ذاكرة المكان والناس.. المقهى والإذاعة وأشياء أخرى من أيام زمان (2 من 3)

ذاكرة المكان والناس.. المقهى والإذاعة وأشياء أخرى من أيام زمان (2 من 3)

ثقافة

السبت، ٥ أبريل ٢٠١٤

شمس الدين العجلاني
قيل إن مخترع الراديو ليس شخصاً واحداً إنما هم أربعة شخصيات أو أربعة علماء اشتركوا في اختراعه أو إن كلاً منهم أضاف شيئاً ما لاختراع زميله..
الأول هو: ماكسويل من اسكتلندا وكان هو أول من تنبّه لانتقال الشرارة الكهربائية الضوئية وكان هذا في عام 1855م.
الثاني: هرتز الألماني الذي اكتشف انتشار الموجات وتحركها ونجح في استقبالها من مسافة لا تزيد عن 30 متراً.
الثالث: ماركوني الإيطالي أشهر اسم ارتبط باختراع الراديو استطاع أن يواصل التجارب التي سبقته واستقبل الموجات الصوتية على بعد آلاف الكيلومترات وكان هذا من الأهمية الكبيرة فأهم شيء في الراديو هو وصول الموجات إلى أبعد مسافة ممكنة ونجح ماركوني في هذا الاكتشاف سنة 1895م.
ولكن إيطاليا لم تهتم كثيراً لهذا الاكتشاف فسافر ماركوني إلى إنكلترا وكانت والدته أيرلندية ,وعرض على الإنجليز اكتشافه واستطاع أن يؤسس شركة ماركوني للبرق والتلغراف سنة 1900م.
الرابع: لي فورست الذي ارتبط اسمه بالراديو أيضاً فقد توصل لطريقة صنع الصمامات في سنة 1907م؛ وبواسطتها أمكن تحويل الذبذبات الكهربائية إلى تيار مستمر وبذلك أصبح الحديث في الراديو ممكناً، وكان أول إرسال إذاعي من محطة في هولندا سنة 1919م.
أما في بلادنا ففي السابع عشر من نيسان عام 1946 تأسست أول إذاعة وطنية سورية وافتُـتحت يوم الجلاء باحتفالاتٍ أقيمت بهذه المناسبة، واستمر البث ست ساعاتٍ متواصلة، وكانت تعمل هذه الإذاعة بقوة (5، 7) كيلو واط على الموجـات القصيـرة، أما استديو البث فقد كان عبارة غرفة من دائرة مصلحة البريد، وكانت هذه الإذاعة تابعة إدارياً إلى مديرية البريد والبرق والهاتف..
واستمرت الإذاعة بعد ذلك دون أن يكون لها نظام ثابت في البث سوى المناسبات وكلها وطنية وقومية. وفـي أول شهر رمضان بعد الجلاء بدأت أول فترة بث ثابتة في الإذاعة السورية، حيث بثت يومياً لمدة ساعتين متواصلتين برامج رمضانية بمناسبة الشهر.

أول بث إذاعي:
ولكن ذلك لا يعني أن البث الإذاعي بدمشق كان عام 1947، فقد سبق ذلك إنشاء إذاعات محلية فعلى سبيل المثال عرفت دمشق إنشاء إذاعة محلية في عام 1936 وذلك خلال معرض الصناعات الوطنية الذي أقيم في مدرسة التجهيز وعمل في هذه الإذاعة الصحفي العريق نشأت التغلبي الذي كان له دور فيما بعد بتأسيس الإذاعة الوطنية، ومن خلال هذه الإذاعة ظهر المذيع الأمير يحيى الشهابي على الهواء لأول مرة.
وبعد ذلك بعدة سنوات عرفت دمشق البث الإذاعي، وعُرفت حينها بإذاعة دمشق الفرنسية، وكانت الغاية من إنشاء هذه الإذاعة ترويج الدعاية لقوات الحلفاء، وكانت تبث برامجها باللغة العربية عدا نشرات الأخبار حيث كانت تبث بالفرنسية والإنكليزية، وكانت تذيع أخبار معارك الحرب العالمية آنذاك وتأسست عام 1940 وكان من المؤسسين الصحفي العريق سامي الشمعة، وهو صحفي سوري وناقد مسرحي، ولد بدمشق عام 1910 وتوفي العام 1950، وعمل سامي الشمعة مراسلاً ومحرراً لعدد من الصحف السورية واللبنانية وعمل سكرتيراً لصحيفة الأيام الدمشقية الشهيرة وأسّس عدداً من الصحف السورية منها "الدستور" "السياسة" و" آخر دقيقة".
ولكن لا يعني أن إنشاء الإذاعة زمن الانتداب الفرنسي كانت على حيّز من تقنيات ذلك الزمن، وبهذا الصدد يقول أحمد عسة في افتتاحية العدد الأول من مجلة (الإذاعة السورية الصادر في 1/9/1953) : ((عندما جلَت الجيوش الأجنبية عن سوريا، لم يترك لنا المستعمرون في حقل الإذاعة إلا جهازا باثا واحدا قوته ربع كيلوات، نحتفظ به في متحف الإذاعة للذكرى والتاريخ، إذ لم يكن صوته مضمونا لإسماع عاصمة بلادنا، فكيف بالعالم؟! واليوم بعد سبع سنوات مرت على استقلال بلادنا، أصبح في سورية محطات للبث على الموجات الوسطى والقصيرة يبلغ مجموع قوتها (1255) كيلوات، أي أننا زدنا قوتنا الإذاعية (1500) مرة خلال بضع سنوات، وأنجزت سورية المستقلة في حقل البناء والإنشاء الإذاعي ما عجز الانتداب عن إقامته بنفسه خلال (26) عاما رزح فيها كابوسه على صدورنا.

