المقهى والإذاعة وأشياء أخرى من أيام زمان.. إذاعة دمشق بيت العرب.. كرّموا رجالاتنا الذين طالت قاماتهم أعالي السماء (3 من 3)

المقهى والإذاعة وأشياء أخرى من أيام زمان.. إذاعة دمشق بيت العرب.. كرّموا رجالاتنا الذين طالت قاماتهم أعالي السماء (3 من 3)

ثقافة

السبت، ١٢ أبريل ٢٠١٤

شمس الدين العجلاني
"هنا دمشق" عبارة قالها الأمير يحيى الشهابي في الرابع من شباط 1947م معلناً عن انطلاقة إذاعة دمشق الوطنية وبقيت العبارة إلى يومنا هذا تصدح من إذاعتنا.
يحيى الشهابي لقّبوه بـ"أمير الإذاعيين" فهو أول مذيع في دمشق، واشتهر في البدء ببرنامجه "في دوحة الشعر".

الشهابي:
ولد الأمير يحيى الشهابي في راشيا عام 1917، عاش في دمشق وتعلم فيها، نال إجازة في الترجمة من الفرنسية إلى العربية ومن العربية إلى الفرنسية، نال شهادة في الإذاعة من جامعة كولومبيا، عاد إلى دمشق وعمل مدرساً في المدارس والثانويات، أول صوت إذاعي في إذاعة دمشق، قام بنقل أخبار الحرب العالمية الثانية، في عام 1946 وبعد جلاء القوات الفرنسية عن سورية، قام بإذاعة العرض العسكري الذي كان يجري وقتها، في عام 1947 قام بافتتاح أول إذاعة وطنية، واستطاع أن يحقق لها المكانة المرموقة بين الإذاعات العربية، في عام 1948 عُيّن أمينا لمكتبة دار الآثار، كان مسؤولاً عن الإذاعة والتلفزيون في الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش، يعد أول من اكتشف الرحابنة وفيروز وقدمهم لمستمعي الإذاعة، قدّم عدداً من الفنانين العرب وفتح لهم أبواب الإذاعة وكانت انطلاقتهم الأولى منها، أخرج تمثيلية درامية إذاعية بعنوان "في الطريق إلى دير ياسين"، ساهم في الكتابة في عدد من المجلات السورية والعربية منها: "الرسالة، السمير، المكشوف"، في عام 1947 عُيّن رئيساً لقسم المذيعين، ساهم في تأهيل الإعلاميين من خلال المحاضرات التي كان يلقيها في المركز العربي للتدريب الإذاعي والتلفزيوني وفي فرع الصحافة بالجامعة السورية، ساهم في تدريب المذيعين والمذيعات الجدد في الإذاعة والتلفزيون، في عام 1948 عُيّن أمينا لمكتبة دار الآثار وقام بوضع معجم لمصطلحات الآثار بالعربية والفرنسية، في عام 1950 عمل مديراً لبرامج الإذاعة السورية، عمل في إذاعة الشرق الأوسط كمساعد لرئيسها، في عام 1960 أشرف على إنشاء التلفزيون إدارياً، عُيّن مديراً عاماً لتفتيش وزارة الإعلام والمؤسسات التابعة لها، عمل محرراً في جريدة "القبس" و"بردى"، عمل محرراً في مجلة "عصا الجنة" ومجلة "الجندي".
نشر قصائد، ومقالات في مجلة "الصباح" ومجلة "دنيا"، عمل محاضراً في كلية الآداب فرع الصحافة ومحاضراً في المركز العربي للتدريب الإذاعي والتلفزيوني، نال عدداً من الأوسمة والميداليات، من مؤلفاته: "السراب" - 1935- ديوان شعر، "الشهابيات" - 1939 – شعر، "مذكرات معلم في قرية" - 1939.. "مصرع زينب" - حوارية شعرية، "معجم المصطلحات الأثرية الفرنسية والعربية" – 1967، "البوهيمي في الأدب العربي"، "العرب والشعوب".
يُسجل للشهابي إنه أول صوت إذاعي في إذاعة دمشق، وقام بنقل أخبار الحرب العالمية الثانية، وكان أول من قال: "هنا دمشق"، وأول من أذاع البشرى على الشعب السوري بجلاء الانتداب الفرنسي وإعلان استقلال سورية من الإذاعة، وأول من سُمي مديراً لبرامج الإذاعة، وهو من قام بالتغطية الإذاعية لأول عرض عسكري بعد جلاء المستعمر الفرنسي في عام 1946، وكان العرض في شارع القوتلي، ولم يكن هنالك تقنيات تساعده على أداء واجبه، فاستعار سيارة شحن لأحد أقاربه ووقف على ظهرها كي يشاهد العرض وينقل وقائعه.
كان يحيي الشهابي أول من أذاع البلاغ رقم واحد زمن الانقلابات العسكرية السورية، مخفوراً بعربة عسكرية، فيروى إنه في صبيحة أول انقلاب عسكري وقع في سورية عام 1949 بقيادة الزعيم حسني الزعيم، أرسل إليه الزعيم بعدد من الضباط إلى منزله، فدخلوا عليه شاهرين مسدساتهم واقتادوه إلى الإذاعة بقوة السلاح وأعطوه البلاغ رقم واحد وطلبوا منه إذاعته من إذاعة دمشق، وصار كلما وقع انقلاب عسكري بدمشق يأتون بالشهابي لإذاعة "البلاغ رقم واحد"، ومنذ تلك اللحظة التي قام بها الزعيم بانقلابه ومبنى إذاعة دمشق هو الهدف الأول لكل انقلاب عسكري تبعه.

