كان يا ما كان في الصحافة السورية: الصحافة فكر وتوجيه.. وهي الآن صورة وخبر!؟

كان يا ما كان في الصحافة السورية: الصحافة فكر وتوجيه.. وهي الآن صورة وخبر!؟

ثقافة

السبت، ٥ يوليو ٢٠١٤

شمس الدين العجلاني
في يوم ما من ذلك الزمن الماضي كان في مدينة حلب رجل تطال قامته أعالي السماء.. كان مدرسة في الصحافة تتلمذ على يديه خيرة صحفيي سورية ولبنان.. كان أول نقيب للصحافة السورية.. كان قلماً حاداً على الاستعمار والمتعاونين معه، كان قلماً بلسماً على سوريانا، كان اسمه شيخ الصحافة الحلبية، كان هنالك في زمان ما وفي حلب الشهباء رجل اسمه شكري كنيدر، فهل تعرفونه؟؟؟

من هو كنيدر:
 ولد شكري كنيدر في حلب عام 1882، ودرس في مدرسة الآباء الفرنسيسكان بحلب، وفي عام 1908 أصدر جريدة "التقدم" توقفت أثناء الحرب العالمية الأولى فعاد وأصدرها بشكل يومي بعد انتهاء الحرب. وفي عام 1909 أصدر مع أخيه جريدة بعنوان "كنيدر إخوان"، انتخب أول نقيب للصحافة عام 1921م وأعيد انتخابه أربع مرات متتالية نقيباً للصحافة في حلب ونقابة الصحافة الحلبية هي أول نقابة للصحافة في سورية، نال وسام الاستحقاق السوري، تزوج من ماري كورنلي، وتوفي بحلب عام 1964 ولم يترك وريثاً، من مؤلفاته كتاب بعنوان "علم الحياة" يضم عدداً من المقالات والنصائح وحكم وأمثال معرّبة، ترك ثمانية مجلدات تحتوي الافتتاحيات التي كتبها في جريدته "التقدم" تعالج هذه الافتتاحيات مختلف المواضيع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والوطنية، وكان يتمنى أن يساعده الحظ والزمن لطباعة هذه المجلدات، وعن هذه المجلدات لافتتاحياته يقول: "أذكر أني في العهد التركي مثلاً كتبت افتتاحية حول اللغة العربية هاجمت فيها الولاة الأتراك الذين يحاولون تتريك العرب.. وفي العهود الأخرى وقبل مشكلة فلسطين بعشرة أعوام وحوالي عام 1938 م كتبت سلسلة من المقالات عن زيارة قمت بها إلى باريس.. كتبت محذراً من الدعاية الإسرائيلية التي كانت قد بدأت تغزو العالم الغربي، وقلت إنهم يحاولون أن يكونوا في كل مكان ووراء كل صناعة ونحن نكتفي بالاحتجاج.."
شكري كنيدر كان أستاذاً في الصحافة ومدرسة صحفيّة له أسلوب فريد في الكتابة الصحفية يعتمد على أخلاقية المهنة ويبتعد عن التجريح والتشهير وينتقد الحاكم والمسؤول انطلاقاً من وطنيته وعشقه للوطن، استطاع انتقاد الحكام وفي الوقت نفسه حافظ على صداقته معهم.. كان على غير وئام مع عدد من الوطنيين لكنه في الوقت نفسه كان يستقبلهم في مكتبه ويسهر معهم ويفتح صفحات جريدته لهم. اشتهر كنيدر بأنه كان أقرب الناس إلى الزعيم الوطني إبراهيم هنانو، وأن الزعيم الوطني الحلبي سعد الله الجابري كان يتلقّى انتقاداته بصدر رحب، والزعيم الوطني شكري القوّتلي كان يأخذ برأيه.
 ويروي كنيدر قصة حبل المشنقة فيقول: "حدث هذا أثناء الحكم العثماني الأسود، فقد كنت على صلة مع ثورة الشباب العربي، وتنادينا لنحول دون تتريك العناصر العربية وأصبحت جريدة التقدم مسرحاً للمقاومة فكنت أنشر البيانات وأكتب المقالات وأدعو الرأي العام ليقف في وجه هذه المحاولة المجرمة. وقد ساء الحكومة العثمانية هذه اليقظة العربية.. وعندما أُعلنت الحرب وجاء جمال باشا يحكم البلاد أمر بالقبض على الشباب العرب ومحاكمتهم وكان من بينهم الشهداء الزهراوي والعسلي والمحمصاني وحداد، وأمر بالقبض عليّ أيضاً وكان حبل المشنقة ينتظرنا جميعاً وقد استطعت أن أعرف بالخبر قبل وقوعه فهربت من الوجه آنذاك.."
والمرة الثانية التي غادر فيها سورية كانت إلى باريس وكتب من هنالك مجموعة مقالات هامة.
تتلمذ على يدي شكري كنيدر وكتب في جريدته مجموعة كبيرة من صحفيي سورية ولبنان منهم، نجيب ليان ويوسف شلحت وبطرس معوض ونذير فنصه وأميل صعب وباسيل دقاق وسعيد فريحه والياس ربابة وسامي الكيالي والشيخ راغب الطباخ والشيخ كامل الغزي وسامي الدهان وعمر أبو ريشة وجورج شاشاتي وعبد الله يوركي حلاق وفيكتور كالوس وأنطوان حامض وغيرهم.‏
هو واحد من القلائل الذين أعطوا الصحافة فناً جديداً وأسلوباً جديداً، يوم كان كل فن الصحافة المقالة، وكل أسلوبها السجع المقفى.
قال عنه الزعيم إبراهيم هنانو: "إنه خصم عنيد، ولكنه خصم شريف"، وقال عنه الرئيس اللبناني السابق "شارل الحلو" الذي عمل صحفياً في حلب: "شكري كنيدر وجريدته التقدم كانت منارة للعروبة والوطنية ومدرسة تعلم الكثيرون فيها معنى حرية الكلمة وقدسية الحرف وسلاح القلم في تطوير وتحرير المجتمع السوري واللبناني".

