مطلوب.. تدخل المشرّع في القضايا الإيجارية (2)

مطلوب.. تدخل المشرّع في القضايا الإيجارية (2)

الأزمنة

الاثنين، ٢٣ فبراير ٢٠١٥

ثانياً: دعوى إنهاء العلاقة الإيجارية
وتتناول هذه الدعاوى بدورها دور السكن المشمولة بأحكام التمديد القانوني الحكمي، المستأجرة في ظل قانون الإيجارات السابق (م. ت 111 لعام 1952) قبل صدور قانون الإيجارات الجديد رقم 6 لعام 2001، الذي أعطى المالك حق طلب إنهاء العلاقة الإيجارية القائمة حولها واسترداد عقاره المأجور مقابل التعويض على المستأجر بمبلغ يعادل نسبة 40% من قيمته شاغراً بوضعه الراهن وذلك بعد ثلاث سنوات من نفاذ هذا القانون.
أي إن المشرع وزّع قيمة المسكن المخلى بنسبة 60% للمالك و40% للمستأجر الذي لم يعد يملك أي خيار آخر للاحتفاظ بمسكنه.
وقد انهالت الدعاوى على المحاكم من قبل مالكي تلك المساكن لاستردادها بأي ثمن لأن ذلك يحقق لهم المنافع الكبيرة جراء تأجيرها ببدلات إيجار مرتفعة بموجب عقود محددة المدة أخضعها القانون الجديد لإرادة المتعاقدين، ما تسبب في تهجير الأسر الآمنة من بيوتها وتشريدها، وبالتالي، تحكم معظم المالكين في رقاب المستأجرين الجدد لتلك المساكن من خلال بدلات الإيجار التي يفرضونها عليهم ويرضخ لها هؤلاء تحت وطأة أزمة المسكن وكثرة الطلب على استئجار المساكن والحاجة الماسة إليها بغية إيواء أفراد عائلاتهم في الظروف الاستثنائية الحالية الصعبة.
أما آلية العمل بالنص الذي استحدثه قانون الإيجارات الجديد بشأن إنهاء العلاقة الإيجارية فيما بين المالك ومستأجر عقاره، فتتلخص بما يأتي:
- تجري محكمة الصلح المدنية الكشف والخبرة على المسكن المأجور بمعرفة خبير أو ثلاثة خبراء تعينهم للنهوض بمهمة تقدير قيمته شاغراً بوضعه الراهن بتاريخ الكشف.
- إذا لم تر المحكمة الاستيضاح من الخبراء عما يمكن أن تجده في تقريرهم من نقص أو غموض، أو إعادة الخبرة إن كان لذلك مسوغ قانوني، تبنت تقرير الخبرة وفصلت بالقضية على أساسه.
إن ما يقض مضاجع المستأجرين هو أن الخبراء يرتفعون بتقدير قيمة المسكن في دعوى التخمين، في الوقت الذي يتدنون بها عن قيمته الحقيقية في دعوى إنهاء العلاقة الإيجارية لاعتبارات لا توحي بمراعاة أحكام المادة 2/ب من قانون الإيجارات رقم 6 لعام 2001، والتقيد باجتهاد محكمة النقض بقرارها رقم 2351/2276 وتاريخ 23/11/2004، الذي أرسى المبدأ القانوني التالي:
"استحقاق المستأجر مقابل إنهاء العلاقة الإيجارية تعويضاً بنسبة 40% من القيمة الكاملة للعقار المأجور في السوق التجارية فيما لو أراد مالكه أن يبيعه وهو شاغر وغير مؤجر".
إن سير خبراء المحاكم في هذا المنحى بات يؤدي لتحديد تعويض لا يمكّن المستأجر المخلى من شراء مسكن بديل مهما كان متواضعاً، في غمرة ارتفاع قيم العقارات السكنية، ويضطر لاستئجار دار ببدل إيجار مرتفع بموجب عقد إيجار محدد المدة، ما سوف يستنزف التعويض الذي استوفاه خلال بضع سنوات ويضحى عرضة للتهجير والتشريد من جديد بسبب عدم قدرته على الاستمرار بدفع الأجور العالية بوصفه من المتقاعدين أو من ذوي الدخل المحدود الذين استأجروا مساكنهم المحكوم بإعادتها لمالكيها منذ النصف الثاني من القرن الماضي، وهنا تقع المأساة والكارثة الإنسانية.
