صحافتنا بين الأمس واليوم (3 من 3) المضحك المبكي.. بقلم: شمس الدين العجلاني

صحافتنا بين الأمس واليوم (3 من 3) المضحك المبكي.. بقلم: شمس الدين العجلاني

ثقافة

السبت، ١٧ مايو ٢٠١٤

في عام 1929م أصدر عبقري الصحافة السورية حبيب  كحالة مجلته "المضحك المبكي" وحمل غلاف العدد الأول رسماً كاريكاتورياً لرئيس الجمهورية آنذاك الشيخ تاج الدين الحسني، و«المضحك المبكي» مجلة هزلية انتقادية ذائعة الصيت، حدد صاحبها سياستها بأنها «سياسية، فكاهية، كاريكاتيرية» كانت المجلة حديث الشارع السوري، تتناولها أيدي القراء من حكام وبسطاء، وكان للمرحوم كحالة السبق في ترسيخ فن الكاريكاتير السوري، حين أفرد العديد من صفحات مجلته لهذا الفن، كان الهم الأول له انتقاد سلطات الانتداب الفرنسي والمتعاونين معه بطريقة طريفة لاذعة، واستطاع بذلك تأسيس «إن صحت التسمية» الكوميديا السياسية على الساحة السورية. كانت «المضحك المبكي» تتناول بالسخرية الشخصيات السياسية والأحداث التي تمر بها البلاد، وهذا ما جعلها عرضةً للإغلاق فترات كانت تطول أو تقصر بسبب بعض المقالات التي كان المفوّض السامي أو مندوبه آنذاك يعتبرها مهينة من شأنها أن تؤدي إلى اضطراب الأمن وتهييج الشعب.

الكاريكاتير
وإزاء سياسة هذه المجلة كان من الطبيعي أن يكون هدفها أحد المتعاونين مع سلطات الانتداب حقي بك العظم، (ورد في مذكرات أحمد قدري عام 1956م عن حقي العظم «كان – مع الأسف – يعمل على استقلال سورية ووضعها تحت حماية فرنسا) الذي يقول كحالة إنه من أشد خصومه السياسيين، ومن أكثرهم نقمة على سياسته، بحكم ارتباطه مع «الكتلة الوطنية»، فلا يصدر عدد من «المضحك المبكي» إبان حكم العظم إلا ويحمل غلافه الأول رسماً كاريكاتورياً للعظم على هيئة أحد الحيوانات أو غيره مع تعليق يتضمن نكتة أو نقداً لاذعاً..
لن نبالغ لو قلنا: إن مجلة "المضحك المبكي" الأسبوعية، هي أهم المجلات العربية على الإطلاق، فهي مجلة رائدة وتجربة لم تتكرر حتى الآن على صعيد الصحافة العربية، صدر العدد الأول منها عام 1929م ويحمل غلافها رسماً كاريكاتورياً لرئيس الجمهورية آنذاك الشيخ تاج الدين الحسني، كانت قيمة الاشتراك بـ "المضحك المبكي" في سورية ولبنان 300 غرش سوري، وفلسطين وشرقي الأردن جنيه فلسطيني، والعراق 15 ربّيه".
تميزت "المضحك المبكي" بلهجتها العامية وتعليقاتها السياسية الحادة التي طالت كل ما يراه الشارع السوري أنه إساءة للوطن، واستعملت الكاريكاتير وسيلةً للتعبير الهزلي لما يحدث من سلطات الانتداب والمتعاونين معها من أخطاء وانحرافات.. لذا تعرضت للإغلاق أكثر من مرة من قبل السلطات الفرنسية، أو الوطنية كما تعرض صاحبها للملاحقات القضائية والاعتقال أكثر من مرة أيضاً، وحين كانت السلطات الفرنسية تغلق "المضحك المبكي" كان "كحالة" يصدرها تحت اسم "ماشي الحال"، وصدرت بهذا الاسم لأعداد كثيرة.

