تشكيل.. نبيه بلان في معرضه الاستعادي.. حركة تنقلات بين المواضيـع والتقنيــات..

تشكيل.. نبيه بلان في معرضه الاستعادي.. حركة تنقلات بين المواضيـع والتقنيــات..

ثقافة

السبت، ١٦ يونيو ٢٠١٨

استعاد الفنان التشكيلي نبيه بلان في لوحات معرضه الأخير، أعماله ودراساته الأكاديمية، التي أنجزها بفترة السبعينات في روسيا بمشروع تخرجه ألف ليلة وليلة، ولقد غلب عليها الجو التلويني العفوي والتلقائي، وهذا لم يحد من رغبته في الاتجاه بلوحاته، التي قدمها في مرحلة مابعد فترة دراسته الأكاديمية، نحو العودة الى الرسم الواقعي والتعبيري والرمزي..
وإذا كانت تقنيته الأولى قد ساهمت في حضور الجو الشاعري، فإن تقنيته الثانية لها خاصيتها في إضفاء الكثافة والغنائية عبر تركيب اللمسات والحركات اللونية، وفي كلتا الحالتين انطلق من مشاعر تلقائية وغنائية ووجدانية فقدم الوجوه والاجساد والطبيعة والمواضيع المختلفة، بعفوية وصلت في بعض اللوحات الى حدود التعبيرية القصوى.‏
بين التشكيل والمسرح‏
ومواضيعه في تلك المجموعة ارتكزت على الواقع الشرقي بفولكلوره وروحانيته وسحره البارز والكامن في التأليفات اللونية المسطحة، والتي تحتضن العناصر الإنسانية والزخرفية. وهذا يعني انه في لوحات مشروع تخرجه (الف ليلة وليلة) كان يكثف بحثه عن عوالم السحر الاسطوري، فظهرت في لوحاته دلالات ملوك وملكات الزمن الغابر، ضمن لمسات لونية عفوية، تحمل ملامح من الاتجاهات الفنية الحديثة والمعاصرة، والهاجس البانورامي لم يغب أيضاً عن هذه المجموعة، فهو في هذه اللوحات يتعامل مع الحس الحكائي والمسرحي بشاعرية تعتمد على إبراز حركة الريشة التلقائية. فالشكل المعماري في لوحاته هنا لا يظهر إلا عبر مساحات لونية هادئة، وبذلك فهو يحرك هندسته المعمارية بعيدا عن الدقة الباردة، ويقيم حواراً بصرياً ضمن الخطوط المتعامدة والتي تحصر ضمنها العناصر المعمارية والانسانية والزخرفية.‏
وتبدو ريشته في هذه المجموعة من لوحاته عفوية إلى أبعد الحدود، لأنها قائمة على الارتجال الخطي واللوني في التشكيل والتلوين معاً، في أغلب الأحيان، مع اعطاء أهمية للتسطيح وكسر مفهوم التجسيد أو البعد الثالث.‏
بين الواقعية والتعبيرية‏
وفي جلسات عمله الطويلة في مجال رسم اللوحة المنفذة بعدة تقنيات، ركز لاظهار حركة عاطفية وتطلع ذاتي في بناء اللوحة. وبدت مخيلته اللونية متجهة بقوة لإيجاد علاقات جمالية متزايدة العفوية، لما تحتويه من لمسات لونية تلقائية، وهذه الرؤية المتحررة، للتشكيل والتلوين، التي عالج بها مواضيع واشكاله، أدت إلى تغيير نظرته من الواقعية، نحو اضفاء اللمسة الذاتية، التي تقربه من روح العصر، فالتكوين التبسيطي الذي يعتمده، هو لغة وثقافة حديثة لفن الواقع، وهو الأكثر عفوية وتلقائية وغنائية.‏
