اغتيال عبد الرحمن الشهبندر(1-3)

اغتيال عبد الرحمن الشهبندر(1-3)

ثقافة

السبت، ٢١ أبريل ٢٠١٢

من أشهر وأعقد الاغتيالات السياسية في سورية، والتي لم تحل خيوطها كافة ولم يزل يكتنفها الغموض، هي جريمة اغتيال المفكر والمجاهد الوطني عبد الرحمن الشهبندر، التي هزت حينها أركان المجتمع السوري والعربي بكل أطيافه وألوانه، ووضعت الحركة الوطنية السورية وزعماءها آنذاك في لائحة الاتهام، وغيبت عن الساحة الفكرية والسياسية والنضالية شخصية من أهم الشخصيات الوطنية التي كان بمقدورها تغيير مجرى الحياة السياسية لسورية.
تعتبر قضية اغتيال الشهبندر من القضايا الجنائية التي أخذت طابعاً سياسياً، بسبب موقف الشهبندر المعارض والشرس من الاستعمار الفرنسي ورموزه، وموقفه من المعاهدة الفرنسية ـ السورية عام 1936، وانتقاده لها بشدة متهماً رجالات الكتلة الوطنية بأنهم بالغوا بدعاياتهم حولها وخدعوا الشعب عن مطالبته الوطنية في السيادة الصحيحة والوحدة التامة. وكان من تداعيات اغتيال الشهبندر، استقالة رئيس الكتلة الوطنية، واستقالت الحكومة، وانشقاق الشارع السوري بسبب توجيه أصابع الاتهام إلى الكثيرين من السياسيين من رجالات الكتلة الوطنية، والتحقيق معهم وهرب بعضهم خارج سورية، وعلى الرغم من تبرئتهم في نهاية المطاف، مازالت الريبة تحوط سلامة التحقيق بالشكوك إلى الآن ومازالت الآراء تتضارب حول من هو القاتل وما هي دوافع هذه الجريمة هل هي دوافع دينية أم سياسية.!؟
من هو الشهبندر:
هو عبد الرحمن صالح الشهبندر، سياسي ومفكر ومجاهد سوري، ولد بدمشق في 6 تشرين الثاني سنة 1879م، وتلقى علومه بدمشق وبيروت، تزوج عام 1910 من سارة العظم ابنة العائلة المعروفة بدمشق على الصعيد السياسي والاقتصادي مما جعل له دوراً أكبر في نشاطه السياسي، ونفوذه الاجتماعي أيضاً، ورفعه إلى واجهة الأحداث الكبرى مدعوماً من عصبية عائلية لها وزنها في المجتمع الدمشقي والسوري. حارب الشهبندر الاحتلال العثماني والانتداب الفرنسي، وبعد خروج العثمانيين من دمشق عام 1918 وإعلان استقلال البلاد السورية عام 1920، عُين وزيراً للخارجية في وزارة هاشم الأتاسي في 3 أيار عام 1920، ولعب الشهبندر دوراً كبيراً أزعج وأقلق سلطات الانتداب حين قدمت إلى دمشق لجنة كينغ - كراين لتقصي الحقائق بشأن مستقبل سورية الكبرى بعد سقوط الدولة العثمانية، كما كان له دور معادٍ من اتفاقية عام 1936 التي أبرمت مع الاحتلال الفرنسي، ولم ينسَ المستعمر دوره في الثورة السورية الكبرى عام 1925م..
بعد دخول المستعمر الفرنسي سورية في تموز عام 1920، غادر الشهبندر سورية إلى القاهرة، وعاد إليها بعد عام وأخذ ينشط في مقاومة الاحتلال الفرنسي. ونتيجة لنشاطه السياسي والوطني تعرض للعديد من الملاحقات والسجن والنفي، وحُكم عليه بالسجن عشرين عاماً، والنفي إلى بيت الدين (في لبنان)، ثم إلى جزيرة أرواد، وبعد تسعة عشر شهراً صدر العفو عنه. ولما غادر السجن سافر إلى أوروبا وأمريكا لينشط على الساحة السياسية هنالك في الدفاع عن البلاد السورية فكان من أوائل الزعماء السوريين في تلك البلاد، يطرح القضية الوطنية السورية، ويشرح إرهاب المستعمر الفرنسي ونهبه لثروات البلاد.
عاد الشهبندر إلى دمشق في تموز من عام 1924، ليستمر في مقاومة الانتداب الفرنسي فعمل على تأسيس حزب سياسي هو حزب الشعب وتولّى رئاسته، وأطلق على الشهبندر أثناء ذاك لقب الزعيم الوطني.
وعند انطلاق الثورة السورية الكبرى ضد الاستعمار الفرنسي عام 1925 كان الشهبندر من عداد ثوارها حتى قيل إنه كان العقل المدبر لهذه الثورة.
اغتيل الشهبندر وهو في عيادته بدمشق في منطقة الشعلان وهو يمارس عمله الإنساني، وكان ذلك صبيحة يوم السادس من تموز سنة 1940.
الاغتيال:
