أبو السيفين والعراضة الشامية: التراث الشعبي عالم واسع وحمايته أمانة في أعناق الشعوب والأمم

أبو السيفين والعراضة الشامية: التراث الشعبي عالم واسع وحمايته أمانة في أعناق الشعوب والأمم

ثقافة

السبت، ٢٦ أبريل ٢٠١٤

شمس الدين العجلاني
alajlani.shams@hotmail.com
التراث الشعبي “الفولكلور” هو عالم رحب، وقد يختلف ذوو الشأن على تعريف دقيق له، وإن اتفقوا على تعريف عام له، شأنه شأن معظم مصطلحات العلوم الاجتماعية التي تتأثر بالخلفيات العلمية والسياسية والحضارية للقائمين عليه، وهنالك تعريف عام للتراث الشعبي متفق عليه وهو:
"العادات والتقاليد والقيم والفنون والحرف والمهارات وشتى المعارف الشعبية التي أبدعها وصاغها المجتمع عبر تجاربه الطويلة والتي يتداولها أفراده ويتعلمونها بطريقة عفوية، ويلتزمون بها في سلوكهم وتعاملهم؛ حيث أنها تمثل أنماطاً ثقافية مميزة تربط الفرد بالجماعة كما تصل الحاضر بالماضي".
والتراث الشعبي ليس وليد يوم أو عام أو عدة سنين، إنما يعود إلى سلسلة أجيال كثيرة أنجزته، فمن الصعوبة بمكان أن ننسب جزءاً منه إلى شخص بعينه إنما هو ثقافة تراكمية، تواصلية، تكاملية، تسهم مجتمعات عديدة في صناعتها، ما يجعل منها ثقافة أمة، وثقافة شعب.
وحسب اليونسكو، فإن التراث الشعبي، من أهم كنوز الشعوب، فهو خزان ثقافتها، وليس مجرد فولكلور، وعمارة، ومأكل، ومشرب، ولا مجرد طقوس مأتم، وعرس، وغير ذلك من مفردات هذا التراث، وإنما ليشكل- في الوقت نفسه- قاعدة جدّ واسعة لثقافة هذا الشعب أو ذاك، بمعنى أنه يدخل في تشكيل بنية وعيه، ويؤثر في سلوكه إلى حدٍّ كبير، من دون أن يتمكن من التخلّص من سطوته الْبتة.
لذا وجب على الأمم والشعوب الاهتمام والحفاظ على "التراث الشعبي" لأنه الإطار التاريخي الذي تنطلق منه حضارتها ونموها، وهو يشكل جزءاً كبيراً من ملامح هويَّة أي شعب أو أمة، لذلك مسؤولية حمايته عامة، من قبل الأفراد والمؤسَّسات...

العراضة:
حافظت دمشق على الكثير من عاداتها وطقوسها الشعبية حتى الآن، ولعل من أهم هذه الطقوس هو العراضة الشامية، الموروثة في بلاد الشام جيلاً عن جيل، ولم يُعرف تاريخ محدد لنشوئها فهي إبداع شعبي قديم ظهر مع تكون المجتمع الدمشقي.
وتقام عادة هذه العراضة الشامية في المناسبات السعيدة فقط: الوطنية والقومية والأهلية والمناسبات الجميلة التي يعيشها المجتمع أو الأفراد سواء في الأعراس أو عودة الحجاج وليالي رمضان، بالإضافة إلى "الصلحة" التي كانت تقام بين العائلات أو الأفراد المتناحرين، وتتضمن العراضة الشامية باقة من هتافات وأهازيج تُنشد باللهجة الشامية تتناسب مع الحدث التي أقيمت من أجلها يرافقها استخدام الآلات الموسيقية الصاخبة كالطبل الضخم والمزمار والطبلات الصغيرة، وأحياناً كثيرة تشارك الخيول العربية في هذه العراضات، وتكون لعبة السيف والترس أهم ركائز العراضة.

