قل كلمتك.. كلمة عبد الفتاح العوض..رأي لم تستطع رياح الأزمة أن تغيره

قل كلمتك.. كلمة عبد الفتاح العوض..رأي لم تستطع رياح الأزمة أن تغيره

ثقافة

الثلاثاء، ٢٤ يونيو ٢٠١٤

تتنازع المقالة الصحفية نوازع شتى، تبدأ هذه النوازع من كاتبها أولاً، ومن المنبر ثانياً، ومن الظرف المحيط ثالثاً، وأخيراً من المتلقي، لذلك تصنف المقالات تصنيفات عدة، لعل أشملها التصنيف الذي يفرز المقالة الدورية إلى مقالة دورية آنية، وإلى مقالة رؤية لا تنتهي بانتهاء الظرف الذي كتبت فيه، وهنا تبرز براعة الكاتب، كاتب الزاوية، في التحول من الخاص إلى العام ومن الفكرة الآنية، إلى رؤية مرسومة بإتقان لا تنتهي بانتهاء زمانها، ومن هنا بقي سلامة موسى وطه حسين وفؤاد الشايب والعجيلي والعطري، وذهب آخرون..
الجدوى من الجمع
أختلف مع عدد كبير من الأصدقاء حول جدوى جمع المقالات التي يكتبها الكاتب في كتاب، ومن بين من أختلف معهم الصديق عبد الفتاح العوض الذي يسألني بحرصه وتريثه عن الجدوى من هذا الجمع، وكلما تناقشت مع أحدهم يرى أن ما أقوله ليس إلا من قبيل الدفاع عن أنانيتي في جمع ما أكتب، ولكنني أبسط القول في الجدوى:
1- مهما كانت الدورية، ومهما بلغ عدد القراء، فإن المقالة تنتهي مع غروب ذلك اليوم، ومع تراكم الصحف، ومع انتظار الكاتب لزاوية رأي أخرى.
2- أرى أن المقالات هي أكثر صدقية واقتراباً من القارئ والكاتب على السواء، وهي تمثل صورته التي تكون واضحة دون أسئلة.
3- مقالة الرأي يكتبها عادة نوع من الكتاب يملكون تجربة ورؤية، لذلك أهرع إلى قراءة أي كتاب مجموع، وغالبية كتب طه حسين والعقاد ومصطفى صادق الرافعي هي مقالات منشورة في الرسالة والمقطم وغيرهما من الدوريات التي لم تعد موجودة، لكن المقالات محفوظة.
4- المقالات أكثر قرباً وحميمية من الكاتب والقارئ من أي دراسة أكاديمية، وذلك تبعاً للغاية منها، وهي تقديم الرأي للقارئ، والرأي لا يكون للإقناع بقدر ما يكون لتبادل الرأي والأفكار بين الكاتب وأصدقائه وأصحاب القرار والقارئ، وإن صار الكاتب للرأي في مكان وأصحاب القرار في مكان آخر لا يعنيهم كل ما يكتبه الكاتبون!
 
قل كلمتك.. رأي
مما سبق، وأعتذر للإطالة في التمهيد وجدت نفسي مشدوداً إلى كتاب الصديق الأستاذ عبد الفتاح العوض (قل كلمتك) لأسباب عدة أهمها أن العوض مهني إعلامي وأكاديمي، ويحرص كل الحرص على المهنية والمباشرة، يقرأ الرأي الملون بالأدب والرمز ويحبه، لكنه لا يحبذه في الكتابة.. وهو رجل إعلامي أخذ مواقع ومنابر مما أتاح له المزيد من الخبرة والتجربة، والقدرة على الإدلاء بالرأي، مع أنني آخذ عليه حرصه الشديد على عدم الاقتراب من الأوساط التي عمل بها، حرصاً على عدم التأويل والتفسير، ومنها أن هذه المقالات ارتبطت بالأزمة التي تعصف بسورية، وما يعصف يشكل أزمة طويلة ومؤلمة، وما يأخذه أحدنا من دروس سيتجاوز الآنية والمرحلة الحالية من أجل بناء غد، والمقالات بعمومها لا تتسم بالوعظية والتقريع بقدر ما تحمل من رؤى تتناول سبل الخلاص وطرائق الحوار ونوعية التواصل مع الآخر، وأسباب ما وصلنا إليه من ترد يضع يده عليه دون أن يمنع من ذلك مانع كالآسي الذي يشخص العلة، ويريد الانتهاء منها، وما لفتني في هذه المقالات عند نشرها ابتعاد كاتبها عن الأنا، فهو يسخر قراءاته ومعرفته ليضمها في المقالات، وأغلب المقالات تدون مقولات وآراء سابقة ذات تاريخ ومغزى، وهو بذلك يشارك الآخر في مقالته، لكنه يقدم كذلك خلاصات لم نستفد منها ونحن نعرفها عربية وغير عربية.
 