سامي الشمعة يروي:
روى سامي الشمعة في صحيفة الناقد بعضاً من ذكرياته عن إذاعة دمشق الفرنسية والتي كان مديراً لها لفترة زمنية محددة حيث قدم استقالته بعد ذلك نتيجة صدام مع الانتداب الفرنسي، يقول الشمعة: " في عام 1940- 1941 قابلني السيد ميشيل أبو راشد القائم بشؤون المراقبة في دائرة المطبوعات, وقال لي بأن الفرنسيين أنشؤوا محطة إذاعة في دمشق وسألني إذا كنت أقبل الإشراف عليها وإدارتها, وأخذ يقنعني بأن "استلام" هذه المحطة – إذا لم يكن من مصلحتي – فهو على كل حال في مصلحة القضية السورية وقضية الحلفاء!.
ووعدت أبا راشد بدرس الموضوع, وزيارة المحطة, وكان لي ما أردت.. وسألت القائم على شؤون المحطة من الناحية الفنية, عن قوتها فقال بأن قوتها لا تقل قوة عن محطة موسكو ولندن وبرلين!.
وسألت عن المسافات التي تصل إليها الموجات, فقيل لي إن المحطة تُسمع في شوارع لندن, والباراغواي, والهند الصينية!.
وسألت عن موازنة المحطة المالية, فقيل لي إن "الحلفاء لا يقصّرون" وهم حريصون على تأمين النفقات!.
وسألت عن الغاية من إنشاء المحطة فقيل إن غايتها: (إذاعة الأخبار بسرعة وإعداد برنامج موسيقي وغنائي واسع.. في سبيل تأمين "كيف" الشعب السوري الكريم)!.
ولم أجد في هذا الاقتراح – اقتراح مديرية المطبوعات – ثمة ما يحول دون الموافقة على "استلام" المحطة ولكنني ترددت!.
وما هي إلا ثلاثة أيام حتى تلقيت كتاباً من دائرة المطبوعات يبلغني فيه مديرها بأنني عُينت مشرفاً على المحطة, كما بلّغني قراراً من المفوض السامي ينص على: (أن هذه الوظيفة تابعة لقرار مصادرة "الطنابر" والبغال, والموظفين خلال الحرب) وأن الاستقالة منها لا يمكن أن تتم إلا بموافقة المفوضية!..
واستلمت المحطة – محطة "هنا محطة دمشق العربية" تذيع عليكم على موجة طولها, وعرضها, وذبذبة الخ.. – وبدأت المشاكل منذ اليوم الأول!.
فقد كانت المحطة – الشبيهة بمحطة موسكو – عبارة عن راديو, و" فونوغراف" و" علبة صغيرة" وبضع أسطوانات قديمة, ولا تزيد قوتها عن ثلث الكيلووات!..
وهذه المحطة تستطيع أن "تذيع".. ولكن على من يريد أن يسمعها أن يكون في "الاستوديو" أو في الحي الذي أنشئت فيه – وهو حي الحبوبي – وقلّ من يتمكن من سماعها في عرنوس.. أو ساحة الشهداء وباب الجابية!!.
‏أما موازنة المحطة.. فقد كانت عبارة عن.. ثمانمئة وسبعين ليرة سورية, نفقات برنامج موسيقي, وغنائي واسع!.. وبدأنا بالبحث عن المطربين, والموسيقيين وأخذنا نفاوضهم:- الحفلة بثلاث ليرات.. يدفع فوقها المطرب من جيبه خمس ليرات ثمن قطعة وسبع ليرات تلحين.. كما يدفع أجرة "الأوركسترا" إضافة للتركة!..
أما قارئ القرآن الكريم – فإن راتبه – تشجيعاً للمتدينين, وتنفيذاً لخطة إرضاء المسلمين المؤمنين.. لا يزيد عن ثلاث ليرات سورية, يدفع منها ضريبة تمتع وثمن وصل, وضريبة حرب, نصف المبلغ أو يزيد!.
 وكم كنت أخجل عندما يخرج المطرب من غرفة "الاستوديو" – وهي من حصير؟! – والعرق يتصبّب من وجهه, وجسمه, وأعطيه – مع أعضاء الأوركسترا الكريم – أربع أو خمس ليرات.. بما فيها التمتع وثمن الطابع والوصل, وضريبة الحرب؟!..
