أرمن دمشق … حكاية شعب وإخلاص لوطن … الحروف العربية في الحاسوب .. إبداع أرمني دمشقي أهداه لوطنه

أرمن دمشق … حكاية شعب وإخلاص لوطن … الحروف العربية في الحاسوب .. إبداع أرمني دمشقي أهداه لوطنه

ثقافة

الأربعاء، ١٠ أغسطس ٢٠١٦

إسماعيل مروة

مجدداً صرنا نسمع عن الأرمني، وبعضهم يحاول فصله عن النسيج السوري، ويريد آخرون رفع مستوى خصوصية الأرمن ليجعلهم خارجين عن نطاق المجتمع السوري، ومن جاوز الخمسين من العمر يستذكر أن الأرمن جزء من النسيج الاجتماعي والاقتصادي السوري، ولا يمكن بحال من الأحوال أن يتم فصلهم تحت أي ذريعة، ولم نكن نسمع عن أي لافتة تدل على الأرمن والأرمني، فالمصور الشمسي نقف أمامه بحب ونأخذ صورة من دون أن نسأل عنه، بل كنا نعجب بلكنته ولا نعطي الموضوع أكثر من ذلك، وكذلك استديو التصوير، وكذلك مصلح الساعات، وصانع الأحذية الماهر… ولم يكن أي حرفي أرمني منعزلاً، فهم موزعون في الأسواق حسب توزع المهن، وليس حسب أي شيء آخر.. وفي غمرة الحديث عن التجمعات والتكتلات صدر كتاب الصديق الدكتور سركيس بورنزسيان (أرمن دمشق) ليغير المنطلق والغاية.

الانتماء للمكان
ابتداء من العنوان يحدد الكاتب هوية الأرمن، فهم أرمن دمشق، وللعنوان أكثر من دلالة كما للوحة الغلاف أعمق الدلالة، فهؤلاء أبناء دمشق، إليها ينتمون، ومن أجل تجذرهم فيها، وهي التي احتوتهم واحتوت مهاراتهم، يعملون، بل في العنوان الكثير من التباهي بالانتماء إلى دمشق المدينة والحاضنة، وهو يؤكد أمر الهوية الدمشقية، وفي هذا السياق، وليس مصادفة جاء الغلاف لساحة الأمويين والمكتبة الوطنية والسيف الدمشقي رموز دمشق الشام وتاريخها، وكانت بصمة الأرمن أحد مكونات الغلاف التي تدور في فلك دمشق المدينة.. وأهم ما قرأته في الكتاب ذلك التوثيق غير الافتعالي الذي انتهجه المؤلف للحديث عن كون الأرمن من النسيج الدمشقي، وذلك من خلال استعراض رحلة الأرمن المأساوية ما قبل الإبادة حتى استقرارهم في دمشق، ولأن الباحث المؤلف من المتبحرين في التاريخ كانت رحلته المفاجئة للكثيرين في عمق التاريخ، فجاء على الوجود الأرمني، منذ العهود الإسلامية الأولى «بدأت العلاقات بين أرمينية وسورية منذ عهد الإمبراطور ديكران الثاني الكبير 95- 55ق.م… وعند بداية الإسلام توجه بطريرك الأرمن في القدس أبراهام إلى مكة المكرمة، وأظهر شخصيته للنبي العربي الكريم، وطلب منه أماناً وحماية رهبنيات الأرمن وأوقافهم فأعطاه العهد التالي: «أنا محمد بن عبد الله رسول الله تعالى أعطيت هذا العهد إلى شعب أبراهام البطريرك وإلى المطارنة والرهبان الأرمن الذين يقيمون في القدس ووهبت لهم كنائسهم ودورهم وأوقافهم وأراضيهم».
إن هذا النص الذي بدأ فيه بورنزسيان كتابه بعد مقدماته لهو دلالة قاطعة على الوجود كمكون مهم من مكونات المجتمع العربي والدمشقي، إضافة إلى أن هذا التتبع التاريخي فيه دلالة الفخر بالمكان والعودة إليه منذ أقدم العصور، وفيه كذلك النزوع الأرمني إلى الهدوء والسلام من خلال رحلة البطريرك أبراهام إلى مكة للمثول بين يدي النبي الكريم، والحصول على عهد لشعبه المسالم.
لذلك يخطئ من يرى أن الوجود الأرمني كان مرهوناً بالإبادة التي قام بها الأتراك ضدهم قبل مئة عام، ويؤكد كذلك جرمية هذه الإبادة لشعب هو من نسيج المجتمع وليس طارئاً عليه.

