احتجاب الشمس.. والاستفسار المقلق

احتجاب الشمس.. والاستفسار المقلق

الأزمنة

الأحد، ١٥ مارس ٢٠١٥

زهير جبور
شعرنا بالنقص ونحن نواجه منذ شهر تقريباً حالة حجب الشمس عن مناطق ساحلنا السوري، بحراً وجبلاً، ومنذ دخول العام 2015 بدأت العواصف المتنوعة واحدة تلو الأخرى، دون أي تباعد زمني فيما بينهم، واستمرارية مدهشة للأمطار الغزيرة التي لم تتوقف على مدار الشهرين وحتى يومنا هذا، فرحنا نفتش عن الشمس خاصة وأن أبناء الساحل لا يستطيعون الابتعاد عنها، وهي في الشتاءات العادية لا تبتعد طويلاً، تظهر ساطعة، مشرقة، تعطي حنانها ودفأها، فيخرج الأطفال إلى الحدائق وجميعها مفتوحة على السماء بسبب عدم وجود حدائق مسقوفة لهم، ومنذ بداية العام حرموا اللعب إلا في استثناءات قليلة جداً،ً حيث الغيوم التي لم تنقشع عن سماء الساحل والأمطار التي فاقت حدود الاحتمالات الرصدية، وحين رجعنا للأسطورة الأوغاريتية لم نلحظ أن الأوغاريتيين أجدادنا القدماء في المملكة الساحلية قد تحدثوا عن ظاهرة غياب الشمس لأيام طويلة، وفي التاريخ المعاصر لم يرد أن الطبيعة شهدت مثل هذا التباعد، الذي أرخى كآبته على النفوس، وكأن غلاء العيش الفادح جداً وصواريخ العصابات المسلحة وإرهابهم اليومي لا يكفي، فتمّ الالتزام القسري بالبيوت، وفي الأسبوع الماضي منعت الجهات المختصة العربات من الاقتراب إلى الشاطئ خوفاً من المد البحري الفظيع، الذي غمر على بعد 6 أمتار من الشط، وفي شاليهات (أوغاريت) التي تستقبل الإخوة الوافدين من المحافظات الساخنة تم الاستعانة بالزوارق الصغيرة لإنقاذ الناس الذين استيقظوا ليلاً وهم يواجهون ما لم يعرفوه طوال حياتهم، ماء من البحر ومن السماء، اتحاد المطر مع البحر في لوحة بعيداً عن أضرارها وخطورتها شكلت موسيقا متناغمة، سيمفونية بين الغضب والأمل، لم ترصدها الحكاية الشعبية من قبل، وينبغي أن تضاف إلى حكايا الساحل، كي تتذكرها الأجيال، فثمة حكايا أوغاريتية عن الجفاف، ومناشدات وابتهالات للإله بعل أن ينقذهم، وكانت الضحية (آكافي) أجمل فتيات المملكة وهي صغيرة لم تتجاوز 17 سنة من عمرها، ويظهر أن استمرارية التضحية ودعاء الاستسقاء والنذور وغيرها من العادات قد أخذت من قبل الميلاد، وتطورت من (آكافي) الإنسان إلى الخرفان والعجول، التي أصبحت أسعارها الآن أغلى بكثير من براميل النفط الخام، والذهب بمعاييره المختلفة، وعلى العكس فالمادتان ينخفض سعرهما فيما اللحوم آخذة بالارتفاع دون توقف، تساءل الناس عن الشمس التي طالت أيام انحجابها، وليس من المتوقع فعلاً أن يقود أحدهم عربة مجبراً للسفر إلى حمص ليخرج عن اللاذقية في عاصفة مطرية مرعبة جداً وسرعة رياح تهدأ بين وقت وآخر، لتنطلق مجدداً بسرعة مضاعفة، لم تتوقف حتى مدخل مدينة حمص بين مطر وثلج وبرد (لم أر مثل هذا في حياتي وأنا الآن في عمر الخمسين) وما حصل هو تماماً كالاستفسار الذي يمكن أن يحل فجأة لو أن الشمس أخّرت غروبها أو شروقها لثوانٍ قليلة، فكرة من الخيال العلمي، وما عشناه منذ بداية العام أقرب إلى الخيال العلمي.. فلماذا الاستغراب؟ أبناء الساحل يفتشون عن شمس كانت تلازمهم أيام الشتاء ولا تحجب عنهم، تغطيها الغيوم ثم تظهر، تبعث أشعتها لتدب الحياة في الأجساد، وبطبيعة الحال ومع الشمس والحرارة يمتاز أبناء اللاذقية بالخمول والكسل، فكيف مع غيابها، ومع المظاهر والاستفسارات المغلقة لم نستطع الحصول على ردٍّ علمي يوضح ما يجري، هو الاحتباس الحراري، وتبدلات المناخ، ونسبة الأمطار تجاوزت بكثير معدلاتها، وكان حسب تقديرهم أن بوابة سد 16 تشرين ليست بحاجة للفتح، لكنهم استنفروا ليلاً لأن الأمطار الكثيفة جداً والتي لم تكن متوقعة بهذه الكمية أوصلت البحيرة إلى حدها النهائي وأصبح فتح البوابة ضرورة لا خلاص منها.
•    جولة اطلاع