إذاعة دمشق بيت العرب:
لا يمكن النكران أن إذاعة دمشق من أعرق وأهم الإذاعات العربية، ولها دور ريادي على الصعد كافة وخاصة القومية منها ويكفي أن نذكر إنه في عام 1956 وأثناء العدوان الثلاثي على مصر في 2 تشرين الثاني.. قامت الطائرات الفرنسية والبريطانية بتوجيه ضربات جوية على الأهداف المصرية طوال يومي 2 و3 تشرين الأول، ونجحت إحدى الغارات في تدمير هوائيات الإرسال الرئيسة للإذاعة المصرية في منطقة صحراء أبي زعبل شمال القاهرة قبل أن يلقي الرئيس المصري عبد الناصر خطبته من فوق منبر الجامع، فتوقفت الإذاعة المصرية عن الإرسال، وخلال ساعات افتتح راديو دمشق برامجه بعبارة هنا القاهرة كرمز للوحدة والوقوف بجانب مصر الشقيقة وبدأت إذاعة القاهرة بالبث من إذاعة دمشق.
إذاعة دمشق هي ثاني إذاعة تأسست في الوطن العربي بعد "صوت العرب" في "القاهرة"، ومن إذاعة دمشق انطلق عمالقة الفن العربي، ففي عام 1940، انطلق وديع الصافي يشدو بأغنيته "ع اللومة" التي فتحت له أبواب الشهرة والمجد والمستقبل..
 وفي الرابع من شباط عام 1953، كانت الانطلاقة الأولى لفيروز من إذاعة دمشق في أغنيتها الشهيرة «عتاب»، ومنذ ذاك الزمن فتحت إذاعة دمشق قلبها على كل شرفاته لاحتضان فيروز.. ‏إذاعة دمشق هي التي اكتشفت عبد الحليم حافظ ومنها انطلق، وإذاعة دمشق رعت الرحابنة.. سعاد محمد بدأت بغناء الموشحات في إذاعة دمشق، وبعد ذك سافرت إلى مدينة حلب المدينة المعروفة بأنها عنوان الطرب ومدينة الفن والغناء وحازت على الإعجاب ووُصفت بأنها أجمل صوت نسائي سمعوه.
هنالك العشرات من الفنانين العرب الذين انطلقوا من إذاعة دمشق يصعب إحصاء أسمائهم ومنهم حليم الرومي، فايزة أحمد، فيلمون وهبة، نجاح سلام..
ويذكر من أوائل من عملوا في إذاعة دمشق الوطنية بهجت العلبي، والفني الذي أصبح ملحناً، غالب طيفور، وكان أول صوت نسائي للمذيعة عبلة الخوري، كما عمل في هذه الإذاعة، عصام حماد وزوجته فاطمة البديري وعواطف الحفار وسعدي بصوص.. وكان لكل من صباح قباني، وتوفيق حسن وخلدون المالح وفؤاد شحادة وعبد الهادي مبارك وسهيل الصغير وسامي جانو، السبق في انطلاقة هذه الإذاعة، ويذكر أن الفنان الشاب صباح فخري عُين مطرباً في إذاعة دمشق بمبلغ 560 قرشاً عام 1946.
 