السيف والترس:
اقترن السيف منذ القدم بالفروسية التي تحوي من معاني الإقدام والشجاعة والقوة، ما يجعلها ميزةً خاصة عند الإنسان، فالسيف عماد الفروسية، ولعبة السيف والترس قديمة لا يُعرف بالتحديد زمن نشوئها وقيل إنها وصلتنا من اليونان وكان القصد منها زرْع الحماسة في نفوس الفرسان على القتال، وقيل أيضاً إنها وُجدت زمن الإمام علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) ويستدلّ مؤيدو ذلك أن لاعبي السيف والترس لا يزالون إلى الآن يفتتحون لعبة السيف والترس بقراءة الفاتحة ومن ثم القول "لوجه سيدنا علي" كما يردّدون العديد من الجمل في تعظيم الإمام علي أثناء وقبل بدء اللعبة، ويمكن القول عن ثقافة السيف والترس أنها: "ثقافة معينة تشعّ من دمشق فيأخذ عنها كل من يعلم بها?, وهذا باب واسع أتناول منه نافذة صغيرة جداً هي لعبة السيف والترس التي تضاءلت في الآونة الأخيرة حتى كادت تغيب تماماً, فما هي هذه اللعبة? وما مغزاها? ولماذا كانت تقام? وهل هي رياضة أو نوع من التقليد الشعبي المتوارث عبر القرون?..
لعلها مزيج من ذلك كله فلقد كانت ساحات دمشق, ومفترقات الطرق في حاراتها القديمة تشهدها بأوقات متفرقة، وليست هذه اللعبة منتظمة بحيث يمتشق فارس أو أكثر سيفاً ليقارع به آخر يحمل ترساً في براعة مذهلة بحيث تتجمد لها قلوب المجتمعين من حولهم, وقد يكون هناك أكثر من لاعب وأكثر من حامل ترس.. فإذا شعر أحدهم أنه غُلب أو غَلب خصمه يستطيع الانسحاب ليحلّ محلّه آخر, وكل هذا يدل على الإحساس بالرجولة, والشهامة, والفروسية, وتكريس القيم المثلى من أجل الدفاع عن الشرف.
وللعبة قواعدها ومن يمارسونها, بل يتدربون طويلاً عليها قبل هذه الممارسة وكأنها نوع من الهواية أو الرياضة, ومن يدري لعل المقبلين عليها يكونون من زمرة ذلك الجمهور الصغير الذي يشهد اللعبة أو يتابعها من حي إلى حي, ومشهد اللعبة يأسر القلوب بأولئك الذين يرتدون الأزياء التقليدية القديمة, وينهضون برؤوسهم عالياً وهم يقتحمون الساحة كما لو أنهم فرسان حقيقيون تركوا خيولهم في مكان ما وتقاطروا ليتبارزوا, فيكرسون بذلك تاريخاً موغلاً في القدم لدمشق التي ظلت هدفاً للغزاة والطامعين وكأنها رسالة لهؤلاء جميعاً بأن (قبضايات) دمشق قادرون على صد أي اقتحام لها أو عدوان عليها - ‏قمر الكيلاني".

أبو السيفين:
أتقن لعبة السيف والترس الكثيرون من أبناء دمشق، ولكن كان أشهرهم خلال فترة الثلاثينيات من القرن الماضي المجاهد صبحي العبجي والذي كان يتقن فن هذه اللعبة بدرجة عالية من الفروسية والإبداع، كما كان مجاهداً صلباً ضد الانتداب الفرنسي، وكان يلعب هذه اللعبة بسيف في كل يد لذا عُرف باسم "أبو السيفين"، أو "صاحب السيفين".
كانت دمشق تفخر بالمجاهد أبو السيفين "صبحي العبجي" وتعتبره رمزاً من رموزها، فلم تكن تمرّ على البلاد مناسبة وطنية أو شعبية هامة إلا و"أبو السيفين" سيدها، فحين قدِم الإمبراطور الألماني غليوم الثاني إلى دمشق في زيارته الرسمية الشهيرة عام في عام 1898 م، بناءً على دعوة من السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، زمن والي الشام حسين ناظم باشا، أقيم له حفل استقبال ضخم جداً في ساحة المرجة، وقيل حينها إن الإمبراطور امتطى عربة مجلّلة بالذهب الخالص.. تجرّها أربعة أحصنة.. وخلفها مركبة زوجته الإمبراطورة فيكتوريا.. وقد زينت ساحة المرجة وأبنيتها بالمصابيح والأعلام، ثم تحرك الركب الإمبراطوري مخترقاً سوق الحميدية وصولاً إلى ساحة المسكية، حيث أقيم له أيضاً في هذه الساحة حفل ضخم كان من أبرزه استعراضه للعبة السيف والترس والتي كان سيدها المجاهد "أبو السيفين" حيث أُذهل الإمبراطور وزوجته ومرافقوه من هذه اللعبة الفروسية ومن أدائه المتميز.
وحين قدَم إلى دمشق عام 1931م الزعيم الهندي مولانا شوكت علي "1873 – 1938 م" وهو كاتب ومفكر قومي هندي مسلم، أقام الأمير سعيد الجزائري في حي العمارة بدمشق عصر يوم الأربعاء 1 كانون الثاني حفلاً كبيراً تكريماً له، حضره أعيان وزعماء دمشق إضافة إلى حشد كبير من أهالي الشام قُدر عددهم بأكثر من 200 مدعو، وقام "أبو السيفين" بتقديم لوحات تراثية من لعبة السيف والترس على شرف ضيف سورية وشاركه عدد من الفرسان منهم أبو ياسين القضماني وأبو مصطفى النجار، علماً بأن القضماني والنجار ساهما في ستينيات القرن العشرين بالتدريب والإشراف على فريق التلفزيون العربي السوري للعبة الرجولة لعبة السيف والترس في بدايات إنشاء التلفزيون، وفي هذا الحفل الذي أقامه الأمير الجزائري ألقى "أبو السيفين" قبل تقديم لعبة السيف والترس مع زملائه قصيدة شعر مجَّد من خلالها الإمام علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) "صاحب السيف العظيم".
رحم الله المجاهد الشيخ صبحي هاشم العبجي الحسيني الملقب بـ"أبو السيفين" الذي انتقل إلى رحمة الله عام 1997 م، ذلك المجاهد الذي قاوم المستعمر الفرنسي وأبدع في ترسيخ وتطوير لعبة الفروسية والرجولة، لعبة السيف والترس.