العراقة والطرفة وسرعة البديهة عند فارس الخوري

العراقة والطرفة وسرعة البديهة عند فارس الخوري

ثقافة

السبت، ٢ نوفمبر ٢٠١٣

شمس الدين العجلاني 
alajlani.shams@hotmail.com
تعتبر التجربة النيابية (البرلمانية) في بلاد الشام في العصر الحديث، من أولى التجارب البرلمانية في المنطقة العربية، فحين كانت بلادنا تنعم في أول برلمان لها عام 1919م لم تكن العديد من الدول العربية قد وُجدت على الساحة السياسية، فمثلاً دولة قطر التي ترفع الآن شعار الديمقراطية، فهي دولة ظهرت على الخارطة السياسية في الثالث من شهر سبتمبر/ أيلول من عام واحد وسبعين (1971)، وحتى الآن ليس فيها برلمان منتخب إنما هنالك مجلس الشورى الذي تم تشكيله لأول مرة في عام 1972م، وتقتصر مهامّه على بحث الشؤون السياسية والإدارية والاقتصادية التي يحيلها إليه مجلس الوزراء. وفي عام 2003 تم وضع أول دستور لها. في حين أنشئ ما يسمى مجلس الشورى السعودي عام 1992، وعُيّن أعضاؤه من قبل الملك، ومهمته إبداء الرأي في السياسات العامة للدولة والتي تحال إليه من رئيس مجلس الوزراء، وليس هنالك دستور سعودي حتى الآن إنما يوجد النظام الأساسي للحكم والذي صدر عن ملك آل سعود عام 1992، وما يسمى السعودية ظهرت على الخارطة السياسية عام 1932م!!
في حين شهدت بلادنا انتخاب أول مجلس نيابي (برلمان) لها عام 1919 تحت اسم المؤتمر السوري، وكان يضم مندوبين منتخبين من سورية الطبيعية (سورية بحدودها الحالية ولبنان وفلسطين والأردن) وافتتح في النادي العربي بدمشق بتاريخ 7حزيران 1919م، وتتالت بعد ذلك المجالس النيابية في سورية تحت تسميات مختلفة (المجلس التأسيسي– الجمعية التأسيسية – مجلس النواب – المجلس النيابي– مجلس الشعب)، ووضع هذا المؤتمر أول دستور للبلاد واستمع لأول بيان وزاري وأعلن استقلال سورية في 8 آذار 1920 واستمع إلى خطاب العرش بعد تسميته للأمير فيصل ملكاً على سورية ورفض إنذار غورو.
الحياة البرلمانية والديمقراطية عريقة في بلادنا، ومرّ على البرلمان السوري رجال أشداء وطنيون، لم يدّخروا جهداً أبداً في خدمة الوطن والمواطن، وتمتع العديد منهم بدرجة عالية من الحسِّ الوطني والقومي إضافة إلى الطرافة وسرعة البديهة في وقت كان هؤلاء الأعراب يلهثون وراء البعير، وجلّ مبتغاهم الحصول على تمرة أو قطعة خبز. وهنا نموذج من واقع الطرافة وسرعة البديهة والعراقة لفارس الخوري أحد أهم سياسيي سورية. هذه المواقف الطريفة لفارس الخوري تعبِّر عن شخصية سياسية فذة وفكر منير لشخص أبيّ قلّما نجد مثيلاً له بين السياسيين.

إدارة الجلسات
ترأس فارس الخوري مجلس النواب السوري لأول مرة خلال الفترة من عام 1936 إلى 1939، ومن 17-8-1943 إلى 16-10-1944، ومن 16-9- 1945 إلى 22-10-1946، ومن عام 1947 إلى عام 1949م.
كان الخوري رجل دولة وسياسة وحنكة علمية، وبارعاً في عراقة وتقاليد الحياة البرلمانية، ويصف الشيخ علي الطنطاوي (1909 – 1999) براعة فارس الخوري في رئاسة مجلس النواب فيقول: "..كانت رياسته عجباً من العجب، وكان الوافدون على دمشق لا يريدون إذا رأوا جامع بني أمية، والربوة، وقاسيون، إلا أن يروه على منصة الرئاسة، ليحدثوا قومهم إذا رجعوا إليهم، بجليل ما رأوا وما حضروا..
كان النواب بين يديه كالتلاميذ، بل أن أكثرهم كانوا تلاميذه فعلاً، وكان يصرّفهم تصريفاً لا يوصف ولا يكتب على الورق، وما هم بالذين يصرفون أو يسيّرون...
وإن فيهم لكل يافعة داهية ذرب اللسان، حديد الجنان، آفة من الآفات، يطيح بالحكومات، وينسف الوزارات، ولكن الحدأة تسطو على العصافير، فإن قابلت النسر المضرحي عادت هي عصفوراً.
وكانت تشتبك الآراء وتتداخل المقترحات وتشتد المنازعات، وتثور الحزبيات، فما هي إلا أن يتكلم ويلخص، ويجمع الشتيتين، ويصب على جمرة الغضب سطل ماء، ويستل الرأي الموافق من بين الآراء المشتبكة، سلَّ الشعرة من العجين، ويعرضه للتصويت، وكان له في هذا العرض (فن)، ما تنبه له الناس إلا بعد حين، هو أن في النواب من لا يشتغل حتى ولا يرفع اليد، ولا ينال الأمة منه إلا حضوره الجلسة، وقبضه الراتب. وكان يعرف هؤلاء، فتارة يقول (الموافق يرفع يده) فيكونون من المخالفين، وتارة يقول (المخالف يرفع يده) فيكونون مع الموافقين، يكف بذلك من جموح الأكثرية، ويقوّم من اعوجاجها..؟!"

