المقهى والإذاعة وأشياء أخرى من أيام زمان (1 من 3).. بقلم: شمس الدين العجلاني

المقهى والإذاعة وأشياء أخرى من أيام زمان (1 من 3).. بقلم: شمس الدين العجلاني

ثقافة

السبت، ٢٩ مارس ٢٠١٤

كان سيد المواقف وحوله يجتمع أهل دمشق في المقاهي ليسمعوا أخبار العالم أو يتمتعوا بالطرب الأصيل، استطاع أن يحل بكل بساطه مكان (كركوز وعواظ) ومن ثم مكان الحكواتي.. هو الراديو العنصر الأهم في المقاهي أيام زمان.
في زمن ما تلازم المقهى والراديو واستقطبا فئات الشعب المختلفة، ولكن ما لبث أن غادر الراديو مهزوماً مقاهي أيام زمان بعدما كان سيدها..
المقهى الدمشقي (أو القهوة) كما أسماها العامة من الناس حتى يومنا هذا، كانت إحدى سمات الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية والترفيهية في دمشق. كان يرتاد المقهى أهل البلد للترفيه عن النفس من خلال لقاء بعضهم بعضاً، والاستماع إلى قصص (كركوز وعواظ) والحكواتي وتناول النارجيلة والقهوة والشاي، والحديث عن الأحوال العامة للبلد. لقد كانت شخصيتا (كركوز وعواظ) وشخصية الحكواتي هي المحور الرئيسي للمقهى، وهذا الحكواتي هو الشخصية الثقافية في المقهى وتعتبر شخصيته من أهم الشخصيات العاملة في هذه المقاهي، إذ وجب عليه أن يكون حافظاً للقصص التراثية، والملاحم والسير البطولية من التراث ومن الواقع والأسطورة، وملماً بالشعر وفصيح اللسان، وحافظاً لنوادر العرب والعجم، ولكن قهر الراديو (كركوز وعواظ) والحكواتي وتربع في صدارة المقاهي ومن ثم هُزم أمام التلفزيون وغادر المقاهي دون رجعة..

