العثمانيون ونكبة مكتبات دمشق وأشياء أخرى (2 من 2)

العثمانيون ونكبة مكتبات دمشق وأشياء أخرى (2 من 2)

ثقافة

السبت، ٨ فبراير ٢٠١٤

شمس الدين العجلاني
بناء على دعوة من السلطان العثماني عبد الحميد الثاني وتحت شعار، رحلة حج للعاهل الألماني الإمبراطور غليوم الثاني إلى الأراضي المقدسة وتدشين مؤسسات ألمانية، وصل إلى دمشق مساء يوم الثلاثاء 8 تشرين الثاني 1898م الإمبراطور الألماني غليوم الثاني والإمبراطورة فكتوريا في زيارة رسمية تستغرق يومين.
كان في استقبال الإمبراطور الألماني في محطة البرامكة والي دمشق حسين ناظم باشا والوزراء وأهالي دمشق كبيرهم وصغيرهم. وأقام غليوم وزوجته في سراي العسكرية (وكانت تسمى أيضاً دار المشيرية وهي الآن قصر العدل).
قام الإمبراطور بزيارة الجامع الأموي وقاعة عبد الله بك العظم، وجامع نور الدين، وضريح صلاح الدين الأيوبي، وجامع السنانية، وعدد من الكنائس، ومحل حنانيا الرسول، والصالحية، وبعض ضواحي المدينة.

الاستعداد للزيارة:
تشكلت لجنة بدمشق لاتخاذ كافة الإجراءات لإنجاح زيارة الإمبراطور برئاسة والي دمشق ناظم باشا وعضوية كل من: أمين عالي بك دفتر دار الولاية، وعبد الرحمن باشا محافظ الحج الشريف، ومحمد فوزي باشا العظم عضو مجلس إدارة الولاية، وخسرو باشا قومندان الجندرمة، وخليل أفندي الخوري مدير الأمور الأجنبية.
وقامت هذه اللجنة بإصلاح دار المشيرية وفرشها وهي مقر إقامة الإمبراطور غليوم والإمبراطورة فكتوريا، وإصلاح وفرش نزل بسراوي (مقابل وزارة الداخلية الآن) لنزول حاشية الإمبراطور. كما تم تزيين الأسواق وتحسين الطرق والأبنية وخاصة محطة القطار في البرامكة محل قدوم الإمبراطور..