 

حضرات النواب المحترمين:
من المعلوم أن مجلس النواب كان يضم العديد من نواب العشائر السورية، وكان عدد من هؤلاء النواب شبه أميين، لا يعرفون القواعد البسيطة للغة العربية، وفي إحدى جلسات مجلس النواب التي كان يترأسها فارس الخوري، طلب أحد هؤلاء النواب الحديث، فأذن له رئيس المجلس، فوقف مبتدئاً حديثه بقوله: (حضرات النواب المحترمون), فقال له فارس الخوري مصحِّحاً يجب القول: (حضرات النواب المحترمين).‏ فأعاد النائب نطقها بالشكل الصحيح, ثم تابع قوله: (كان النواب المحترمين), فقاطعه فارس الخوري, وصحّح له مرة أخرى بقوله: الصحيح (كان النواب المحترمون).‏ فثارت ثائرة النائب وصاح محتجاً باللهجة العامية:‏ - ليش هيك متحطّط عليّ يا دولة الرئيس?‏ لما قلت (المحترمون) صححتها لي إلى (المحترمين) ولما قلت (المحترمين) قاطعتني وقلت: (المحترمون).‏
فهل تريدني أن أقول (المحترمون) أم (المحترمين)?‏ فردّ عليه رئيس مجلس النواب فارس الخوري ضاحكاً:‏ (لست أنا من يريد وإنما سيبويه هو الذي يريد).

فصل ناقص
في إحدى جلسات مجلس النواب التي كان يترأسها فارس الخوري، عرض مشروع قانون على المناقشة العامة وكانت مواده كثيرة، وطال النقاش حول إحدى مواد القانون من مؤيد لها أو معترض عليها، وهنا (ضاق خلق) أحد النواب من نقاش هذه المادة، وتفتقت أفكاره إلى اقتراح؟ فطلب من رئيس المجلس الحديث، ولما أذن له قال: يا دولة الرئيس، أقترح على مجلسنا الكريم حذف هذه المادة لحل المشكلة وإنهاء النقاش!
فردّ عليه فارس الخوري إنه لا يمكن حذفها, لأن عدة مواد في القانون تستند عليها, فنظر النائب متعجباً وقال: إذن أحذف الفصل بكامله من مشروع القانون, وخلصنا من هذه المناقشة!؟ فحبكت الضحكة على فارس الخوري، وردّ سريعاً على النائب قائلاً:‏ لا بأس.. ولكن سيكون حذف الفصل فصلاً ناقصاً من المجلس أمام الحكومة.‏

التلميذ والأستاذ
 اشتهر الزعيم الوطني فخري البارودي بظُرفه ونوادره وكان أحد ظرفاء الشام، ومما يروى عنه، إنه في عام 1928 انتسب إلى معهد الحقوق (في مبنى وزارة السياحة حالياً) وكان آنذاك نائباً في مجلس النواب السوري, وكان أستاذه في المعهد فارس الخوري الذي كان في نفس الوقت رئيساً لمجلس النواب.‏‏
وفي نهاية العام الدراسي دخل فخري البارودي إلى قاعة الامتحان كي يقدم الامتحان الشفهي أمام أستاذه في المعهد ورئيسه في مجلس النواب فارس الخوري, وتقدم البارودي إلى المنصة الرئيسية فوجّه إليه فارس الخوري السؤال التالي: 
- ما هو الجنون... وما تأثيره على مسؤولية فاعل الجرم?‏‏
وشعر فخري البارودي أن فارس الخوري يقصده بهذا السؤال ويريد إحراجه، فرد البارودي بكل هدوء على أستاذه ورئيسه:‏‏ يا سيدي: الجنون هو أن يأتي مثلي بهذه السن (وكان عمره آنذاك يقارب الأربعين) ونائباً في مجلس النواب ويعمل حاله تلميذاً ويعملك أستاذه... والسلام عليكم، ‏‏فضحك فارس الخوري، وخرج البارودي خارج قاعة الامتحانات، ولم يعد إليها أبداً، وترك منذ تلك الحادثة الدراسة في معهد الحقوق وهو في عداد طلاب الصف الثاني. ولم يكمل البارودي دراسته فيه، إلا أنه استمر صديقاً لفارس الخوري خارج معهد الحقوق.