مقاهي أيام زمان:
اشتهرت دمشق عبر الأيام الماضيات بمقاهيها الجميلة الحلوة المتنوعة، ففي دمشق كان هنالك مقاهٍ لأبناء المحافظات كمقهى الديرية في منطقة البحصة قرب ساحة الشهداء، ومقهى «القلمون» في حي العمارة العريق، ومقهى الكمال في منطقة الفردوس كان يعرف باسم «اللواذقة» وكان ابن المحافظة إذا حضر إلى دمشق يقصد مقهى أبناء منطقته، فيجد فيه معارفه، وأبناء محافظته..
عرفت دمشق عدداً كبيراً من المقاهي أيام زمان، ولم تكن هذه المقاهي مجرد مكان للتسلية وشرب القهوة أو الشاي، بل كانت مكاناً اجتماعياً وفكرياً وسياسياً لعبت الدور المنوط بها على الصعد كافة.. فشهدت معظم هذه المقاهي أحداثاً مهمة، تشكلت فيها الأحزاب والمنتديات الثقافية والفكرية والسياسية، وانطلقت منها الثورات ضد الاستعمار، فعلى سبيل المثال عقد المؤتمر التأسيسي لحزب الشعب في مقهى العباسية الذي لم يعد موجوداً، والمؤتمر التأسيسي لحزب البعث العربي في مقهى الرشيد الذي كان قائماً مكان بناء المركز الثقافي الروسي حالياً.
شهدت المقاهي الدمشقية ازدهاراً كبيراً، وكان معظمها يقع على ضفاف نهر بردى إضافة إلى شارعي العابد وبغداد وباب توما والمرجة والسنجقدار. وبغياب المراكز الثقافية آنذاك أصبحت هذه المقاهي مكاناً لتجمع الشباب المثقف الذي تحزب خلف رايات وطنية وفكرية متباينة، وعرفت عدة مقاه في تلك المرحلة على أنها عنوان للمفكرين والمثقفين والسياسيين، وأشهر هذه المقاهي السياسية مقهى البرازيل والذي كان مكانه بمحاذاة جامع "الطاووسية" باتجاه ساحة "محافظة دمشق"، وكان يديره "خليل دياب"، والغريب أن هنالك مقاهٍ كثيرة في المحافظات السورية تحمل نفس الاسم، بل أكثر من ذلك فهنالك في طرابلس لبنان ورام الله وبغداد و.. مقاهٍ تحمل اسم "مقهى البرازيل"، وأيضاً هنالك مقهى الهافانا، والهافانا يقع في الجهة الغربية من شارع فؤاد الأول عند تقاطع شارع المتنبي وشارع بورسعيد, وقبل أن يتحول إلى مقهى كان «بار القطة السوداء», وفي زمن الوحدة السورية- المصرية تحول إلى «مقهى السلوان» ثم أعيد إلى اسمه الأصلي, وفي آخر السبعينيات تحول إلى محل لبيع الألبسة, ولولا تدخل الجهات العليا بدمشق لما أعيد "مقهى الهافانا" والذي لم يزل قائماً إلى الآن.
وكان كل من الهافانا والبرازيل يحمل رواده لوناً سياسياً مختلفاً وهنالك تجاذبات دائمة بينهما.
لم يقتصر ارتياد هذه المقاهي على عامة الناس، بل كانت أيضاً ملتقى الأدباء والشعراء وحتى العلماء وشيوخ الطرق الصوفية نزلوا إليها وجلسوا فيها على الرغم من انتقادهم لها؛ إذ اعتبر النزول إلى المقاهي من العلماء سبباً في زوال هيبتهم. يقول المؤرخ المرادي في ترجمته للشيخ إبراهيم بن مصطفى الجباوي (توفي:1135هـ/1722م) إن ارتياده للمقهى « أزال عن نفسه هيبة المدرسين».
لقد كان الراديو في مطلع القرن العشرين عاملاً يجذب الزبائن إلى المقهى وخاصة أن "الحديد يتكلم" على حد العامة من الناس الذين كانوا يرددون: "يا سلام سلِّم الحديد يتكلم"، في ذاك الوقت كان الراديو مرتفع السعر مما جعل اقتناءه مقتصراً على أعيان البلد، لذا عمل بعض أصحاب المقاهي آنذاك على كسب الزبائن بوجود الراديو في مقاهيهم، وكان صاحب المقهى يضع الراديو في صدارة المقهى فوق رفٍّ خاص مزيّن بالدناديش ولا يدير مؤشر موجاته إلا هو أو من يوكله من صبيان المقهى الذين يعلمون معه.

 غريب المقاهي:
كان بدمشق مقاهٍ غريبة "إن صحت التسمية" من مقهى "خبيني" في ساحة الحجاز إلى مقهى "خود عليك" في منطقة الشادروان على طريق دمر الهامة على حافة نهر تورا، إلى «مقهى العون بالله» والذي عُرف أيضاً باسم «مقهى الخرسان» وكان بالقرب من بناء العابد في ساحة المرجة، و"مقهى التايبين" في الربوة، و"مقهى الله كريم" في جوزة الحدباء قرب جامع يلبغا، ومن المقاهي القديمة العريقة الشعبية والتي لم تزل تستقطب الأدباء والشعراء والسياسيين وعامة الناس بدمشق هو مقهى "الروضة" الذي تأسس عام 1938 على بقايا سينما صيفية وأسّسه عبد الرزاق مرادي ويقع في شارع العابد وسط دمشق، وهو شاهد على حقبة مهمة من تاريخ سورية، ويستقبل الرجال والنساء منذ سنوات عدة، ومقهى النوفرة الشهير حتى الآن والذي تجاوز عمره الخمسمئة عام..
يتبع