إزاء الواقع المتقدم، أصبح من الضروري تدخل المشرع لوقف نزيف دعاوى إنهاء العلاقة الإيجارية لمدة زمنية معينة ريثما تتاح له معالجة تداعياتها السلبية وإيجاد الحلول الملائمة والعادلة لهذه المعضلة المتفاقمة ذات الأوجه الإنسانية والاجتماعية والوطنية، لأن أزمة السكن الخانقة قد استشرت بشكل خطير، يقتضي التدخل السريع لتذليل العقبات التي تعترض تطبيق قانون الإيجارات على النحو الذي تتغياه الدولة تحقيقاً للعدالة المتوخاة، وبالتالي، الحيلولة دون توسيع الشرخ بين شريحتي المالكين والمستأجرين الذين وضعهم القانون وجهاً لوجه بدلاً من وضعهم في خندق واحد تمتيناً للحمة الوطنية وتحصيناً للبنية التحتية للمجتمع.
وتفادياً لما يشوب قانون الإيجارات من ثغرات برزت من خلال التطبيق العملي، وللقضاء على الصور المهزوزة التي تحفّ بإجراءات الكشف والخبرة عند تقدير قيمة المسكن المطلوب إعادته لمالكه، يجدر الأخذ بالحلول التالية:
- العودة للعرف الذي كان سائداً قبل صدور قانون الإيجارات الجديد بصدد النسبة المئوية التي كان يعرضها المالك على المستأجر إنهاء للعلاقة الإيجارية وهي 50% من قيمة المسكن شاغراً في السوق التجارية، إذ لم يكن ثمة مبرر للتدني بهذه النسبة إلى 40% خلافاً للتعامل الجاري وقتئذ.
- ترك الخيار للمستأجر في دعوى إنهاء العلاقة الإيجارية بين دفع نسبة 50% من قيمة المسكن المأجور شاغراً لمالكه والاحتفاط به ونقل ملكيته باسمه في السجل العقاري، وبين استيفاء النسبة ذاتها من المالك وإعادة عقاره إليه خلال مدة يحددها الحكم لتسليمه إياه خالياً من الشواغل والشاغلين، هذه المدة التي لم يلحظها القانون الجديد بتاتاً والمفروض منحها للمستأجر لإيجاد مسكن جديد بعد استيفائه التعويض القانوني الذي سيحدده الحكم القضائي.
إن للخيار المعطى للمستأجر على النحو المتقدم عدة مزايا تنسجم مع الحق والعدل وحسن تطبيق القانون، أخصها:
1- إبقاء أسرة المستأجر في مأواها وعدم تعريضها للتهجير والتشريد، وحفظ حق المالك المستقر في مسكنه المستقل الخاص به، باستيفاء ما يستحقه من ثمن المسكن المأجور بوصفه شاغراً وفق العرف السائد في المدن السورية الكبيرة.
2- عدم تعريض الخبراء لأية ضغوط أو مؤثرات من أي طرف من طرفي الدعوى، ما دام ليس بالوسع التكهن مسبقاً بما سوف يختاره المستأجر في ضوء القيمة الحقيقية المقدرة بنتيجة الخبرة بعد الاستئناس بالسوق التجارية بالمنطقة التي يقع فيها توخياً للدقة والموضوعية في التقدير المتسم بالصدقية والشفافية دون محاباة أي طرف أو الانحياز له.
فلا ضير من تدخل المشرع بهذه المسألة أيضاً، من منطلق إنساني واجتماعي ووطني ووقف دعاوى إنهاء العلاقة الإيجارية لمدة معينة ريثما يعيد النظر في قانون الإيجارات وإيجاد الحلول الناجعة التي تكفل صون حق الملكية وحماية حق السكن الذي تكفله الدولة لرعاياها، وتعيد التوازن في العلاقات الإيجارية على أسس عادلة من شأنها إزالة التوتر في هذه العلاقات وردم الفجوة بين شريحتي المالكين والمستأجرين لما فيه من المصلحة العامة.