تراثنا بيد الإمبراطور:
كما مرّ معنا فإن قبة الخزنة كانت تحتوي على أهم وأندر المخطوطات التي تعود إلى آلاف السنين، ويقال إن الأمير سيباي آخر أمراء العصر المملوكي في دمشق قام بفتحها عام 1516 ميلادية 922 هجرية ووجد فيها أوراقاً ومصاحف مكتوبة بالخط الكوفي وبعض الكتب القديمة بالخط العربي، في حين يقول حبيب الزيات في كتابه (خزائن الكتب في دمشق وضواحيها): "أول من دخلها في القرون المتأخرة: قنصل إنكلترة: روجرس سنة 1868م. دخلها ليلاً مع بعض السياح، وانتقى أشياء منها فيما بلغني".
وكان البارون (هرمن فون سودن) مدرّس اللاهوت في كلية برلين من دعاة فتح قبة الخزنة والاطلاع على ما تحتويه من كنوز حضارية، ولدى زيارته إلى دمشق ومعرفته بما تحتويه قبة الخزنة من أسرار سعى مع حكومة ألمانيا لدى العثمانيين للاطلاع على محتوياتها، وبعد اتصالات مكثفة مع العثمانيين، تمت الموافقة، فكلف الدكتور برونو فيُولت أحد تلامذة العلامة نولدكه بالحضور إلى دمشق للاطلاع على محتويات قبة الخزنة وتم له ذلك، ووصف محتويات القبة بقوله: (تضم صحائف كثيرة، من الرق، باليونانية واللاتينية والأرمنية والعبرانية والآرامية والفلسطينية والسامرية، يعود بعضها إلى القرن الخامس الميلادي).
 ويبدو أن من مهام زيارة الإمبراطور الألماني غليوم الثاني وحاشيته لدمشق الحصول على مقتنيات هذه القبة. فقد حرص الإمبراطور الألماني أن تكون أولى زياراته إلى الجامع الأموي وضريح القائد صلاح الدين الأيوبي؟!
لقد أراد غليوم الثاني العزف على الوتر الحساس لدى المسلمين بإضفاء الصفة الإسلامية على زيارته لدمشق، وهذا ما استطاعت ألمانيا النجاح به قبل أن تطأ قدما غليوم برَّ الشام، لذا خرجت الجماهير لاستقباله كحليف للإسلام.
لقد عرف الإمبراطور كيف يجذب إليه المسلمين، من خلال خطابه قبل وأثناء زيارته لدمشق، فكان أول زيارة قام بها للجامع الأموي وضريح صلاح الدين الأيوبي، لمعرفته التامة ما لهما من تأثير وحساسية لدى الشعوب الإسلامية كافة، حتى أن بعض الصحف العربية ادّعت أن العاهل الألماني سيعلن إسلامه!. بل قام الإمبراطور غليوم الثاني بإلقاء خطبة في دمشق أعلن فيها حمايته العلنية لثلاثمئة مليون مسلم، مما أثار استياء كل من إنكلترا وروسيا؛ لأن مئتين وخمسين مليوناً من هؤلاء كانوا من رعاياهما، وأعلن أنه قدّم العون للدولة العثمانية لإنشاء سكة القطارات للمساعدة في نقل الحجاج المسلمين إلى الديار المقدسة!
كان أول طلب للإمبراطور قبل قدومه لدمشق من القسطنطينية الاطلاع على محتويات قبة الخزنة وأخذ ما يريد منها، وكان له ذلك؟!
فحين زيارته للجامع الأموي كان أمر السلطان عبد الحميد الثاني قد وصل لوالي دمشق حسين ناظم باشا بفتح الخزانة ووضع محتوياتها بتصرف العاهل الألماني! وتروى صفحات التاريخ أنها كانت تحتوي آنذاك على: "قطع من الرقوق كتب فيها سور من القرآن الكريم بالخط الكوفي، ومنها قطعة مهمة من مصاحف وربعات وقطع من الأشعار المقدسة بالآرامية الفلسطينية وكتابات دينية وأدبيات وقصص رهبانية ومزامير عربية بالحرف اليوناني، ومقاطع شعرية لاوميروس وكراريس وأوراق بالقبطية والكرجية والأرمنية وجذاذات عبرانية وسامرية فيها نسخ من التوراة وتقاويم أعياد السامريين، وصكوك للبيع والأوقاف وعهود زواج، كما عثر بينها على مقاطع لاتينية وفرنسية قديمة، وقصائد يرتقي عهدها إلى أيام الصليبيين ونسخة من إنجيل برقوق، وقطعة كوفية مكتوبة على رق من ربعة شريفة وقَفَها عبد المنعم بن أحمد سنة 298 هـ وعلى الوجه الثاني نقش مذهّب باسم واقفها".
فأخذ غليوم ما أخذ من هذه النفائس إهداء باسم السلطان، وأهدى ما بقي منها لعدد من رجال الآستانة، وبعض أعيان ورجال دمشق.
وبعد فترة زمنية تم استرجاع كافة النفائس التي أهديت بدمشق وتم إيداعها دار الآثار بدمشق.
والمتابع لتاريخ نكبات المكتبات بدمشق، يدرك خطورة ما حل بقبة الخزنة على يدي السلطان العثماني، وأننا فقدنا الكثير من تراثنا الثمين, حضن ذاكرة الأمة.

وبعد:
هذه قصة سرقة واحدة، من العديد من السرقات لتراثنا ومكنوناتنا الأثرية قام بها المحتل وبعض من تعاون معه ممن لا ينتمون إلى وطن أو أرض إذ إن ذاكرة الوطن ونفائسه الثمينة والتي هي بمثابة العرض، قد لا تعني للبعض ممن ماتت ضمائرهم شيئاً، وها نحن الآن نعيش فترة أخرى في الوطن العربي وتحديداً بعد احتلال العراق، وما يجري الآن على الساحة السورية من تدمير للبشر والحجر، لقد عانت بغداد منذ بضع سنوات لنهب آثارها وخزائنها ومكنوناتها الأثرية، وأيضاً تعاني سورية حالياً من الأمر ذاته إذ إن كل المحافظات السورية تزخر بمكنونات تراثية ونفائس أثرية تؤرخ لأقدم مدن العالم "حلب" ولأقدم عواصم العالم "دمشق".
لم يختلف الأمر بين العثمانيين والآن من تدمير للبشر والحجر.. حكاية سرقة تراثنا حكاية طويلة قد نبدؤها ولكن لا نعلم متى ستنتهي. ولكن أن نشعل شمعة خير من لعن الظلام، وأمة لا تعرف تاريخها لا يمكن لها بناء مستقبلها.