مقر إذاعة دمشق:
كانت بدايات الإذاعة السورية زمن الانتداب الفرنسي في الثلاثينيات من القرن الماضي، حيث تم استئجار منزل لها في أحد أبنية دمشق في منطقة شارع بغداد، ويروى أن العاملين في هذه الإذاعة تعرضوا لمضايقات من صاحب المنزل والجيران وأن الجيران كان "يضربون على الطناجر" أثناء البث الإذاعي للتشويش على البث!
وتم استئجار منزل في أحد أبنية دمشق في منطقة الحبوبي الرابع أو ساحة النجمة في قلب دمشق ليكون مقراً لإذاعة دمشق، ومن ثم انتقل مقر الإذاعة إلى غرفة في مبنى مصلحة البريد وبعد ذلك إلى مبنى مستقل في ساحة السبع بحرات بدمشق مؤلف من ثلاثة طوابق أنشئ فيها استديوهان، أحدهما للأخبار والآخر للموسيقا والتمثيليات، وهو أول مبنى خاص للإذاعة بعد الاستقلال، ونقل بعد ذلك مبنى الإذاعة إلى شارع النصر عام 1950 واستقدمت لها أجهزة إرسال أقوى، وأنشئت عدة محطات في بعض المحافظات وكان الأمير يحيى الشهابي حينذاك مديراً عاماً لها وكانت البرامج تبث على فترتين الأولى الساعة /00،14 وحتى 00،16. والثانية من الساعة /00،18 وحتى منتصف الليل/. ‏، ولم يزل هذا البناء قائماً ومعروفاً حتى الآن، واليوم مبنى الإذاعة ضمن مبنى الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون في ساحة الأمويين.

الراديو:
تذكر صفحات التاريخ أن أول راديو دخل مدينة حلب كان عام 1930 بواسطة التاجر الحلبي المشهور آنذاك نعيم جنبرت والذي كان يملك محلاً تجارياً في شارع بارون، ولم نعثر على تاريخ محدد لدخول الراديو إلى دمشق ومن أدخله.
 يروي نبيل الشويري قصة طريفة عن عدد أجهزة الراديو بدمشق عام 1940م، فيقول إنه في صيف سنة 1940 صدر أمر من المندوب السامي الفرنسي بمصادرة أجهزة الراديو في الشام فجمعوها ووضعوها في معهد اللاييك الفرنسي الذي أصبح اسمه اليوم معهد الشهيد باسل الأسد، ولم يزل هذا المعهد قائماً حتى الآن في شارع بغداد، وذلك عقب سقوط باريس بيد الألمان....
وكان عدد أجهزة الراديو بدمشق آنذاك نحو عشرين جهازاً أغلبها في المقاهي؛ حيث كان الرجال يجتمعون حولها للاستماع إلى الأخبار. وكان تعداد دمشق حينها لا يتجاوز 350 ألف نسمة، أما مساحة دمشق فكانت تقع بين بوابة الله في آخر الميدان (وسُميت بوابة الله لأنها كانت درب الحجاج إلى الكعبة المشرفة) إلى آخر المهاجرين حيث يقع القصر الجمهوري وتنتهي سكة الترامواي، ومن الشيخ محيي الدين بن العربي إلى القصّاع الذي ينتهي في باب توما. أما المزة ودمر وبرزة و.. فهي كانت قرى تابعة لدمشق، وكان حي القصّاع محاصراً بنهرين من أنهار بردى: هما تورا في شماله ونهر قليط عند باب توما. وكانوا يسمّونه قليط لأن فضلات المنازل والمتاجر كانت ترمى فيه. أما شارع بغداد والذي يقع الآن في قلب دمشق كان عبارة عن جنائن وبساتين. وحي القصّاع وحده كان فيه أربع جنائن تقام فيها سهرات الصيف.. في حين كانت منطقة المالكي وأبو رمانة كلها بساتين.

أخيراً:
هذه مقاهي سورية وإذاعة سورية وذكريات سورية، وسيرة رجال إعلام نسيناهم وكان لهم السبق في وضع بصماتهم الناصعة على مسيرتنا الإعلامية، ترى هل يتذكرهم أحد منّا؟ هل قدمنا لهم بعضاً من الواجب علينا تجاههم، هل وكما يقولون "في اضعف الإيمان" وضعنا صورهم ولمحة عن سيرتهم الذاتية وعطاءاتهم الإعلامية في المباني الإعلامية المنتشرة على مساحة سورية.. ويبقى الإلحاح مطروحاً: كرموا رجالاتنا الذين طالت قاماتهم أعالي السماء ليعلم أبناء اليوم تاريخاً في غياهب النسيان.

المراجع:
أعداد مختلفة من مجلة الإذاعة السورية الصادرة في الخمسينات من القرن الماضي، موقع عائلة الشمعة، أرشيفي الخاص، إضافة إلى المراجع التي ذُكرت في متن المقالات.