الهجرات والتتابع
ومن العهد النبوي إلى العهد الأموي ووثيقة معاوية بن أبي سفيان مع الأرمن يسير المؤلف موثقاً بالصور مروراً بالعهد الراشدي وصولاً إلى الدولة الفاطمية، وعن الوجود الأرمني ضمن نسيج المنطقة في القرن الحادي عشر يذكر بورنزسيان ما يجهله كثيرون ممن يعتقدون أن الأرمن وجدوا بعد الإبادة مطاردين باحثين عن أمان! «الأرمن أدوا دوراً سياسياً واقتصادياً وثقافياً في عهد الخلافة الفاطمية، وذلك بفضل سيل الوافدين الأرمن الذين كانوا غادروا أرمينيا الكبرى في آسيا منذ أن طحنتهم الحروب بين السلاجقة والإمبراطورية البيزنطية، ووصل عدد الأرمن في مصر في النصف الثاني من القرن الحادي عشر إلى نحو 30000 شخص وتقلد الأرمن خلال قرن من الزمن مناصب الوزارة في مصر الفاطمية، وكان أشهرهم بدر الدين الجمالي الأرمني مؤسس دولة الوزراء».
وأمام الهجرات الكبرى للأرمن إلى سورية يقف المؤلف ليذكر بإنصاف «كانت سورية عبر العصور ملاذاً آمناً للأرمن، هاجروا إليها عند تعرضهم للمحن حيث وجدوا الاستقرار والأمان، ويمكننا تلخيص أسباب هذه الهجرة إلى ثلاثة أسباب: البحث عن أمان، أسباب دينية أهمها الحج إلى القدس، أسباب اقتصادية».
ومن ثم وقف المؤلف عند مراحل الهجرات وموجات هجرة الأرمن إلى سورية… وقد خصّ دمشق بمكانة خاصة عند الأرمن من خلال استعراض علاقتهم التاريخية بهذه المدينة من عهود قديمة، ولكن ومع الإبادة الأرمنية وهجرتهم إلى سورية ودمشق توسع المؤلف، فتحدث عن الهجرات والمخيمات وتأسيسها، ومن أسهم فيها من رجالات الأرمن، وطرق بنائها، وقد زود المؤلف كل ذلك بصور نادرة للمخيمات والتجمعات والمهن.

النسيج والتعدد
قد يرى كثيرون أن الأرمن لون واحد، ولكن المؤلف خصّ الطوائف الأرمنية بحديث خاص، ليظهر تعدد النسيج السوري، فالأرمن أرثوذكس، وكاثوليك، وإنجيليون، وكلهم موجود في دمشق وسورية، ويقوم بحياته وواجباته تجاه المجتمع السوري كواحد منه.. ولعلّ أهم فصول الكتاب هو ذلك الذي يتناول وجود الأرمن في الحياة العامة والثقافية، فتناول الجمعيات ودورها وتأثيرها وحضورها في رعاية الأرمن من الطفولة إلى الشباب، والمدارس والأدب وإسهام الأرمن في الأدب العربي والترجمة منه وإليه، ومشاركاتهم في الإعلام وأهم الشخصيات الإعلامية الأرمنية، ومشاركاتهم في الموسيقا والمسرح والفن التشكيلي… والسوري، والدمشقي خاصة يعرف سمعة الأرمن المهنية وتفوقهم وإتقانهم، ويضرب المثل بهذا الإتقان، ويقصدهم من أجل القضايا التي تستدعي الإتقان والثقة، وقد جمع المؤلف الصناعات والمهن التي برع فيها الأرمن، بل بعضها كان من اختراعهم، وكانوا وراء دخولها إلى دمشق فكانت المهن التي تميز بها الأرمن: الأشغال العامة والإنشاءات، التصوير الضوئي، المعادن، الأمشاط اليدوية، البصريات، الميكانيك، الصناعات الغذائية، الأحذية، النسيج، إعلانات النيون، وبعض هذه المهن آلت إلى الزوال أو في طريقها، لكن المؤلف يوثق بالصورة والتاريخ والأسماء لما قام به الأرمن في هذه الصناعات، وقد تعرض الأدب والدراما للشخصيات الأرمنية في النسيج السوري من باب المشاركة أو الكوميديا، وفي بقايا صور لحنا مينة رأينا الميكانيكي الأرمني، وفي أعمال كثيرة.

أعلام ومشاركات
الباب السابع من الكتاب تناول فيه المؤلف مجموعة من أعلام الأرمن في الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية العربية مثل: بدر الدين الجمالي الوزير في الدولة الفاطمية، أديب إسحق، حبيب السيوفي، ساهاك كشيشيان، هرانت مالويان، نظريت يعقوبيان، فريد إرسلانيان، لطفيك يريكيان، أونيك هالاجيان، زافين مانجكيان، فاهه يعقوبيان… وزير وأدباء، ورجال دين ونواب، ورجال درك وسلطة في الحياة السورية، ولكم كانت دهشتي وأنا أقرأ ترجمة زافين مانجكيان لأعرف أنه مخترع الأحرف العربية في الحاسوب، وهو الأرمني الدمشقي المولود سنة 1938 في دمشق، وفي أثناء عمله في شركة IBM أوجد طريقة لاستخدام الأحرف العربية في الحاسوب، وهذه الطريقة مسجلة باسمه في مركز براءات الاختراع الأوروبية في سويسرا… ويلحظ القارئ أن بعض الأرمن لا تدل عليهم أسماؤهم، فهم جزء من النسيج الفكري والاجتماعي مثل أديب إسحاق، وبدر الدين الجمالي وحبيب السيوفي.
أرمن دمشق للدكتور سركيس بوزنزسيان كتاب مهم ومنصف، يبتعد عن المظلومية في الحديث، ليدون سيرة جزء من النسيج السوري والدمشقي، وهذا الجزء يفخر بدمشقيته قبل فخره بأرمنيته.