الانسجام غير المرئي
عندما يكتب الكاتب مقالاته منجمة على أسابيع أو أيام، فإنه يطرح أفكاره على قارعة الحرف، وعندما تكون الأزمة طويلة، فإن هذه الأفكار تشكل في النهاية ثوباً كاملاً لا يترك جزءاً من جسد الأزمة إلا ويتناوله، وفي (قل كلمتك) وجدت هذا الانسجام الذي لم يتوقعه كاتبه وقارئه، فأنت أمام أفكار غنية ومكثفة، هذه الأفكار على تنوعها تدور حول محور واحد لتغنيه، وأحياناً تتناول الزاوية الواحدة برؤى متعددة، لتجد خيطاً رفيعاً ومتيناً يربط هذه المقالات ابتداء من العنوان (قل كلمتك) والكاتب، اختار الكلمة ولم يوصفها، لم يختر وامشِ، ولم يختر توقف، فالكلمة رأي يعبر عن صاحبه، لذلك عليه أن يقوله لأنه أمانة، ومع أنه أشار إلى «امشِ» في المقدمة، لكنه اختار التجذر والبقاء، وفي هذا موقف للكاتب والمقالة في الوقت نفسه.
وها هي الأزمة تمتد أكثر من ثلاث سنوات، والرأي الذي بدأ من الزاوية الأولى «سقوط المحرمات» والتي صرّحت بالحظر دون مواربة حين قال العوض «تبدو المحرمات وقد سقطت واحدة تلو أخرى.. كنا نتحدث عن التدخل الخارجي كأحد المحرمات.. وكنا نتحدث عن الطائفية كخط أحمر لا يجوز لأحد أن يرسمه.. النتائج تقول لنا جميعاً إن الأسلوب خطأ... بدلوا الأسلوب لنحصل على نتائج مختلفة، فلا يمكن أن نطبق نفس الطريقة وننتظر نتائج مختلفة!!».
وإلى الزاوية الخاتمة في الكتاب «بكالوريوس حزن» التي شبه فيها دخول سورية في السنة الرابعة من الأزمة بجامعة للأحزان استغرقت ما تستغرقه دراسة الإجازة «البكالوريوس» من زمن حيث يختم زاويته وكتابه «لقد جربنا على مدى ثلاث سنوات كل شيء عدا تجربة خلاصنا، وإن قمنا الآن بتجربة الخلاص فبالتأكيد نكون قد تأخرنا، لكنه أفضل من أن نتأخر أكثر.. وأفضل من ألا نصل أبداً!!».
الرأي ذاته والذي ختم بتعجب الصدمة في أول الأزمة جاء في الزاوية الأخيرة من الكتاب وقد ختم أيضاً بتعجب، والفرق ما بين التعجبين هو أن الأول من هول الصدمة وسقوط المحرمات، والثاني يعبر عن دهشة الاستمرار والتأخر في الوصول إلى السبل الكفيلة بحل الأزمة.
 
الوثيقة والتسجيل
تستمد هذه المقالات أهميتها وقيمتها من أنها تمثل وثيقة تاريخية لمرحلة عصيبة من تاريخ سورية، اعتمدت على التسجيل المراقب، وليس على تسجيل اليوميات، وهذا أعطاها عمقاً وبعداً وتحليلاً أكثر مما تحمله اليوميات التوثيقية، فالكاتب يسجل هواجس مواطن معني، ومراقب متألم يكتوي بما يحدث، ويدون ما يجده وسيلة للعلاج من كونه يعمل في الشأن العام، وقد خبر هذا الشأن بشكل معمق، وبإمكان هذه المقالات أن تنقل صورة عن الأزمة التي عاصرتها إلى الجيل القادم، كما يمكن أن تمثل راسماً ورأياً إن أريد استخلاص السبل من خلال الآراء الهادفة التي لا تعتمد ردود الأفعال التي تتسم بها آراء كثيرة، وثبات الرأي في الخوف على الوطن والإنسان يمكن أن يكون معززاً لأهمية هذا الرأي، ويحسب لهذه المقالات أنها لم تكن وصفية لواقع مؤلم، ولم تعمد إلى روح تأملية تفاؤلية بقدر ما اعتمدت الرؤية التشريحية في المشكلة والإنسان.. صدر الكتاب عن دار الشرق بدمشق للدكتور المهندس نبيل طعمة 5/2014 في مشروع متكامل يبعد عن الوسط الثقافي سمة الصمت والحياد ويعزز دور النخبة المثقفة التي آثرت أن تكتوي بنار الأزمة، وأن تحمل على عاتقها الكثير من الأعباء دون أن تغادر، ولم تعمد هذه النخبة إلى الصمت والحياء إيماناً برسالتها في مقاومة ما يحدث، والإشارة إلى مواطن الخطأ، وإلى أساليب العلاج وطرائق الخروج من أتون أزمة تعصف بسورية وإنسانها.