جريدة التقدم:
أصدر شكري كنيدر جريدة التقدم يوم 15/10/1908م ناطقة باللغة العربية، ومع دخول قوات الانتداب الفرنسي سورية عام 1920م أضاف شكري كنيدر صفحة باللغة الفرنسية يحررها "نجيب اليان". شاركه في الإصدار أخوه "نجيب" وكانت تصدر مرتين في الأسبوع ثم ثلاث مرات.. توقفت الجريدة عن الصدور خلال الحرب العالمية الأولى بسبب هروب شكري من حبل مشنقة الأتراك بتهمة العمل مع الحركة الوطنية، ثم عادت للإصدار بشكل يومي، وبقي شكري كنيدر رئيس تحريرها حتى عام 1947، كانت جريدة التقدم تُطبع في حلب بمطبعة حيّ الصليبة "ساحة فرحات حالياً"، توقفت "التقدم" عن الصدور زمن قائد أول انقلاب عسكري في سورية حسني الزعيم، وكان الصحفي أنطوان حامض وهو أحد أصدقاء شكري كنيدر ومن كتاب "التقدم" قد اشترى "التقدم" عام 1947م بمبلغ /500/ ليرة ذهبية مع مطبعتها ثم باع مطبعتها لطائفة الروم الكاثوليك بحلب بالمبلغ الذي دفعه ثمناً للمطبعة ورخصة الجريدة.. فأصبحت الجريدة كرخصة وامتياز مجاناً.‏
ومن أطرف ما قيل عن جريدة "التقدم" إنها جريدة عائلية بمعنى كل عمالها في التحرير والطباعة هم من عائلة "كنيدر"، ويذكر صديقه الصحفي فكتور كالوس بدايات إصدار "التقدم" فيقول: "فعزم شكري كنيدر على إصدار جريدته وطبعها في داره ولمّا كان تنضيد الحرف مشقّة وعناء استعان بشقيقاته لتنضيد أحرف الجريدة, وكذلك بأشقائه الثلاثة الشباب للترتيب والطباعة, وكانت الطباعة يدويّة يأتون برجل مفتول الساعدين فيدير الدواليب بزنوده القويّة, ولم يكن ثمّة كمبيوتر يرتّب وينضّد في آن واحد.
وهكذا كانت الجريدة عائليّة: الأخوات ينضّدن والإخوة يرتّبون ويطبعون والأم الحنون تكتب العناوين وتُعدّ الرزم التي تلقى للباعة من كشك البيت في حي الصليبة (ساحة المطران فرحات اليوم). وكان شكري كنيدر وحده ينشئ موادّ الجريدة فيكتب الافتتاحيّة ويترجم من اللغة الفرنسيّة أو الإيطاليّة الأخبار والقصص القصيرة التي كان يعثر عليها ثمّ يذهب إلى سراي الحكومة, السرايا القديمة في محلة وراء القلعة وينقل الوقوعات اليوميّة من دفتر الشرطة ثم يزور سامي أفندي العنتابي، وكان رئيس ديوان الولاية، ليطلعه على نشاط الوالي المحترم ويعود بعد الظهر إلى داره فيعكف على صياغة ما حمله من أخيار وأنباء وبلغة عربيّة سليمة ويدفع به لشقيقاته للتنضيد."

الصحافة فكر وتوجيه.. وهي الآن صورة وخبر:
في عام 1961م أجرت مجلة الجندي العربي لقاء مع شكري كنيدر وسئل عن صحافة أيام زمان وصحافة اليوم فقال: "هل تريد رأيي الصريح.. كانت أرقى من صحافة هذا الزمان لأنها كانت صحافة فكر وتوجيه.." وحين سئل أليست هي كذلك الآن فقال: "بل أصبحت صحافة صورة وخبر...