انطلقنا في طريق اللاذقية بللوران حيث السد الذي انخفض منسوب مياهه في الصيف الماضي إلى درجة كبيرة جداً، ونشرت مجلة الأزمنة حينذاك موضوعاً متكاملاً عن النسب وخطورة الجفاف وما يتهددنا في حال لم تنقذنا الطبيعة، وقد أنقذتنا وعاد منسوب المياه إلى مستواه، وتمّ فتح إحدى البوابات لكن بعض البساتين مغمورة بالمياه، وهذا حسب ما وضح المهندسون الزراعيون يشكل خطورة على الشجر وخاصة أن الأرض أخذت فوق حاجتها من المياه، ما يؤدي إلى تعفن الجذور في حال لم يتوقف المطر، استفسار آخر يضاف إلى مجموعة الاستفسارات السابقة، فمن جفاف قاتل إلى اختناق مائي يهدد الجذور، وفي هذا الشهر يباشر الفلاحون بتقليم الأشجار وتنظيف ما حولها من عشب وفلاحتها، وإن لم يتوقف المطر وتميل الأرض إلى الجفاف قليلاً فسوف يتأخر إنجاز هذا العمل، تابعنا الجولة إلى طريق حلب.. هناك رأينا مجرى السد يتدفق عبر النهر الكبير الشمالي.. منظر جميل جداً، السحر يحيط بالمكان والأشجار. والمطر المنهمر بخيوطه الفضية.. هنا عاش الإنسان الأول مخلفاً حضارته.. تاركاً أدوات الجيولوجيا الفطرية من جرن الكبة إلى حجر عصر الزيتون، لكن قذف الأشرار وحربهم الوحشية جعلت الطير يفر، وهم يدمرون حضارة الإنسان السوري ويحاولون نزع أصالته وإلغاء وجوده، ورأيت النهر المتدفق حزيناً.. إحساس انطلق من مشاعري ليلف المكان الذي طالما أحببته، وأحمل منه ذكريات الزمن القديم حين كان الحب يجمعنا مع تصميمنا أنه سيبقى مهما فعلوا وتشيطنوا وبثوا حقدهم، سيبقى الإنسان السوري.. والمكان.. والمدن.. والأمل.
•    ما قيل في الطقس
كان لا بد بعد ذلك من العودة إلى المعمرين وهو ما جعلنا نزور السيد سليم مطر البالغ من العمر 90 سنة.. رحب بنا الرجل ومن المعروف أنه يجمع في ذاكرته تاريخ اللاذقية وكان من المناضلين البعثيين الأوائل، ورافق ميشيل عفلق وصلاح البيطار، وربطته صداقة فنية حميمة مع المطرب محمد عبد الوهاب الذي زار بيته في اللاذقية القديمة.. قال أبو وديع: إنه منذ عام 1958 في زمن الوحدة (الجمهورية العربية المتحدة) لم يشهد مناخاً كهذا وأمطاراً بتلك الكثافة وانحجاباً للشمس بالأيام الطويلة، ومن المعروف أن الاعتدال المناخي في الساحل يبدأ بشهر شباط، وكان الشعير يحصد في أول شهر للربيع، التبدل الحاصل الآن أثر كثيراً خاصة احتجاب الشمس وأبدى ملاحظة حول لون الغيوم وهو يراها لأول مرة في حياته تحمل أشكالها الحالية ولونها المختلف جداً، خاصة مع كثافة الأمطار وشدتها، وغياب البرق والرعد بشكل ملحوظ، وكذلك هبوط الحرارة بشكل مفاجئ بين ساعة وأخرى، وتوقف الريح ثم هبوبها السريع جداً، تقلبات ما عرفها سابقاً، وطلب أن تشكل لجان من الجهات المعنية لدراسة هذه الظاهرة، وعدم الاكتفاء بربطها في الانحباس الحراري، وتبدلات المناخ على الكون، وهي تستحق الدراسة والخروج بالنتائج، وخاصة أن الأضرار الكثيرة المادية التي سببتها ينبغي تداركها مستقبلاً، وما يتعلق بالزراعة والسياحة والتعامل مع الشاطئ بشروط الأمان التي يمكن أن تتوافر في حال تطبيقها والعمل بها، وكان لرأيه الفضل في أننا اتجهنا صوب الكورنيش الشمالي، وهناك راقبنا الغيوم ولونها وأثارت اهتمامنا، غيمة يميل لونها إلى الرمادي والأسود، كانت على شكل طائر من فوقه أجنحة الدوران لطائرة (الهيلوكوبتر) وهذه الصورة أو ما يشبهها حسب ما تهيأ لي كانت قد شوهدت مرسومة في أحد كهوف الفراعنة، وعلق عليها كما أذكر هل عرف الفراعنة الطائرة في زمنهم؟ وربما تكون الحالة أيضاً من الخيال العملي الذي تقاذفني كثيراً وأنا أعيش أيام الساحل السوري النادرة وكل ما فيها يدفعنا للسؤال (لمن ستشرق الشمس) الرواية الرائعة التي قرأناها في شبابنا، وها نحن نسترجعها بانتظار شمس سورية التي ستشرق حتماً لأبنائها الشرفاء.