أما مقرئو القرآن الضريرون فقد كانوا ينتقلون من الميدان إلى الصالحية.. لتلاوة آي الذكر الحكيم.. في سبيل ثلاث ليرات!..
وأما المحاضرون – الدكاترة والأساتذة, وأعضاء المجمع العلمي, فقد كان من المقترح دعوتهم إلى إلقاء المحاضرات, لقاء أربع ليرات سورية وربع!.. ودعوتُ بعض أعضاء المجمع العلمي, فقبِل القسم الأكبر منهم إذاعة محاضراته – إرضاءً لي– ولكنهم لم يبحثوا في أجر المحاضرات!.
وهل يمكن أن يكون الأجر أقل من محطة القاهرة, أو الشرق الأدنى وهما تدفعان للمحاضر أجرة الطريق, كما تدفعان له 25 جنيهاً عن كل محاضرة على الأقل؟!.
وذهبت للمرة الأولى إلى دار الأستاذ محمد كرد علي, ورافقته إلى المحطة تحت وابل من المطر, وفي ظلام دامس, فألقى محاضرته..
ورافقت في اليوم التالي الأستاذ المغربي, وأديب التقي, والأمير مصطفى الشهابي.. وكانت محاضراتهم موضع الاهتمام وحديث الناس!.
وخجلت أن أدفع لعضو مجمع علمي خمس ليرات – كما هو مقرر – وطلبت أن يكون المبلغ 25 أو 30 على الأقل فقيل لي: (موافق.. شريطة أن يقتصر برنامج المساء على المحاضرة, والقرآن الكريم فقط دون غناء ودون موسيقى, ووجع رأس) ؟!.
ولكن المحاضرة وآية الذكر الحكيم، لا تستطيع "إملاء" البرنامج مدة خمس ساعات! - لا مانع! نستطيع أن نضع بدل المطربين والموسيقيين أسطوانات, ولدينا منها عدد كبير!.
وراجعت قائمة الأسطوانات فإذا بها تبدأ بأسطوانة "يا منعنشة" و"سلام على حسن يد الموت" و"يا عرقسوس" ومعظمها "يشحط" ويكاد لا يسمع!. وقد استُعيرت من محطة إذاعة بيروت بعد أن فنيت!.
وطلبت أن يكون في المحطة (فرقة إذاعة) فقيل لي: (ألف فرقة إذاعة.. ولكن على حسابك)!.
وبالرغم من سخافة هذا الرأي.. فقد ألفت فرقة الإذاعة, وكنت مضطراً لإشغال القسم الأكبر من البرنامج بها.. فبدلاً من محاضرة (عضو مجمع علمي) تُكلف 25 ليرة.. لتعزف فرقة الإذاعة معزوفة حبي لعبد الوهاب, أو تحميلة رست لسامي الشوا!.
وبدلاً من غناء المطرب الفلاني.. لتعزف الفرقة (مارش) الخديوي.. أو (قوموا روحوا, قوموا روحوا..)!. ولم يكف هذا.. بل كانت تصلني كل يوم خمسون محاضرة أو مقالة عن قوة الحلفاء – وكانوا إذ ذاك يفرّون من دنكرك – أو عن قوة فرنسا – وكانت إذ ذاك قد استسلمت من أول دقيقة – فكنت أخفي المحاضرات في "درج" المنضدة وأضع بدلاً منها أسطوانة (سلام على حسن يد الموت..) أو (خدعوها بقولهم حسناء).. أو إحدى معزوفات فرقة الإذاعة؟!.
وأخذت أطلب إلى الدوائر العليا زيادة المخصصات, قائلاً بأن الفنانين, والمحاضرين والمقرئين, بدؤوا يحتجون على (التعرفة) ويرفضون الغناء, والعزف, والكلام قيل لي: (ضع بدلاً منهم أسطوانات) !, وعندما قلت للدوائر بأن (الأسطوانات قديمة جداً, وسخيفة جداً, ومهترية جداً) قيل لي: (لا بأس أن تغني أنت, ويعزف المحاسب ويتكلم المذيع.. فالموازنة لا يمكن زيادتها)!.
وتلقيت ذات يوم شكوى من الدوائر العليا.. بأني لا أذيع (نشرات الدعاية) أو أنني ألخصها, وأذيع ما يروق لي منها, وأن أحد سكان "ليون" نبهّها إلى هذه الناحية! مع أنني كنت أعلم أن صوت المحطة لا يصل إلى دوما!.
وتحمّلت هذه المشاكل سنة ونصف السنة, وأنا آمل بتوسيع البرنامج وزيادة المخصصات, فلم أنجح... ولو أنني نجحت في الاستقالة!).
يتبع