نساء دمشق مع المالكي.. بقلم: شمس الدين العجلاني

نساء دمشق مع المالكي.. بقلم: شمس الدين العجلاني

ثقافة

السبت، ٧ يونيو ٢٠١٤

بتاريخ 27 شباط عام 1957 م، وفي أثناء وجود الرئيس السوري شكري القوتلي آنذاك بزيارة رسمية للقاهرة، أصدرت المحكمة العرفية بدمشق برئاسة اللواء عفيف البزرة أحكامها بإعدام 18 شخصية سياسية وفكرية من أصل 47 متهماً بالتآمر مع حلف بغداد لإحداث انقلاب عسكري في سورية وأحكاماً أخرى على البقية. ثم استجابت الحكومة السورية للوساطة العربية، فأصدر وزير الدفاع يوم ذاك قراراً باستبدال الأشغال الشاقة المؤبدة بأحكام الإعدام، وكان على رأس هؤلاء المتهمين نائب دمشق في المجلس النيابي الدكتور منير العجلاني الذي صدر الحكم بحقه "عقوبة السجن المؤبدة مع الأشغال الشاقة"، وبصدور الحكم على النائب العجلاني شغر مقعده في المجلس النيابي ما استوجب إجراء انتخابات لملء المقعد الشاغر.
في 17 أيار 1957م، جرت في دمشق انتخاباتٌ تكميليةٌ (شملت الانتخابات كلاً من محافظات دمشق وحمص والسويداء لإشغال المقاعد النيابية الشاغرة للنواب منير العجلاني وعدنان الأتاسي وفضل اللـه جربوع وهايل سرور المُدانين بتهمة الاشتراك في «المؤامرة العراقية») رشح المحامي البعثي رياض المالكي شقيق الشهيد عدنان المالكي نفسه (وكان عمره آنذاك 35 سنة) وبتأييد من التجمع البرلماني لملء المقعد النيابي بدمشق؛ وكان الاعتقاد السائد أن الحملة الانتخابية ستكون سهلة وأن المرشح المالكي سيكون قاب قوسين أو أدنى من المقعد النيابي الشاغر، ولكن المفاجأة كانت عندما وقع اختيار الطرف المعارض لترشيح المالكي، على ترشيح النائب السابق في المجلس النيابي الشيخ والأستاذ الجامعي الدكتور مصطفى السباعي (وكان عمره آنذاك 42 سنة) المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين مقابل المحامي الشاب رياض المالكي. لم تشهد سيرة حياتنا السياسية والبرلمانية انتخابات تاريخية وكارثية، مثل هذه الانتخابات، فقد كانت تاريخية بسبب فوز التجمع القومي في هذه الانتخابات، وتحديداً حزب البعث، بثلاثة مقاعد من أصل أربعة على مستوى سورية، وكان لفوز المحامي الشاب المالكي في هذه الانتخابات الحدث السياسي البرلماني الذي وقع كالصاعقة في الأوساط المتابعة والمعنية بهذه الانتخابات، وكانت كارثية كما وصفها أنصار السباعي لأنها هزمتهم واعتبرت من أكبر الأخطاء التي وقعوا فيها.

المالكي يتحدث:
ولنقرأ ما قاله المالكي عن هذه المعركة الانتخابية في الاحتفال الانتخابي في نادي «الابولون» في حي القصاع في شهر أيار من عام 1957: (أنتم اليوم على أبواب معركة انتخابية تكميلية تدور بين مرشحين اثنين، عليكم اختيار واحد منهما لتمثيلكم تحت قبة البرلمان. فإن أردتم خطيباً مصقعاً ومتكلماً مفوهاً، فعليكم اختيار منافسي الدكتور مصطفى السباعي، لأني لا أستطيع مجاراته في هذا المجال. وإذا أردتم رجلاً واسع الثقافة غزير المعرفة، أخطب وأعلم من الدكتور السباعي ومني، فما عليكم إلا أن تتجهوا إلى السجن لتحطموا بابه بقوة سواعدكم، وتفكوا أسر نزيله الدكتور منير العجلاني، لأنه، بهذا المقياس، أجدر من سواه بالنيابة... أما إذا أردتم إنسانا حراً، ومواطناً صادقاً، يسير معكم في طريق كفاحكم من أجل حرية وطنكم ووحدته وتطوره وتقدمه، فهاأنذا أمامكم، أعاهدكم على أن أتابع معكم السير على هذا الطريق...). استغرقت المعركة الانتخابية شهراً كاملاً، وانقسم الشارع الدمشقي بين مؤيد هذا ومعارض ذاك، وشهد يوم الاقتراع إقبالاً منقطع النظير على ممارسة الانتخابات ومددت فترة الاقتراع يوما آخر.. وبعد فرز الأصوات فاز رياض المالكي بأكثرية أصوات المقترعين.

