المغول الجدد وثقافة الأيدي السوداء .. للكتب أرواحها التي تتألم وتؤلم.. الأب سروج: المكتبة ستنتفض «كطائر الفينيق» (2 من 2)

المغول الجدد وثقافة الأيدي السوداء .. للكتب أرواحها التي تتألم وتؤلم.. الأب سروج: المكتبة ستنتفض «كطائر الفينيق» (2 من 2)

ثقافة

السبت، ٢٥ يناير ٢٠١٤

شمس الدين العجلاني

رجل طيب:
مكتبة السائح تقع في زواريب طرابلس القديمة في بناء أثري من زمن العثمانيين، لها بوابة كبيرة من الخشب، الداخل إليها يستقبله من جهة اليسار عامل المكتبة القابع وراء جهاز الكمبيوتر ليقدم خدمات للزائر.
 المكتبة تراثية تاريخية تجارية، تبيع الكتب والمخطوطات، وكل ما تحتويه المكتبة تقريباً مؤرشف على الكمبيوتر، وصاحبها الأب سروج الذي يقولون عنه إنه ثائر ومثقف بليغ وصاحب لغة عربية متينة وخطابي متأصل، تعرفه كل منتديات المدينة واحتفالاتها. رجل عاش عروبته مناضلاً، هو رجل ملتح، يعصّب رأسه بلفة سوداء، لا يهتم بمظهره الخارجي، يضع نظارة سميكة. ينتقل بين الكتب والأرشيف والوثائق ويعرفه كل أهالي طرابلس فهو دائم التنقل بين أحياء وزواريب طرابلس بين جبل محسن والتبانة والبقار والأمريكان في طرابلس.. يلقي التحية على المارة والجيران ويصافح هذا وذاك، التحية التي يلقيها يعرفها كل الجميع وهي تحية الإسلام، حتى كانوا يتبادلون القول عنه على سبيل التندّر إنه «مسلم أرثودوكسي»، إنه رجل طيب متواضع في ملبسه ومأكله وصداقاته، تصفه إحدى الصحف اللبنانية بالقول: "شهادات أهل المدينة بهذا الرجل الهادئ والرصين، صاحب الوجه الصارم والمتبسم في آن، تكاد تكون واحدة: آدمي وأبو الفقراء. رجل دين يكاد يكون الوحيد الذي يقضي وقته في شارع قديم ويمشي في الأزقة ويأكل مع الناس. يعرفه الحلاقون وبائعو السوس والخرنوب والكعك وماسحو الأحذية وأصحاب الأرزاق الصغيرة والمحال الضيقة.. في زواريب منسية من طرابلس".
الأب إبراهيم سروج ابن سورية ابن مشتى الحلو، قدمت عائلته إلى طرابلس الشام في الأربعينات من القرن الماضي، نشأ في منطقة القبة على مقربة من مسجد البقار, بمعنى أنه ينام ويصحو على صوت الأذان، وحول نشأته يقول الأب سروج لإحدى الصحف الطرابلسية: "إن حبي للمسلمين كان ولا يزال منذ الصغر وكنت أستقي الماء من الجامع, تلقيت علومي في مدارس الفقراء والمساكين كنت ولا أزل أعيش بين إخواني المسلمين تحت مقولة «ارفع رأسك أيها العربي». نحن لا نعرف قيمة الفرح إلا بعد الحزن, طبعاً أنا أحزن على هذه الأمة المدعوّة أن تكون خير أمة أخرجت للناس أن تتحوّل إلى «النحس» وذلك حسب الإحصائيات والتي تشير إلى تأخّر الشعب العربي، مع العلم أن لدينا الكثير من العلماء في كل دول العالم. حرام علينا الإساءة لرب العالمين والذي منحنا الكثير من الطاقات الإيجابية".
الأب سروج هو كاهن رعية مار جاورجيوس الأرثوذكسية في طرابلس، وهو دائماً إلى جانب كتبه وكهنوته يبرع في كتاباته المتنوعة ويقوم بنشرها في الصحف الطرابلسية. وحين علم الأب سروج بإحراق مكتبته أدلى بحديث إلى الصحافة الطرابلسية قائلاً: "أشكر الذين أطلقوا الرصاص في مكتبتي والذين قاموا بحرق مكتبتي، كونهم فتحوا الباب أمام شرارة الإيمان لتنطلق, وأقول إننا منذ وقت قريب احتفلنا بعيد «الغطاس» وكان فرحة كبيرة بالنسبة لي هم أمطروا عليّ بركات «رب السماء والأرض» وسأعمل على كشف الغمامة عن عيونهم ليكونوا مسؤولين وعاملين على هدي كتابهم وسنّة رسولهم".

