ألبير كامو: أنا أتمرّد إذاً نحن موجودون

ألبير كامو: أنا أتمرّد إذاً نحن موجودون

ثقافة

الأربعاء، ٢٧ سبتمبر ٢٠١٧

«بالفعل ما يتعين مواجهته اليوم هو الخوف والصمت، أما ما يتعين الدفاع عنه، فهو التحاور والتواصل الشامل بين جميع البشر، فالعبودية والظلم والكذب، إنما هي الآفات التي تعوق هذا التواصل وتمنع هذا الحوار، ولأمرٍ كهذا، نحن مطالبون برفض هذه الآفات»، إن كان هذا ما قاله صاحب «الغريب» فإن الدكتورة سوزان عبد الله إدريس في كتابها «مشكلة الإنسان في فكر ألبير كامو» تُعزِّز حواراً فلسفياً وتواصلاً شاملاً شفيفاً مع القارئ، إذ تطوف على آراء صاحب «الطاعون» مُقارِنةً إياها مع أفكار بعض نظرائه من الفلاسفة والأدباء بطريقة شائقة تأتي احتفاء فكرياً بقائل «أنا أتمرد إذاً نحن موجودون» من خلال عدة موضوعات منها العبث، العدمية، الحرية، التمرد، الفن، وغيرها.
فبعد أن نتج مفهوم العبث في العصور الوسطى من المفارقة بين قطبي الوجود (الإله، والإنسان)، في ظل قدرة لا متناهية للإله عجز الإنسان عن فهمها فبقي مستسلماً وخاضعاً لها، جاءت العصور الحديثة حيث الطاعة للآلة ليتجسد الوضع بطرق مختلفة: عند ديكارت عبر الفصل بين الذات والموضوع، بينما شوبنهور وجد في معالجته للعبث أن الحياة مضحكة ومع ذلك فضحكها يسبب البكاء، والإنسان لا يتخلص من الألم إلا بمواجهة ألم جديد أعظم منه، في حين نادى نيتشه بالعدمية ومقولة «قتل الإله» حين قال: «إن الإنسان اليوم يصيبنا بالكلل. وما العدمية إن لم تكن كناية عن هذا الكلل نفسه؟.. لقد تعبنا من الإنسان»، في حين أن كيركجارد اهتم بالصراع والتمزق بين الأمل واليأس، بين القلق والطمأنينة، بين المتناهي واللا متناهي… فها هو يقول: «ما زال هناك شيء من العزاء في التفكير بأن الإنسان كان قادراً على تلقي المصيبة»، بينما يُرجِع هيدجر العبث إلى الصراع الناشئ بين الوجود والعدم، وهو عند سارتر ناتج عن فكرة وجود الإنسان الذي ألقي في الوجود بلا إرادة أو اختيار، إذ يقول: «أنا زيادة على الأبدية» مُشبهاً نفسه بـ«الغثيان» الذي كتب عنه، أما في نظر كامو فيتحول الزمن إلى عدو شرير للإنسان، يولد لديه عدداً من التناقضات، فهو يحيا في الزمن ويعرف أنه عدوه، ومع ذلك لا يمتنع عن التطلع إلى الغد الذي يهابه ويرفضه بكل كيانه، وهذا ما يؤدي إلى توليد العبث.. وفي نظره الحياة تجربة فاشلة خاضها الإنسان بلا إرادة منه، وسينهيها كذلك على الرغم منه، لذا يتولد العبث من عدم القدرة على تفسير الحياة، وبجهده العقيم للقيام بذلك يتحدى قدره، ويحتقره في الوقت نفسه، وهذا ما يحقق له السعادة، ويعبر كامو عن ذلك بقوله: «يجب على المرء أن يتصور سيزيف سعيداً»، بمعنى أن العبث لديه يتولد من التقابل بين رغبة الوعي في الفهم والوضوح والعالم المستعصي على الفهم.
أما ما يتعلق بالعدم فيرى كيركيجارد أنه يتولد نتيجة الاختيار الذي تفرضه الحرية، بينما تتجلى عند نيتشه في القيم السائدة التي تسلب الإنسان حريته وتعمل على تقييده أو تظهر من خلال رؤيته حول مقتل الإله، إذ تفقد هذه القيم مكانتها فلا يعد هناك أي قيم، في حين يطرح كامو العدمية في مسرحية كاليجولا التي تدل على العدم المطلق، إذ يقلب بطل المسرحية القيم رأساً على عقب ظناً منه أنه يمارس حريته المطلقة المجنونة، فهو ينكر الآلهة والبشر، وجميع العواطف الإنسانية، والقيم الأخلاقية، ينكر الحب والصداقة، الخير والشر، والآخرين، ويسعى إلى تهديم ونفي كل شيء لكنه يصل إلى ذلك بنفي ذاته أولاً، فعدميته تظهر عندما يواجه عبث الوجود بعبث أقوى منه، فيقاومه بانتهاك كل القيم المقدسة التي وضعها في رأيه «المشرعون البلهاء»، فيسير بجنون نحو المستحيل الذي يمثل الخلود.