كيف صدرت المضحك المبكي:
اشتهر بدمشق في فترة الثلاثينيات من القرن الماضي عباس الروماني كمتعهد توزيع للصحف والمجلات وكان ذائع الصيت بمهارته في هذه المهنة، وكان يعتمد في مهنته هذه على مجموعة من الأولاد يتجولون في شوارع دمشق ليبيعوا تلك المطبوعات، وفي تلك الفترة لمعت في ذهن حبيب كحالة فكرة إصدار مجلة هزلية راقية توزع في البلاد السورية "سورية بحدودها الحالية ولبنان وشرقي الأردن وفلسطين" تحت اسم "المضحك المبكي" وقد رأى من الحكمة أن يأخذ رأي وخبرة عباس الروماني متعهد الصحف بصفته عالماً بأحوال سوق الصحف ودرجة الإقبال عليها فسأله رأيه بإصدار "المضحك المبكي"، ولم يلق اقتراح  كحالة موافقة موزع الصحف ونصحه بالعدول عن ذلك، وقال له: "شو بدك يا أستاذ بهل الشغلة الجرايد ميتة والسوق بارد كل يوم ألعن من يوم، والمرتجع أكثر من المبيع".
لم يثبّط رأي عباس من عزيمة كحالة، وأن البلاد بحاجة إلى مجلة هزلية راقية والقارئ قلما تعجبه الصحف إذا لم يكن فيها نكتة أو رسم، وعلى هذا دفع  كحالة العدد الأول للطباعة، وعندما علم عباس الروماني أن العدد من "المضحك المبكي" دُفع للطباعة، اقترح على كحالة طباعة مئتي نسخة فقط للتجربة، ولكن كحالة طبع خمسمئة وخمسين نسخة من العدد الأول، وأعطى عباس مئتي نسخة وأرسل بضعة مئات إلى مَن يتوسّم فيهم الميل إلى المطالعة من أصدقائه وترك الباقي في الإدارة.. ويروي لنا حبيب كحالة ما حصل مع عباس الروماني بعد استلامه لنسخ "المضحك المبكي" فيقول: "لم يمض على استلام عباس "للمضحك المبكي" نحو عشر دقائق حتى رأينا عباس يهرول نحو الإدارة قائلاً: زايد عندكم كم شي عدد.. وحين قلنا له لا، استشاط غضباً وأخذ يضرب على الطاولة ويقول، ما بيصير بدكم تدبرو لي كم عدد كمان الأولاد واقفة وبدها تتسبب، ثم حانت منه التفاتة إلى أعداد المشتركين فما كان منه إلا أن هجم عليها وتناول قسماً غير قليل منها وأخذها وانصرف.. وبعد بضعة دقائق عاد أيضاً يقنعنا بأن نعطيه أعداد المشتركين طالما لم ترسل إليهم الجريدة بعد".

الآن:
في يومنا هذا تصدر في سورية التي بلغ عدد سكانها أكثر من 23 مليون مجموعة صحف لا يتجاوز عددها عدد أصابع اليدين، منها فقط صحيفة واحدة خاصة !؟ أما المجلات فيمكننا القول إنها غائبة عن الساحة الإعلامية، عدا مجلة واحدة أسبوعية لم تزل تصدر بانتظام إلى هذه اللحظة؛ فهل يعقل هذا؟!
نضيف إلى ذلك تدني نسبة قراء الصحف والمجلات إلى أدنى مستوى! فقد خسرت الصحافة السورية عبر السنوات الماضية الكثير من رونقها وروادها! وهذا طبعاً ينعكس سلباً على جميع نواحي حياتنا، فالصحافة بشكل ما أداة تطوير ومراقبة ومحاسبة، والصحفي رجل أدب وسياسة، فهل تتجاوز مهنة المتاعب كل المتاعب التي عرقلت مسيرتها وتعود إلى ألقها ورونقها؟
منذ أيام دخلت إلى محل لبيع الصحف والمجلات في أحد أحياء دمشق، حيث تعودنا منذ صغرنا أن نشتري منه الصحف والمجلات وبعض الكتب، فهالني أن معالم المحل قد اختلفت نهائياً وتحول إلى مهنة رائجة، فسألته أين الصحف أجاب: لا أحد يقرأ يا أستاذ...؟!.