التشكيلية لينا شديد ترصد تقلبات الضوء واللون مخزون بصري غني ومهارة في تقنيات الأعمال

التشكيلية لينا شديد ترصد تقلبات الضوء واللون مخزون بصري غني ومهارة في تقنيات الأعمال

ثقافة

السبت، ٢ سبتمبر ٢٠١٧

«قبل كل خريف من عمري أعود إليها لأُضيف أوراقاً جديدة، كي تصبح أجمل..» ذلك ما تتحدث به الفنانة التشكيلية لينا شديد عن إحدى لوحاتها التي كان في ظنها أنها أنجزتها منذ ثلاث سنوات. ذلك أن الفنانة الشديد, التي أوقفت جلّ شغلها التشكيلي لتُقدم على مسرح البياض مختلف تلوّن الطبيعة وألوانها تماماً كما هذه الطبيعة التي لا تُقدم نفسها بصورة واحدة، وإنما دائماً ثمة إضافات في كل مرة، سواء مع تبدل الضوء بين أشفاقٍ وأغساق، أو في عزّ الظهيرة، تلك المراحل الزمنية التي تتلون بدورها وتختلف بين فصلٍ وآخر.
ضوء وهواء
ذلك الكنز من الانطباعية التي تُركز من خلالها على الضوء بالدرجة الأولى، وعلى هواء اللوحة – نعم هواء اللوحة، ذلك أن متلقي لوحة لينا شديد لابد سيشعر بهواء اللوحة يُداعب وجهه، فلوحة شديد ليست طبيعة صامتة بل تسعى, ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً, لأن تنقل حركة ما، تُصرُّ على وجودهافي اللوحة, بمعنى ثمة مسرحة في التكوين التشكيلي الذي تُنجزه شديد في لوحتها, مسرحة أقرب لاحتفالية بكل هذا الغنى اللوني الذي تفعمُ به مساحة اللوحة، ومن هنا هذا الشعور سواء الذي ينتاب الفنانة، أو يوحي للمتلقي بأن اللوحة أو العمل التشكيلي الذي تُنجزه ضمن أبعاد اللوحة يُمكن الإضافة إليه بمعنى أن اللوحة عند الفنانة شديد لا تنتهي بإطاراتها تماماً كما حكايا ألف ليلة وليلة، تلك الحكايا التي تتناسل وتتوالد من رحم الحكاية الأولى. فلولا الضوء لا يوجد شكل، الضوء الذي يُحدد الشكل، ويُحدد علاقة أي حجم، ومسألة الضوء واللون هما علاقة القسم الآخر المُكمل من التكوين العام في فضاء اللوحة. تسعى الفنانة إلى الضوء، لأنه حياة، ولا يُمكن العيش في الظلام، أو حتى في الرماديات، الضوء يُعطيها كل ألوان الكون، ولاسيما من ألوان الفصول: ربيع وخريف، صيف وشتاء. الضوء الذي لا يبقى على إيقاع واحد خلال النهار وإنما يتبدل ليُعطي كثافة في الألوان، وفي تعددها مانحاً خيارات لا تنتهي.
شجرة الغواية
هنا أيضاً ثمة شجرة لاتكلُّ أبداً عن المزيد من الأغصان الجديدة، من هنا تبدو كل هذه الحيوية التي تُبديها الألوان الراقصة المُفعمة في توهجها. هذه الشجرة التي ستكون الشخصية المحورية لكل القصص اللونية للفنانة شديد، الشجرة التي سيحتمي بفيئها كل هذا التنويع اللوني الذي تهفو إليه نفس الفنانة، وشكّل لها غواية لونية على مدى شغلها التشكيلي، هنا وبهذا الفرح الذي تشعُّ به لوحة شديد وكأنها تعمل بنصيحة رينوار، الذي عانى الفقر والألم في بداية حياته، ومن ثم كانت لوحاته تضج بالحياة والتفاؤل، قائلاً: يجب أن تكون اللوحة مُعبّرة توحي بالفرح والسعادة والجمال، فهناك ما يكفي من الأمور المزعجة في هذه الحياة. هنا