من تاريخ البيت الدمشقي .. بقلم: شمس الدين العجلاني

من تاريخ البيت الدمشقي .. بقلم: شمس الدين العجلاني

ثقافة

السبت، ١٣ يونيو ٢٠١٥

تتميز مدينة دمشق القديمة بتنوع فنون العمارة في بيوتها، وهي مازالت تحتفظ ببنيتها المعمارية التي حباها الله بها، وجعلتها تتفرد عن غيرها من عواصم العالم.
اشتهر البيت الدمشقي منذ القديم بروعة جماله وسحر تصميمه حتى أضحى اليوم أهم وأجمل المتاحف والمراكز الثقافية والمطاعم والفنادق التراثية، حيث يستمتع الزائر والسائح بروعة هذه البيوت..
أخذ البيت الدمشقي حيزاً كبيراً من اهتمام الكتاب والباحثين، وانبرى كل منهم يصف أدق التفاصيل لهذا البيت، ومن أطرف ما قيل في وصف البيت الدمشقي على لسان أحد الباحثين الأجانب حين شبّه هذا البيت بالمرأة المتحجبة التي لايرى من محياها إلا ما ندر مضيفاً: إن "الوصف بأبسط معانيه فيه العبرة التي إذا أردنا أن نصف البيت الدمشقي فيه لكان العبرة في البساطة الهندسية والتكوين والتشكيل الخارجي وروعة ودقة وإبداع".

من يمر بحارات دمشق القديمة ويشاهد منازلها من الخارج فإنه يرى بيوتاً لا شكل لها ولا زينة.. فالطابق الأرضي لا نوافذ فيه.. وقد طلي بالكلس على جدار حجري لا يرتفع أكثر من متر.. وفوقه طابق له شبابيك مغطاة بشبك من الخشب يدعى (الخص) وغالباً ما يكون بارزاً عن البيت.. يطل كشرفة صغيرة بحيث يرى الناس من حيث لا يرونه..
ولكن إذا دخلت إلى الدار الشامية وجدت فيها العجب العجاب من الجمال والروعة والفن.. إذاً البيت الدمشقي من الداخل غيره من الخارج، من الداخل جنة ومن الخارج شيء لا شكل له ولا جمال فيه، وقد يلاحظ الزائر لبيت دمشقي تاريخي اهتمام أهل الشام بتزيين وزخرفة الدور من الداخل وكانوا ينظرون في البناء إلى ثلاثة مقاصد في آن واحد هي المحافظة على العادات والتقاليد والصحة وطبيعة الإقليم معاً.