نساء دمشق مع المالكي
وصفت الصحافة السورية الصادرة آنذاك هذه المعركة الانتخابية التاريخية والكارثية التي جرت بدمشق بأدق التفاصيل وقد أجمعت أن نساء دمشق كنّ مع المحامي الشاب الوسيم (كما وصفته الصحافة) رياض المالكي في معركته الانتخابية وأن أصواتهن رجّحت كفته ودفعت به تحت قبة البرلمان. بدأت الانتخابات يوم السبت ومنذ الساعة السابعة صباحاً أخذت دمشق تزحف إلى صناديق الانتخابات، وخُصص مركز نسائي وحيد للاقتراع في مدرسة التجهيز الذي شهد إقبالاً منقطع النظير فلم يهدأ طوال يومي الانتخابات.
لقد كان المركز النسائي هذا أكثر المراكز الانتخابية، عنفاً وازدحاماً ونشاطاً، واستمر على هذه الحال حتى أغلقت المراكز في اليوم الثاني الساعة الثامنة مساء، وسبب هذا الإقبال والحماسة النسائية هو أن المرأة السورية كانت قد حصلت على حقها بالانتخاب حديثاً. فهذه هي المرة الثانية فقط التي يُسمح فيها للمرأة بالانتخاب. ولذلك شعرت نساء سورية أن من واجبها التمتع بهذا الحق الذي حصلت عليه. وقفت على باب المركز الانتخابي النسائي (مدرسة التجهيز) في ذاك اليوم مجموعات من الفتيات يقدمن الأوراق للناخبات وقد وضعت كل فتاة على صدرها اسم المرشح الذي تدعو لتأييده. وتشير الصحف السورية والعربية التي كانت شاهدة على هذه المعركة الانتخابية، أن رياض المالكي سيطر على المركز النسائي تماماً.. فأكثر الفتيات هناك يدعون له ويهتفن بحياته في ساحة المركز ويصرخن باستمرار طوال النهار: «لا نريد استبدال العجلاني بعجلاني آخر.. بل نريد» عدنان «آخر». وحدث أن قام المرشح المالكي بزيارة مركز الاقتراع النسائي ليتفقّد الصندوق الانتخابي، فقامت تظاهرة نسائية كبيرة تأييداً له وخرجت النساء معه بتظاهرة تهتف باسمه حين غادر المركز، ما أدى إلى تعطيل السير وتدخّلت الشرطة لإخلاء الشارع ومنع الدخول إليه لغير الناخبات..

طرائف وغرائب
ويروي الصحفي سمير صنبر ( وهو من فلسطينيي لبنان وﺍﻟﺬﻱ ﺃﺻﺒﺢ ﻻﺣﻘﺎً أمين عام مساعد في الأمم المتحدة، وكان في الخمسينيات من القرن الماضي يكتب للمجلة المصرية صباح الخير) بعضَ الطرف التي حصلت في المركز الانتخابي النسائي، فيقول: «كان يوجد حول المكان أيضاً مجموعة من الشباب المتسكعين للتفرج على الانتخابات.. والناخبات!.. والطريف أن أحد هؤلاء الشباب كان يتسكّع هناك فوجد فتاة جميلة جداً تضع شعار رياض المالكي وفي مواجهتها فتاة جميلة جداً أيضاً تضع اسم مصطفى السباعي. فما كان منه إلا أن هتف: «يعيش مصطفى المالكي»!! ويتابع الصحفي سمير بالقول: «ورياض المالكي إلى جانب كونه عضواً في حزب البعث العربي الاشتراكي.. شاب وسيم جداً.. وأما فتيات دمشق الناخبات فلا أريد أن أجرح شعور أحد إذا قلت إنهن أجمل فتيات العرب». شارك عدد من مشايخ الأزهر في الحملة الانتخابية للأستاذ السباعي، وأقاموا حفلاً خطابياً انتخابياً في الحديقة العامة أمام ثانوية جودة الهاشمي على شارع بيروت. قيل إن التنافس في المركز الانتخابي النسائي بلغ أشده، ما دعا للتصادم بين المتحمسات لأحد المرشحين، وهذا ما اضطر الشرطة للتدخل بينهن. ويُروى أن اجتماعاً تمهيدياً عُقد في بيت معروف الدواليبي، حول اتخاذ القرار في خوض الانتخابات التكميلية واسم المرشح لها، حضره عدة رؤساء للأحزاب ورجال الأعمال، ولقد أصرّ عصام العطار على رفض دخول الإخوان المسلمين في هذه المواجهة، فصِحّة مصطفى السباعي لا تساعده على هذه المواجهة، ولماذا يدخل الإخوان في مواجهة وهي حرب باسم الإخوان، وسيتخلى عنهم الجميع عند الخسارة. وكان من نتائج خسارة الانتخابات شلل الأستاذ السباعي.