هكذا أصبحت المواضيع المختلفة في لوحاته عرضة لتبدلات حالته النفسية، وفيها اقتنص الشاعرية والغنائية والعفوية اللونية والخطية، وذهب أبعد من الإشارات أو المظاهر الخارجية، للجسد او للوجه أو للمشهد الطبيعي والمعماري، وبالتالي وصل إلى الصياغة الفنية في اتجاهاتها المتدرجة بين التدقيق والاختصار، وكل ذلك في خطوات تجسيد المشهد بمنظور قريب من ذاته وعواطفه ومشاعره المتغيرة والمتبدلة.‏
وشكلت بعض لوحاته عودة لجمالية العمارة القديمة والعناصر الأخرى، التي يحولها إلى علاقات خطية ولونية عاطفية، فيعتمد أحياناً على تشكيلات تشبه الأقواس مشكلاً بذلك قباب العمارة وأعمدتها، وفي لوحات أخرى يتجه لإظهار ملامح الإنسان في فضاء المنظر الريفي القروي. وهو يقرب ويباعد بين الكتل اللونية مكثفاً بشكل لافت مساحات اللون العفوي، الذي يؤدي التعبير بحساسية خطية ولونية تتوافق مع التأليف العام للوحة.‏
ولا شك بأن الاختبار الأسلوبي والتقني الذي يعتمده يحول المفردات التشكيلية إلى مجرد حركات لونية في بعض اللوحات، وبتعامله هذا في صياغة عناصر التراث المعماري، وعناصر الطبيعة والأشكال الإنسانية والزهور وغيرها، يضفي انفعالاً مباشراً على حركة الخطوط والألوان بل وينتقل من المعالجة العاطفية، التي يتراخى فيها التأليف الهندسي، ذاهباً إلى عفوية تعبيرية مؤسلبة للوجوه والأشكال الإنسانية والطبيعة القادمة من تأملاته ومشاهداته في روسيا والسويداء وغيرها.‏
تحولات تقنية‏
وهو كثيراً ما يكسر أطراف المساحة الهندسية (وخاصة في لوحاته الحكائية - شهرزاد) وهذا يحد من طغيان العنصر الهندسي العقلاني، ويساهم في بروز الجو اللوني العاطفي، الذي يعمل على إظهار الصياغة العفوية والتلقائية في فراغ السطح التصويري. واستعادة أعمال نبيه بلان تشكل مناسبة للتعرف إلى مهارة فنية مفرطة في داخليتها وحسيتها من خلال إدخاله تأليفات لونية وخطية متجاورة ومتداخلة بحرية وتلقائية، تهدف لتحقيق غايات ومقاصد فنية وثقافية.‏
هكذا نرى في لوحاته قوة في إعادة صياغة العناصر المعمارية والأشكال الطبيعية والإنسانية، حيث يصل إلى درجة من الحساسية الخطية واللونية، القائمة على أسلوب الاختصار، والعمل على إبراز جمالية تشكيلية حديثة، تحافظ على قدرتها التعبيرية عبر ضربات وحركات ولمسات لونية سريعة وقوية في آن واحد.‏
وبذلك تتدرج الحالة اللونية، وتعمل على إظهار التوازن والتوافق بين الشيء الهندسي الثابت والتكوين العاطفي المتبدل الذي يخرج العناصر الهندسية من برودتها وقساوتها وينقلها إلى التعبيرية المبسطة لقول انفعالاته وأحاسيسه الداخلية.‏
وأعماله الفنية الحديثة تأخذ من قبل المختصين تفسيرات وإيحاءات وتأويلات واجتهادات غير متناهية، تتولد في سياق تحليل التشكيلات الحديثة وتداخلاتها العفوية، ولهذا فالنقد التحليلي الذي يرافق أعماله يساهم في إشاعة الاهتمام بالقيم الجمالية التشكيلية الحديثة، وبالتالي يساهم في إزالة مسافات العزلة الخانقة القائمة بين الفن التشكيلي والناس، ولاسيما في مجتمعاتنا العربية.‏