كتاب.. في ..«جنوب القلب» فقدٌ وخرابٌ وموتٌ.. ونبضٌ في دمشق

كتاب.. في ..«جنوب القلب» فقدٌ وخرابٌ وموتٌ.. ونبضٌ في دمشق

ثقافة

الاثنين، ٢٠ فبراير ٢٠١٧

نتساءل، وفي ظلِّ مانعيشه من موتٍ وألمٍ سببهما الحرب البشعة التي استهدفتنا، والتي شنّها أعداء الحياة علينا وعلى سوريتنا.. نتساءل، تساؤل الأديب والمسرحي «محمد الحفري» وفي روايته «جنوب القلب»:

 

«ألا تكفي كلّ تلك السنوات من الحربِ الظالمة على بلادنا كي نقول كلمتنا أو بعضاً منها على الأقل؟. ألم تتَّضح الصورة وتتجلى الحقيقة ويزول الغبش عن العيونِ بعد؟!!».‏

حتماً، هو تساؤلٌ لايرادُ منه الإجابة، وإنما التأكيد على أن: «عميان البصيرة قبل البصر لايريدون رؤية الحقيقة، مع أن الشمس لايمكن حجبها بغربال».‏

إنه، ماأكد عليه «الحفري» في بدايات «جنوب القلب» رواية المكان والواقع والحدث. الواقع النازف في قلبِ الوطن وبشهادة البصيرة الإبداعية لأديبٍ بدأ يراقب الأحداث التي أحاطته وأبناء شعبه بالكثير من المعاناة والموت والخراب والمأساوية.‏

نعم، هو الواقع النازف في قلب وطنه. الوطن الذي أحاطته هذه الحرب البشعة بالكثير من الحزن والألم، والذي ماأكثر ماذرفَ أبناؤه، أحزانهم وفقدانهم وغربتهم وسوى ذلك مما دوّنه بوجعِ الكلمات والقلم..‏

دوّنه، بعد أن عاش أزيز الرصاص ودويّ القذائف ودموع المفجوعين ورائحة دماء حماة وطنه من شهداء وأبرياء مستهدفين، وبعد أن صعقه من يدّعون بأنهم ثوار، بأفعالهم وتكبيراتهم وإجرامهم الذي شهدت عليه مدن وشوارع وقرى منها قريته.. بجهلهم وحقدهم وقدرتهم على جعل قلوبهم «مقبرة حتى للأحياء من البشر» وبخيانتهم التي صعقتْ أيضاً أبناء شعبنا الذين أطلق أغلبهم صرخته:‏

«واغربتاهُ.. هل كنتَ حقاً تعرف هؤلاء الناس الذين عاشرتهم دهراً ولم تستطع أن تميز بين بطونهم وظهورهم؟!».‏

أطلق هذه الصرخة مّذ نشر أهل الظلام أوبئتهم التي لم تمنعه من تنسّم هواء وطنه. الوطن الذي نال من الخراب والفقد والموت والويلات وسوى ذلك من نيران الأحقاد والتآمر والخيانات.. نال، ماآلمهُ فأبى إلا أن يدوّنه، ومن خلال تبيان انعكاسات كل ذلك على شعبه وعلى صموده المعهود والممتدُّ مابين روحه وأحاسيسه وشرايين قلبه.‏

دوّن ذلك، بكلِّ ماعاشه من مشاعر الخوف والحزن والحنين والمحبة التي لديه.. بكلِّ ما استشعره من آلام الفراق والوداع والذكريات التي ستبقى تتداعى في ذاكرته فتشعل اللحظات تحسراً قال فيه:‏

«ذكريات.. تحسّرنا عليها فيما بعد، وربما على أعمارنا المسفوحة أمام ذلك الموت المجاني الذي يحدث. تفصيلات صغيرة قد تعني في جزءٍ منها على الأقل، الوطن الذي كان ينهدم أمام أعيننا من دون أن نفعل لأجله أي شيء».‏

