بين لامية الشنفرى ولامية عبد الرزاق عبد الواحد

بين لامية الشنفرى ولامية عبد الرزاق عبد الواحد

ثقافة

الأحد، ١٦ مارس ٢٠١٤

محمد خالد الخضر
لاميتان لكل منهما أثر ثقافي مختلف عن الآخر ولكل منهما دلالة على حضور الشعر وأهميته عبر التاريخ ولكن ثمة اختلاف ليس قليلاً فيما عكسته البيئة والحالة الاجتماعية التي عاشها كل شاعر وصاحب كل لامية منهما.. الأولى "نشيد الصحراء" والتي أطلق عليها لامية العرب للشاعر الصعلوك الذي لقب بالشنفرى وهو ثابت بن أوس الذي دفعته تداعيات القبيلة وظلمها لترك أهله والذهاب إلى الصحراء ليعيش مع بعض رفاقه الشعراء الصعاليك والثانية لامية العراق والتي عنوانها "صبر أيوب " للشاعر العراقي عبد الرزاق عبد الواحد الذي اختلف عن الشنفرى؛ فهو الذي بكى أهله وأرضه ووصف جودهم وكرمهم وصبرهم بينما هجاهم الشنفرى واعتبرهم سبب صعلكته!!.
يفتتح الشنفرى لاميته ببيته الشهير:

أقيموا بني أمي صدور مطيكم
 فإني إلى قوم سواكم لأميل

أما عبد الرزاق عبد الواحد يقول في افتتاحية القصيدة:
قالوا وظل.. ولم تشعر به الإبل
 يمشي وحاديه يحدو وهو يحتمل

يتشابه البيتان من حيث قوة الموهبة برغم تباعد الزمن واختلاف العادات والتقاليد وسبل العيش وأدواته.. فالشنفرى ابن عصر جاهلي أهم منزل يعيش فيه هو الخيام وأهم وسيلة نقل هي الإبل خلافاً للقصور التي يشهدها عبد الرزاق عبد الواحد ووسائل النقل المتطورة كالسيارات والطيارات كما أنهما يتشابهان في الهم والقهر وإن اختلفت الطرائق؛ فواحد يتألم من وطأة الأهل والآخر من وطأة الاستعمار.
أما النواحي الفنية، فلقد تابع الشنفرى لاميته بألفاظ قاسية صعبة إلى أنها تحمل معاني شفافة وصلت إلينا محملة بما كان يتحمله ذلك الشاعر الإشكالي من ألم وصعوبات بمستوى فني ظلّ يتصاعد إلى أن انتهت القصيدة وهو يرفل بالصور والمحسنات والمعاني الإنسانية يقول:

وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى
 وفيها لمن خاف القلى متعزّل
ولي دونكم أهلون: سيد عملس
 وأرقط زهلول وعرفاء جيأل

لقد فضل الوحوش والحيوانات على أهله وقومه فكانت عاطفته الجياشة قد ساهمت في صياغة أبياته التي اتّسمت بشموليتها وأهمية ما تضمنته من مواضيع مختلفة تمكن من صياغتها في قصيدة واحدة دون أن يشعر القارئ أن القصيدة التي يتعامل معها هي عدة مواضيع كما أن توافق موسيقى البحر الكامل وحرف الروي اللام أسهما في متانة القصيدة وعذوبة إيقاعها يقول:

وإن مُدت الأيدي إلى الزاد لم أكن
 بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل
وما ذاك إلا بسطة عن تفضل
 عليهم وكان الأفضل المتفضل

في حين إن عبد الرزاق عبد الواحد كان متمسكاً بحب أهله فكانت العاطفة شديدة التدفق يريد من خلالها أن يعبّر عن إخلاص العراقيين وشدة تحملهم للشدائد وصبرهم وقوة بأسهم في وجه الاستعمار الذي مازال يفرض نيره على عمق العراق ويوزع بلاءه على أهله فيقول:

يا صبر أيوب.. حتى صبره يصل.. إلى حدود وهذا الصبر لا يصل
يا صبر أيوب لا ثوب يخلعه.. إن ضاق عنا.. ولا دار فننتقل

هكذا يرى الشاعر أن صبر أيوب يصل إلى حد، أمّا صبر العراقيين فلا حدود له ويكون بذلك قد اختلف بموضوعه عن الشنفرى الذي عكسته البيئة الحياتية وتحولات الإنسان عبر تحركاته المتطورة إيجابياً أو سلبياً كما اختلف باستعارة الدلالات والألفاظ التي امتازت بسهولتها وعفويتها وباستخدام البحر الطويل.. وإن كان الشنفرى قد اعتبر أن الحيوانات أفضل من قومه ومن أهله فإن عبد الرزاق عبد الواحد اعتبر أن أهله أكرم من في الأرض وأشد نخوة ومروءة في قوله:

لكننا حين يستعدى على دمنا
 وحين تقطع عن أطفالنا السبل
نضج لا حي إلا الله يعلم ما
 قد يفعل الغيض فينا حين يشتعل
يا سيدي.. يا عراق الأرض يا وطناً..
تبقى بمرآه عين الله تكتحل

في الوقت الذي يفضل الشنفرى أن يفتخر بنفسه فيقول:

إذا الأمعز الصوان لاقى مناسمي
 تطاير منه قادح ومقلل

بقي أن نبيّن شيئاً هاماً، بأن المنظومة الأخلاقية الاجتماعية قد تكون متشابهة عبر التاريخ إلا أن الحالة التربوية الفردية قد تختلف من شاعر لآخر وهذا ما ظهر عند الشاعرين عبد الرزاق عبد الواحد وأوس بن ثابت؛ لكن الوثيقة الدالة التي أتى بها الاثنان أن الشعر الحقيقي ظاهرة ثابتة لا تخضع لأي تحول فكلاهما ينتمي إلى حالة شعر عُليا.