (أتومبيل) صغير صاحبه من صافيتا اسمه جميل القطريب يستعمله في نقل المواطنين بين القرى، ثم توقف عن العمل عدة سنوات إلى أن أحضر القطريب في وقت لاحق سيارة جيب " ويللس" يلبي بواسطتها الطلبات الطارئة.. كما كانت تزور منطقة المشتى بشكل موسمي سيارة (فورد أبو دعسة) فوق ظهرها طاحونة برغل، وكانت تقف في الساحة العامة، فيحضر الناس قمحهم المسلوق والمجفف ليطحنوه فيها مقابل كمية معينة من البرغل يتقاضاها صاحب (فور أبو دعسة).
وأخيراً:
يبقى أن نشير إلى أنّ هذه التسمية (أبو دعسة) كانت من اختراع أهل الشام (سورية الطبيعية)، وأنّ أهل حلب من الأرمن الذي يعملون في إصلاح السيارات، عدّلوا وطوّروا هذه السيارة فحوّلوها من نظام العمل على البنزين إلى (مازوت)، واقتلعوا منها الراصورات ووضعوا مكانها مقصات حديدية مزدوجة، وذلك لكي تصبح ملائمة لطرقاتنا الوعرة، وقادرة على حمل المزيد من الركاب والبضائع (البطاطا والباذنجان والبرغل والشعير وصفائح الدبس وزيت الزيتون...) فوق طاقتها..