التراث الثقافي السوري: صونه مسؤولية إنسانية

التراث الثقافي السوري: صونه مسؤولية إنسانية

ثقافة

الاثنين، ٢٩ أغسطس ٢٠١٦


«لكل إنسان وطنان: وطنه الأصليّ، وسوريا». أندريه بارو ـ عالم آثار فرنسي

ماذا نعني عندما نقول «التراث الثقافي»؟ إنّ التراث الثقافي، بتعريف «اليونيسكو»، وهي «منظّمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة»، هو «ميراث المقتنيات المادّية وغير المادّية التي تخصّ مجموعةً ما أو مجتمعاً لديه موروثات من الأجيال السابقة، وظلّت باقيةً حتى الوقت الحاضر ووُهبت للأجيال المقبلة». بذلك نعني أن التراث قد يكونُ مادّياً (يشمل المباني والأماكن التاريخية والآثار والمتاحف وغيرها، التي تعتبر جديرةً بحمايتها والحفاظ عليها بشكلٍ أمثلٍ لأجيال المستقبل) أو قد يكونُ حيّاً / غير مادّي (يشمل الموسيقى التقليدية، الممارسات والتصوّرات وأشكال التعبير والمعارف والمهارات التي تتوارثها المجتمعات جيلاً عن جيل).
مئات المواقع حول العالم رُشِّحت وأُدرِجت تحت «مواقع التراث العالمي» ضمن برنامج مواقع التراث الدولية، الذي تديره «اليونسكو» وفقاً لمعايير ثقافية وطبيعية معيّنة٬ وتخضع لاتفاقيات ومعاهدات دولية مبرمة لحماية هذه المواقع، وبالتالي جعلها تراثاً للإنسانية جمعاء.
لبنان مثلاً لديه خمسة مواقع مدرجة في هذه اللائحة وهي مواقع بعلبك وعنجر وجبيل ووادي قاديشا و «غابة أرز الرب» وصور. في حين أن المواقع الستة في سوريا مدرجة حالياً على قائمة التراث العالمي المعرّض للخطر: المدن القديمة في دمشق وبصرى وحلب، كما المُدن القديمة/المنسية شمال سوريا وموقع تدمر الأثري وقلعة الحصن في حمص وقلعة صلاح الدين في اللاذقية. أما القائمة الإرشادية الموقتة لمواقع التراث العالمي في سوريا فتتضمّن: نواعير حماة وموقع أوغاريت (رأس شمرا) وإيبلا (تل مرديخ) وماري (تل الحريري) ودورا أوروبوس وأفاميا وقصر البادية (قصر الحير الشرقي) وموقع معلولا وطرطوس (القلعة الصليبيّة) ومدينة الرقة العباسية وجزيرة أرواد.
تعرّض التراث السوري وما زال للكثير من أعمال التنقيب السري الممنهج، ومن أعمال تهريب الممتلكات الثقافية ونهبها، وفي أحيان كثيرة تعرّض للتخريب المتعمّد للمعالم الحضارية بالإضافة الى الاستهداف العسكري المباشر. وبينما تجتهد مؤسسات دولية عديدة لتمويل نشاط الإرث الثقافي السوري ودعمه، وفي مقدمتها «اليونسكو» التي تتعاون مع مختلف الأطراف الحكومية وغير الحكومية والمعارضة، فإنّ المديرية العامة للآثار والمتاحف في سوريا، هي الجهة الحكومية الرسمية المسؤولة عن التعامل مع هذا الملف، وهي لم تكتفِ بحمل شعار «تراثنا هو ذاكرتنا الوطنية»، بل مارست مهامها على أن «التراث هو هويتنا وحاضرنا ومستقبلنا». تُصرّح المديرية العامة للآثار والمتاحف أنه حتى آب 2016، فإنّ 758 موقعاً ومبنىً قد تضرر في سوريا. وهي منذ بداية الأزمة في سوريا تجتهد على التعاون مع جهات دولية من ضمنها «اليونسكو»، بخاصة مشروع «الصون الطارئ للتراث الثقافي السوري» المُدار من مكتب بيروت الإقليمي. لقد قامت المديرية بمهمّات ميدانيةٍ لتقييم الأضرار ونجحت في عمليات النقل الآمن للممتلكات الثقافية، وإقامة ورشات العمل لتعزيز القدرات ونشر التوعية والقيام بأعمال توثيقٍ عالية التقنية وغيرها من الأعمال النوعية بل البطولية التي كلّفت بعض الموظفين حياتهم، ليس آخرهم الشهيد خالد الأسعد، مدير البعثة الوطنية للتنقيب والترميم في تدمر وباديتها، التي تصادف هذا الشهر ذكرى مرور سنة على تصفيته همجياً في تدمر من قبل مقاتلي «داعش». إنّ بعض الدول تتخذ حالياً خطوات للحد من الإتجار غير الشرعي الذي يساهم في تمويل «داعش» بمبالغ تتراوح ما بين 150 و200 مليون دولار أميركي سنوياً بحسب مندوب روسيا الدائم لدى مجلس الأمن فيتالي تشوركين، وفي هذا السياق وضعت الولايات المتحدة مؤخراً، في خطوة جيدة ولو متأخرة، قيوداً على استيراد المواد «الأثرية والإثنولوجية» من سوريا (السجل الفدرالي الأميركي للقوانين والقواعد 53916 / عدد 81/ رقم 157).
إنّ المعارك الدائرة في سوريا لها أهداف جيو - سياسية، ومطامع في الموارد الطبيعية (البترول والغاز والماء)، وحسابات طائفية، ومآرب أخرى يصعب حصرها هنا. لكنّ المعركة في سوريا هي أيضاً معركة حضارية للدفاع عن الهوية السورية الغنية ضد تمزيق نسيجها الثقافي، وتهشيم فسيفسائها الاجتماعية، وتلطيخ تاريخ البلاد الذي يعدُّ تراثه واحداً من أكثر التراثات عراقةً وقيمةً في العالم كلّه. لذلك فإنّ الإنسانية جمعاء مستهدفة، لا المجتمع السوري فحسب. وعلينا أولاً كمواطنين، نتشارك والسوريين مصيراً واحداً مهماً وضعت بعض النعامات من شعبنا رأسها في الرمال، وثانياً كبشرٍ معنيّين بالإنسان نتشارك والسوريين حضارةً إنسانية مشهوداً لها، أن نكون مع المدنية ضد الإرهاب، ومع الجمال العمراني ضد بشاعة التدمير، بل مع العقل المفتوح على التقدم في وجه الجاهلية المتجددة المعادية لكل ما هو حضاريّ وتقدّمي وإنساني.