أفاقت دمشق صبيحة يوم السادس من تموز سنة 1940على نبأ اغتيال الدكتور عبد الرحمن الشهبندر، فقامت عن بكرة أبيها مستنكرة هذا العمل الوحشي ومودّعة أحد زعمائها الوطنيين، فقد تسلل عدد من الأشخاص على رأسهم المدعو أحمد عصاصة إلى عيادة الدكتور الشهبندر الكائنة في منطقة الشعلان بدمشق والمعروفة حتى اليوم من أهالي المنطقة، بحجة أنهم مرضى ويريدون المعالجة، وقيل إن المدعو عصاصة كان يحمل (سلة بيض) وقد وضع ضمنها مسدّسه الناري، وما إن استقبلهم الدكتور الشهبندر حتى سارع أحمد عصاصة بإخراج المسدس من (سلة بيض) وأطلق على رأس الشهيد عدة طلقات نارية فأرداه قتيلاً على الفور، وتم إلقاء القبض على عصاصة ومن كان معه وأودعوا السجن وجرت معهم تحقيقات مطولة، واختلفت أقوالهم أثناء التحقيق مع أقوالهم أثناء المحاكمة.. وفي المحصلة أعدم المدعو أحمد عصاصة ورُدّت أسباب الجريمة إلى أسباب دينية.؟ فقد اعترف الفاعلون بفعلتهم أمام المحكمة وأن الدافع إليها كان دافعاً دينياً، وزعموا أن الشهبندر تعرض للإسلام في إحدى خطبه، وأنهم فعلوا فعلتهم انتقاماً وثأراً للدين الحنيف. فحكمت المحكمة عليهم بالإعدام، ونفذ فيهم الحكم شنقاً يوم الثالث من شهر شباط سنة 1941.
في حين اتهمت السلطات الفرنسية المستعمرة الكتلة الوطنية في هذه الجريمة وجندت رئيس مجلس المديرين (بمثابة رئيس الجمهورية) بهيج الخطيب للنشاط في هذا المضمار، فاعتقلت حوالي ثمانين من أعضاء الكتلة الوطنية والموالين لها وحققت معهم، ومن ثم اختارت ثلاثة من أهم الشخصيات في الكتلة الوطنية لتحمّلهم مسؤولية هذه الجريمة وهم: سعد الله الجابري، ولطفي الحفار، وجميل مردم بك. وقيل حينها ولم يزل يقال إلى الآن، إن سلطات الانتداب الفرنسي استغلت خلاف الرأي الذي نشب بين الكتلة الوطنية والشهبندر، والحملات التي شنّها في خطاباته على معاهدة 1936، والذين أيدوها، لاتهامهم (الباطل) بجريمة اغتيال الشهبندر.؟ وهذا الأمر اضطر رجال الكتلة الذين أُلصقت بهم التهمة إلى الهروب من سورية للدول المجاورة ريثما تنجلي الأمور، ويتم التحقيق ويظهر الحق من الباطل.!؟
هذه الجريمة النكراء التي غيّبت أهم الشخصيات السياسية السورية كان لها وقع كبير على دمشق وبلاد العرب عامة، فشُيّع جثمانه، ودفن تكريماً له إلى جوار قبر صلاح الدين الأيوبي، قرب الجامع الأموي الكبير.
من القاتل الحقيقي:
ملف قضية اغتيال السياسي والمفكر الوطني عبد الرحمن الشهبندر برغم مرور أكثر من سبعين عاماً عليها لم تزل تكتنفها التشابكات والغموض، وفي هذا الصدد نشرت ابنة جميل مردم بك سلمى مردم بك رواية طبعت أكثر من طبعة (الطبعة الثانية صدرت عام 1994 في بيروت) تحت اسم (أوراق جميل مردم بك - استقلال سورية 1939- 1945) هذه الرواية كما كُتب على غلافها الأخير (غرفت الكاتبة من الأوراق الخاصة بوالدها - المذكرات الشخصية، ومحاضر الاجتماعات، والمفكرات والرسائل - ومن السجلات الرسمية البريطانية والفرنسية لتبعث الحياة بصورة مشرقة، في كرونولوجيا الأحداث، ابتداءً من حكومة فيشي في العام 1939، وحتى قصف دمشق في العام 1945). تعرضت سلمى مردم بك من خلال روايتها هذه بالتفصيل لجريمة اغتيال الشهبندر ودور رئيس مجلس المديرين بهيج الخطيب في اتهام الوطنيين ودور العديد من الشخصيات الفرنسية في ذلك وعلى رأسهم المفوض السامي الفرنسي على سورية ولبنان آنذاك، ووثقت مجريات محاكمة أحمد عصاصة وجماعته واعترافاتهم بالجريمة، وبرأت الكتلة الوطنية ورجالاتها من جريمة اغتيال الشهبندر بالوثائق.
ومع هذه الوثائق الواردة في رواية سلمى الحفار، لم يغلق ملف اغتيال الشهبندر، فيقولون هناك أياد خفيفة وراء الجريمة ولم يكن عصاصة سوى الأداة لتغييب شخصية وطنية مهمة عام 1940 تدعى عبد الرحمن الشهبندر.!؟ وقد كان للسياسي المعروف أكرم الحوراني وغيره آراء مختلفة عن ذلك، فذكروا الأسماء والجهات السورية التي كانت وراء الجريمة...!؟
يتبع


شمس الدين العجلاني - أثينا 
alajlani.shams@hotmail.com