سيرة مكتبة:
أسس آل سروج في السبعينات من القرن الماضي في طرابلس الشام مكتبة صغيرة عبارة عن غرفة واحدة ضمت في البداية عشرات الكتب فقط وشيئاً فشيئاً تطورت هذه المكتبة على يدي ابنها إبراهيم سروج لتصبح مكتبة السائح أحد الصروح الثقافية وحاضنة للفكر والإبداع في كل ميادين العلم والأدب والسياسة ومنارة ثقافية لأبناء طرابلس وزوارها..
تقع مكتبة السائح وسط طرابلس القديمة، في زقاق الحجارين المتفرع من شارع عبد المجيد مغربي جانب الجامع المنصوري الكبير القريب من دخلة سوق الذهب. وتشغل مبنى أثرياً كان فيما مضى ثكنة عسكرية للجيش التركي، قبل أن يتحوّل إلى مستودع لمواد البناء حتى أربعينيات القرن الماضي فترة قدوم عائلة سروج من مشتى الحلو إلى طرابلس.
المكتبة تجارية وعريقة، وهي عبارة عن بيت عربي كبير له باب خشبي عملاق وجدرانه يتجاوز ارتفاعها أربعة أمتار، ولهذا البيت أرض ديار كبيرة استغلها الأب سروج في وضع الكتب والمجلات والجرائد التي لم يتم أرشفتها بعد.

وبعد:
حين عمّ خبر إحراق مكتبة السائح هرع أبناء طرابلس ومثقفوها والغيورون والعالمون بقيمة هذه المكتبة الحضارية بمبادرة لإعادة ترميمها وتعويضها عن الكتب التي طالتها نيران المغول الجدد.
حشدٌ من الشباب الطرابلسي ساهم ولمدة يومين بتنظيف المكتبة وتوضيب الكتب التي لم تطلها النيران وجمع التبرعات لترميم المكتبة.
الأب سروج كان رجلاً صلباً تجاه ما تعرض له فيقول: "وما خسرناه يبقى قليلاً مقارنة بما لدينا من كتب، الحقيقة إنه بفضل الله سبحانه وتعالى وجهود المخلصين ستعود مكتبة السائح أفضل مما كانت عليه، المكتبة ستنتفض «كطائر الفينيق».
في السياسة، يدرك العالمون ببواطن الأمور جيداً معنى وأبعاد إحراق مكتبة الأب سروج، في بلد أصبح في مهب رياح الإرهاب المغولي القادم مع التيار الوهابي. لذا أدانت في العلن كل الفعاليات اللبنانية من كل الانتماءات والطوائف إحراق المكتبة. لأن النيران التي أضرمت بمكتبة السائح كانت تقصد إحراق تاريخ تكتنزه مدينة طرابلس، التي يسعون لأن تكون جمراً تحت الرماد.
لقد أراد المغول الجدد إهانة الأب سروج ومكتبته وهذا ما حصل مع الأسف، فقد أهين إبراهيم سروج على أيدي زعران مرتزقة يعتنقون تعاليم الوهابية وأسيادها في لبنان، فلم يستطع أحد من جيران المكتبة من ردع هؤلاء المرتزقة ومنعهم من إحراق المكتبة؟! والقوى الأمنية حققت مع الأب سروج المجني علية ونهته عن التصريح؟! ولم تحقق مع المجرم الحقيقي المعروف لكل أهل طرابلس؟! لقد كان من الأَوْلى أن تقوم طرابلس عن بكرة أبيها لإحاطة مكتبتهم بأجسادهم وحمايتها من التتار، لأن الأمر متعلق بذاكرة مدينة وشعب، والتتار الجدد يسعون لإلغاء صورة حضارية ونموذجية لرجل دين سوري لبناني مشرقي منفتح يعيش مسيحياً في حضن وكنف الإسلام.
الوفود التي زحفت إلى دار مطرانية الروم الأرثوذكس متضامنة مع الأب إبراهيم سروج مستنكرة الاعتداء عليه وعلى كتبة، لا تسمن ولا تغني من جوع طالما التتار والمغول الجدد يسرحون ويمرحون على مرأى ومسمع من أسيادهم؟!
( إذا لم يُمَطِ اللثام عن الأيدي السوداء التي أوقدت نيران حقدها بمكتبة السائح، فانتظروا أن تزحف ألسنة النار إلى عقولنا.. لا مذهب للظلامية، ففيها كل المذاهب سواء. " د. محمد أحمد شومان")، (من لديه عقل شمولي وإلغائي ضد ثقافة الآخرين كتباً، وصحافة، وفكراً وجسداً، يكذب حين يتضامن مع الأب سروج، هو يكذب على نفسه أولاً وليس على الآخرين.. التضامن ضد حرق المكتبة المتنوعة الثقافات والأفكار لا يكون إلا من قِبل أحرار العقل. " الدكتورة جمال قرى").
يبدو أن مدننا العربية منذورة للعنف الوهابي ويوماً بعد يوم تنكشف حقائق مذهلة وينكشف القناع عن ثقافة الأيدي السوداء القادمة مع المغول الجدد..
ولكن للكتب أرواحها التي تتألم وتؤلم وستنتفض المدن المقهورة «كطائر الفينيق».