مثال آخر عن الإنسان العدمي في فكر كامو يتجسد بـ«الغريب» فهو القلق العاجز عن مجاراة مجتمعه وقوانينه، ثائر فيه على العدالة، ولاسيما في لحظة مواجهته الموت، ما يحقق اغترابه بأجلى صوره. فالاغتراب في فكر كامو هو أحد الأسباب المؤدية إلى الشعور بالعبث الذي ينشأ من عدم قدرة الإنسان على فهمه، والتكيف معه، فيغدو كل شيء غريباً عنه وكأنه يعاديه ويبتعد عنه، تعزز ذلك «اللغة» التي يتواصل من خلالها الناس بعضهم مع بعض. من جهته ينظر هيجل إلى أن الحرية تتجلى عند امتلاك الإنسان ذاته، أما الاغتراب فهو على النقيض انفصال الإنسان عن ذاته وعن الآخرين، نتيجة ضياع حريته منه. بينما يردّ إريك فروم الاغتراب إلى طبيعة العلاقة بين الإنسان والمجتمع ولاسيما المجتمع الصناعي الحديث الذي غزته الآلة.
توضح سوزان إدريس أن كامو ينظر إلى المنتحر على أنه الإنسان اليائس الذي عجز عن نفي العالم بكل ما فيه من عبث وزيف وفوضى فيقوم بنفي نفسه بإرادته، وهو بهذا يلغي كل قيمة للحياة، فتسويغ الانتحار سواء باعتباره مفراً أو لكون الإنسان يستخدم حريته، يناقضه صاحب «الموت السعيد» بأن ذاك المرء بذلك ما إن يستخدم حريته حتى يهدمها وينفيها بنفيه ذاته، فالانتحار بمثابة المحاولة الفاشلة في استرجاع الإنسان حريته الضائعة منه. لذلك يُعارض كامو كيركجارد بوصفه غير أمين على العلاقة بين لا معقولية العالم وحنين العقل إلى الفهم، فهو عندما يدرك استحالة الهروب من اللا معقولية، يسعى إلى إنقاذ نفسه من هذا المطب اليائس بالالتجاء إلى الدين، فاللا معقول يؤدي إلى اليأس، لكن اليأس عند كيركجارد مجرد حالة تتجسد بالخطيئة. كما يوجه كامو نقده إلى ياسبرز لأنه يلجأ إلى الانتحار الفلسفي عندما يتجه إلى عالم الغيب، ليؤكد أن ما وراء الحجب هو اللا جدوى، فيجعل من اللا جدوى بمثابة إله ما.
تقول الدكتورة سوزان: «ربما يعود رفض كامو للانتحار الجسدي أنه يقوم بإلغاء أحد عنصري التجربة العبثية؛ الوعي أو الذات، بمعنى أن الانتحار يقضي على الوعي، أما الأمل فيقضي على العبث في حد ذاته ويُبقي على الوعي، وبهذا يحرم الوعي من موضوعه الذي هو العبث، فلا يبقى لدى كامو حل للعبث سوى التمرد الذي يدفعه إلى ذلك الوعي بالعبث. لذا إذا أراد الإنسان أن يحيا فعليه أن يزيد من استمتاعه بالحياة وأن يسمح للعبث بأن يعيش».
تسخير العبث واللا معقولية بدل التخلص منها أو الهروب، مع الإبقاء على الوعي إزاء عبثية الوجود هو ما توصل إليه صاحب «أسطورة سيزيف» لأن الوجود كله في حد ذاته ليس سوى تقليد للاجدوى، من هنا يرى كامو أن مهمة الفن هي تغيير العالم والإنسان معاً، بالاتكاء على التمرد بوصفه خلاقاً ومبدعاً، مع استبعاد الثورة لأنها تبيح كل شيء، وتحت هذا الشعار يبدأ تاريخ «العدمية المعاصرة»، فالثورة «ترضى بالعبودية» حسب توصيف كامو ولذلك يعدها عدمية، ولاسيما في عالم غير متوازن ما جعله يؤكد أن «الحرية المطلقة تهزأ بالعدالة، والعدالة المطلقة تلغي الحرية وتقضي عليها»، لذا يطالب بالعدالة النسبية التي تحترم الحرية وتعمل على صيانتها ونشرها.