وفي هذا الصدد يقولون: إن هنالك عدة أسباب لذلك، فالجدران العالية وعدم وجود شرفات خارجية تحافظ على خصوصية البيت وسكانه حسب عادات ومفاهيم تلك الأيام، ولم يكن يتواجد في ذاك الزمان أماكن تسلية وترفيه، فنساء الحارة يجتمعن في البيوتات، ويتسامرن ويقمن حفلات الرقص والغناء.. لذا اعتنوا بجماله الداخلي من زخرفات وتزيينات وجعله على حدِّ قول نزار قباني "قارورة عطر" لأنه كان يحتوي على أجمل أنواع الورود والفل والياسمين.. وأيضاً ينطبق هذا الحال على حد كبير على الرجال.
ولكن هنالك سبب آخر لجعل البيت الدمشقي من الداخل غيره من الخارج حسبما يروي الأقدمون فيقولون: إن الدمشقي لكثرة ما عانى من موجات الغزو والنهب والتقلبات وألوان الاستعمار القائم على الجور والتعسف، كان يحاول جهده أن يخفي النعمة ولا يظهرها، ذلك أن النعمة في ذلك الزمن قد تكون نقمة على صاحبها وتُعرِضه للقتل أو النهب.
يطلقون في دمشق على البيوت القديمة اسم (بيت عربي) وتقاليد بنائه تعتمد على الإبداع والسخاء في التصاميم والتزيينات في الداخل، أما خارج البيت فهو ليس بنفس الجمال إلا إذا استثنينا بعض البوابات للقصور الدمشقية. لأن أهل الشام انصب اهتمامهم على تزيين وزخرفة بيوتهم من الداخل وكانوا يسعون لتحقيق ثلاثة مقاصد في بيوتهم في آن واحد وهي المحافظة على تعاليم الدين والصحة والمناظر الخلابة... لذا لا نرى نوافذ للبيت الدمشقي على الحارات والأزقة (حتى لا ينكشف أهل البيت) فالنافذة في البيت الشامي تفتح على صحن الدار والإيوان والمشارق الواسعة فقط ولا تفتح على خارج الدور كالطرق بحيث يظل كل ما في الدار ضمن جدرانها ولا يتعداها بعيداً عن أنظار الغريب والقريب على السواء.
تتعانق البيوتات القديمة في دمشق من الأعلى، وقد تلتصق بعض البيوت ببعضها بعضاً وأن ما تحتهما من طريق يكون مغطى ويسمى " السيباط " وأيضا نرى الشمس تسطع في البيت الدمشقي، إضافة إلى الزخرفة الرائعة والنبتات الجميلة.. ويقال إن أول بيت عربي شيد في دمشق كان للخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان حيث شيده أيام ولايته على الشام بالقرب من الجامع الأموي وعرف باسم قصر الخضراء نسبة إلى القبة الخضراء التي كانت تعلوه، وكان داراً للولاية وسكنه معاوية أربعين سنة كما يقول ابن كثير. ويصف ابن كثير قصر الخضراء قائلاً: (كان في غاية الإحكام والإتقان وطيب الغناء ونزهة المجلس وحسن النظر) وموقع بيت معاوية في المكان المحاذي لجدار الجامع الأموي من الجهة الجنوبية، وكان يتصل بحرم الجامع من خلال باب يطلق عليه اسم باب الخضراء وهو في الأصل إحدى الفتحات الثلاث لمعبد جوبيتير، وأصاب الخراب قصر معاوية بعد زوال العصر الأموي من الشام، حيث جعله العباسيون داراً للشرطة وضرب النقود ثم التهمته النار في عصر الفاطميين كما يروي ابن كثير الذي يذكر: "ألقيت ناراً بدار الملك وهي الخضراء المتاخمة للجامع من جهة القبلة فاحترقت". يقول أحد ظرفاء الشام إن البيت الدمشقي مثل (المطبقية أو السفرطاس) أي يتألف من عدة طبقات فهنالك القبو والطابق الأرضي والعلالي "الطابق الثاني" والطيارة، البيوتات الدمشقية لأصحابها من عامة الناس ذات مساحات عادية أو صغيرة، والسبب ضيق المساحة ضمن سور المدينة، فيضطر السكان للتكيف ضمن المساحة المحدودة إذا تكاثر عددهم، وعجز مواد البناء من أن تؤمن أكثر من هذا الارتفاع الشاقولي.
ونعود للقول: إن البيت الدمشقي بيت يعبق بالسحر والجمال فهو مغلق من الخارج مفتوح بالداخل، فالزائر إلى هذا البيت يمر بدهليز معتم يؤدي إلى فسحة ضخمة (أرض الديار) مفتوحة إلى السماء تزينها الأشجار والنباتات الشامية العريقة والزهور الدمشقية النادرة. فهنالك الياسمين وشجر التوت والنارنج والكباد والليمون والبرتقال.. أرض الديار هذه واسعة تتوسطها بحرة ماء تتدفق منها المياه العذبة وتحيط بها غرف البيت المكونة من طابقين في أكثر الأحيان ويتصدر البيت الإيوان، والإيوان عبارة عن غرفة بثلاثة جدران مفتوحة على أرض الديار وترتفع أرض الإيوان عن مستوى أرض الديار بما يقارب نصف متر، حيث يتم الصعود للإيوان بعدة درجات. ولها قنطرة تسمى تاج الإيوان، مزينة بإطار مزخرف بطريقة الحفر مع تشكيلة بزخارف هندسية وسقف الإيوان يحتوي على زخارف خشبية ملونة تسمى (زخرفة عجمي).
كما يوجد في الطابق الأرضي قاعة تسمى (المربع) والمربع هو للاستقبال واجتماع أفراد العائلة والأقرباء وللمناسبات..
وفي الطابق الأول يوجد عادة فسحة سماوية تسمى المشرقة وهي فسحة سماوية علوية مكشوفة من ناحية السقف.. وتحيط بها جدران غرف النوم.. وغالباً ما تكون فيها (دالية العنب) وفيها يكون نشر الغسيل.. ومنها تكون منادمة الجارات لبعضهن بعضاً. والطابق الأول هو عادة يتضمن غرف النوم والمشرقة وغرفة كبيرة للجلوس في الشتاء. 
وكان للبيت الشامي طابق ثالث، يتضمن (الطيارة) وهذه الغرفة تكون عادة غرفة التأملات والهدوء والسكينة.. وتستعمل للدراسة والبحث.. وأحياناً تكون غرفة لضيوف العائلة.. وأحياناً.. غرفة (الحرد) لأحد الزوجين.. أو غرفة التعبد والمناجاة الصافية الصادقة بين العبد وربه.
وبشكل عام فإن البيوت الدمشقية الكبيرة تنقسم إلى ثلاثة أقسام وهي السلملك وهو القسم الذي يستقبل فيه الضيوف من الرجال، والحرملك وهو قسم خاص بالنساء، والخدملك وهو قسم للخدم. ولكن هذا التقسيم لا ينطبق على البيوت المتوسطة والصغيرة. 
.. البيت الشامي.. مملكة مستقلة.. لا جار يزعجك وتزعجه بحركتك فيه.. والأولاد يمارسون نشاطهم بكل حرية وأمان.. والنساء يأخذن حريتهن بالحركة والسهر وإقامة اللقاءات النسائية. وبشكل عام فإن قاعاته مناسبة لإقامة كل أنواع المناسبات من دون الاضطرار إلى اللجوء للفنادق والصالات.
أما المهندس الذي يقوم بتصميم وتنفيذ البيت الدمشقي فهو في غالب الأحيان كان النجار العربي إذ لم يكن في البلاد مهندسون إلا ما ندر، وكانوا ينفذون البيوتات لأعيان دمشق والقصور للحكام.
بيوتات دمشق داخل السور لم تكن واسعة كبيرة بشكل عام نظراً لضيق المساحات لذا كانت متلاصقة ومتعانقة ما أعطى دمشق القديمة طابعاً متميزاً، وهذا التلاصق بين البيوتات كان له إيجابياته زمن المستعمر الفرنسي، فقد كانت أسطح البيوتات تسمح بتنقل الوطنيين والمجاهدين هرباً من المستعمر، واشتهر سماع الأصوات على أسطح هذه المنازل وخاصة في الليل كلمة "يا الله"  فتخلي النساء الطريق للوطنيين.
أما البيوتات الدمشقية الكثيرة والكبيرة وذات الحضارة والروعة، فقد كانت بأغلبيتها خارج سور دمشق في حي ساروجة وحي سيدي عامود الذي اشتهر بأنه كان يحتوي على أهم بيوتات دمشق التي قصفها وهدمها المستعمر الفرنسي عام 1925م ومنذ ذاك الوقت سمي الحي "الحريقة".