فقد سبق للمشرع أن تدخل بقضايا الإيجارات في ظروف أقل وطأة من الظروف الحالية التي ألقت بظلالها الثقيلة على كاهل المواطنين كافة، من خلال بعض التشريعات:
- فبموجب المرسوم التشريعي رقم 187 وتاريخ 7/9/1970، ألغيت الفقرة (هاء) من المادة الخامسة من قانون الإيجارات السابق (م. ت 111 لعام 1952) التي كانت تجيز للمالك المستقل طلب إخلاء مستأجر عقاره المأجور، ضمن الشروط المحددة في القانون، للسكنى فيه، عندما لاحظ أن بعض المالكين يعمدون إلى بيع عقاراتهم صورياً بغاية إخلاء المستأجر بحجة أن مشتريه أصبح مالكاً مستقلاً له ولا يملك سواه.
- وعندما صدر القانون رقم 32 وتاريخ 31/12/2011، الذي أعطى الحق لمالك العقار المؤجر لأحزابها الجبهة الوطنية التقدمية أو الدوائر الرسمية أو المنظمات الشعبية أو النقابات أو الجمعيات أو الوحدات الإدارية أو البلديات أو مؤسسات القطاع العام والمشترك، طلب إنهاء العلاقة الإيجارية واسترداد العقار المأجور منها مقابل التعويض على الجهة المستأجرة بمبلغ يعادل 40% من قيمة البناء المأجور شاغراً وبوضعه الراهن بتاريخ الكشف والخبرة عليه وذلك بعد ثلاث سنوات من نفاذ هذا القانون، تدخل المشرع فأصدر القانون رقم 13 وتاريخ 25/6/2014 الذي قضى بتأجيل العمل بالقانون 32 لعام 2011 لمدة ثلاث سنوات اعتباراً من تاريخ 1/1/2015.
ونعتقد أن مصلحة المواطنين المستأجرين الذين تكفل الدولة لهم حق السكن والإيواء جديرة بالرعاية أيضاً، ما يسوغ وقف دعاوى إنهاء العلاقة الإيجارية بالنسبة إليهم كذلك، مراعاة للظروف التي تمر بها البلاد ولحين عودة الأوضاع إلى طبيعتها ويتاح للمشرع إيجاد الحل الذي يقوم على أسس قوية وعادلة لهذه الدعاوى التي تسببت بتشريد المستأجرين القدامى من الطبقات الشعبية ذات الدخل المحدود وزادت من معاناتهم الإنسانية.
نعم، مطلوب تدخل المشرع في القضايا الإيجارية لإزالة الريبة التي تنتاب المتقاضين أمام المحاكم في نظرتهم إلى مؤسسة التخمين التي لم تعد تؤدي وظيفتها الاجتماعية والاقتصادية على ما يرام، جراء ما اخترقها من خلل وصور مهزوزة بإقرار العاملين في مرفق العدالة قضاة ومحامين.
فهذه القضايا تتسم بأوجه إنسانية واجتماعية ووطنية.
إنسانية.. لأن كثيراً من الأسر أضحت عرضة للتهجير والتشريد من مساكنها دون أن تجد من يصيخ إليها بسمعه وينقذها من الغرق في متاهات الضياع.
واجتماعية.. لأن أزمة السكن الخانقة قد استفحلت واستشرت بشكل غير مسبوق، فيجدر بالمشرع أن يوليها الاهتمام الجاد لإيجاد الحل الحاسم والعادل لها وإعادة التوازن في العلاقات الإيجارية على أسس قوية، دون تراخ، لإزالة الشرخ القائم بين أطرافها، وتفادياً للمآسي الكارثية التي تزيد من المعاناة الإنسانية لفئة كبيرة من المواطنين.
ووطنية.. لأن خلافات حادة وعميقة قد تفجرت فيما بين شريحتين عريضتين في المجتمع، المالكين والمستأجرين، ما تسبب بهدر طاقتهما الخلاقة التي يفترض شحذها لبناء صرح الوطن على أرضية صلبة، لحمتها المحبة والتسامح وسداها التعاضد والتعاون، بعيداً عن الصدام الدائم الناشئ عن وضعهما بمواجهة بعضهما البعض، ما لا يخدم سوى المصالح الخاصة والضيقة، بدلاً من وضعهما في خندق واحد لتقوية البنية التحتية للمجتمع وتوخياً للمصلحة العامة بأبعادها الإنسانية والاجتماعية والوطنية.