تبدو لوحة شديد وكأنها صرخة في وجه كلّ هذه البشاعة والخراب، وعلى الرغم من أن الفنانة شديد اتخذت من دنيا الاغتراب إقامة لها غير أنها من عائلة الفنانين السوريين الذين حملوا سورية في داخلهم ورحلوا، من هنا فإن البيئة السورية هي التي تُشغل بها تكوينات لوحتها، ليس معنى ذلك أن الفنانة شديد تُصوّر واقعياً أو تسجيلياً تلك الطبيعة الطافحة بمختلف الأحاسيس، بل ثمة حالات إنسانية يُمكن للمتلقي تأويلها في قراءته لعناصر لوحة الفنانة، وإذا كانت الفنانة تأخذ برأي رينوار لجهة إصرارها على فرح اللوحة، غير أنها تُخالف ما ذهب إليه فان غوغ عندما قال يوماً: «من جهتي لا أعرف أي سبيل آخر سوى العراك مع الطبيعة لغاية أن تفضي لي بسرها» ذلك أن شديد لم تحتج للعراك مع الطبيعة لتُفضي إليها بأسرارها، هنا كانتا – الطبيعة والفنانة- أشبه بصديقتين، كلّ منهما تبوح للأخرى بأسرارها، ولذلك لا تسعى كما تفعل الكاميرا لاصطياد المشهد الخلوي وتثبيت اللحظة الهاربة، بل تُعطي اللحظة الهاربة ملاذاً لتأخذ حريتها في الحركة، وهذا ما توحي به اللوحة المشغولة بالضوء والهواء لإظهار هذه الحركة أو الاحتفالية اللونية. هنا الأشجار والزهور ليست مجرد أشكال في لوحات الفنانة، وإنما هي شخوصها وأناسها، وسعيها ورسالتها اللونية في أن نكون مثل الورود ولدينا عبق إنساني، أي لم تذهب للشخصية الإنسانية لتناولها مُباشرة، بل تقديمها بهذه الحالة الزهرية، وهو حلم الفنان بأن يصل بالإنسان لهذه الحالة الوردية، وتخليصه من كل هذه الشراسة التي تكمن في داخله… ترسم الطبيعة كابتهالٍ، أو توق لعناق الكائنات الجميلة، وتلملم كلّ هذا البهاء كي «تدلقه» بكلِّ جمالياته فوق بياض اللَّوحات ببهجة غامرة.‏ كمَعْبَر نحو أرخبيلات الفرح والسَّلام والوئام مع كلِّ ما هو مبهج فوق رحاب آفاقها اللَّونيّة، وذلك بامتلاكها قدرات عميقة في مسارات تأويل البوح عبر ألوانها، فتبدو لوحاتها كأنّها في حالة حوار عميق مع المتلقِّي، فتقدِّم مباشرة لعين المشاهد: الفرح، الحبّ، الجمال، الوئام، الموسيقا، كأشهى موشور لوني غنائي على بياضِ اللَّوحة مثل كرنفال معبّق بالدّفء وشهقات الحنين، دامجةً ترميزاتها وإسقاطاتها عبر أزاهير وأشجار وحالات مناخية مفعمة بالمشاعر والأحاسيس المختلفة.‏
أرخبيلات لونية
وإذا ما سعينا لقراءة اللوحة على أجزاء، فثمة مساحات تجريدية قد لا ينتبه إليها المتلقي في القراءة العامة، تلك المساحات من التجريد تساعد في غنى الفضاء اللوني وتزيده اتساعاً، ويُشكل حاضناً ملوناً لدراما اللوحة التي تُركز عليها شديد في بؤرة تكون نقطة ارتكاز اللوحة وتوازنها، بؤرة مرة تأتي بحزمة ضوء، أو قد تكون بشجرة ترخي جمالها اللوني على الكثير من حولها ليبدأ التدرج اللوني من تلك البؤرة منطلق تكاوين اللوحة من هنا يُمكن تفسير تماهي الخطوط لمصلحة التلوين وانحياز الفنانة أكثر للألوان القوية والحارة التي تجاورها مع قليلٍ من البادرة،بكل اطمئنان ومن دون خشية.