هذا ما شعر به، وتجاه الوطن ومن ثمَّ تجاه أولئك الذين ضحوا بحياتهم كرمى أن يبقى حياً صامداً، وهم كُثر، ومنهم قائد إحدى المجموعات المتصدية للمسلحين. البطل الذي خاطبه:‏

«أنت أيها المبجل في قلبي «بشار حبيب».. يامن رحلتَ بنجمتين فقط وأنت تستحق أن توضع كلّ نجوم الدنيا وأقمارها على كتفيك.. أيها الراية المرفرفة والعلم الراسخ في الروح قبل الأرض.. كم كنت أتمنى أن تتوقف عن الموت وتنهض من حفرتك ولو للحظات لأسألك، عن سرّ ذلك الصمود الذي كنت فيه طيلة عشرة أيام متوالية لم تعرف فيها النوم أو الراحة أو الهدوء...»..‏

لاشكَّ أنها حكاية كل من ضحى بحياته من أجل أن تحيا الحياة في بلادي.. حكاية كل جندي من الجنود الذين تطاول هاماتهم الجبال والذين: «حارب كل واحد منهم جيشاً من الجراِدِ يوماً بأكمله، ثم لفظوا أنفاسهم مع آخر رصاصة كانت بحوزتهم».‏

إنه سردٌ أليمٍ لواقعٍ أكثر إيلاماً.. سردٌ لتفاصيل المعارك والاشتباكات التي سمع بها أو شاهدها تدور في درعا وقُراها وسواها، وصولاً إلى «جنوب القلب».. دمشق الصامدة صمود رجالاتها الذين لايمكن لأحدٍ أن يوفّيهم حقّهم أو يكتب عنهم لطالما:‏

«لكلِّ واحد منهم قصة، ويساوي ظفر واحدهم قبيلة من العربان الذين حاولوا نهش لحمنا مثل الكلاب المسعورة. الكلاب التي انقضت علينا في غفلة تريد تمزيقنا وامتصاص دمنا واستباحة عرضنا».‏

أيضاً، هو سردٌ يحكي أخلاقيات وإنسانية وتضحيات، كثر ممن قد لانعرفهم ولكنهم «يحبون الوطن إلى أقصى درجات الحبّ، وليس هذا فحسب، بل إن هؤلاء، وإن لم يظهر عليهم هذا الحب لكنهم يحملون الوطن في ضمائرهم قبل أن تحمله قلوبهم».‏

بالتأكيد هو ماأدرك «الحفري» بأنه ومثلما لايمكن أن يفي الواقع الدقة في وصفه، لايمكن أن يفيه ماأراده من هدفه، وللتعبير عن مقدار جهل الأبناء وحقدهم وانجرارهم وراء شعارات طنانة وفارغة وخطابات دينية مشوَّهة لاتمت بصلة للإنسانية والأخلاق والدين.. لاتفيهِ هدفه، ورغبته بمعرفة سبب كل هذا الجهل والحقد والخيانة، ولدى من يُفترض أنهم من وطنٍ كرامته وحضارته وثقافته هم أبجديته منذ الأزل وإلى أبد الأبدين.‏

كل ذلك وسواه، مما عانى منه وطننا خلال هذه الحرب.. كل ذلك قرأناه عبرَ مفرداتٍ دلت على تضخمِ الآهِ فيه. تضخمها وصولاً إلى الحبِّ الذي عانق به الكاتب «جنوب القلب»..‏

القلب الذي هو دمشق.. «بوصلة الجهات والتي يبدأ التاريخ منها وإليها ينتهي.. دمشق، التي انتهى فيها وكان مزهواً بإقامته في قلبها.. مزهوٌ لأنه أحس وفي الغرفة الصغيرة التي كان قد استأجرها بها:‏

«أحسُّ أنني أجلس على أعلى قمة في العالم، وتراب دمشق عندي يساوي هذا الطهر المزعوم لعالمٍ فاسق».‏