مطلوب.. تدخل المشرع في القضايا الإيجارية

مطلوب.. تدخل المشرع في القضايا الإيجارية

الأزمنة

الاثنين، ١٦ فبراير ٢٠١٥

المحامي: د. لوقا جميل لوقا
إن القضايا الإيجارية هي من القضايا الشائكة والمعقدة لما لها من انعكاسات وتداعيات على الحياة الاجتماعية والاقتصادية جراء تشابك العلاقات وتباين المصالح وتضاربها فيما بين الشريحتين العريضتين في المجتمع، المالكين والمستأجرين، وبالتالي، نتيجة للسياسة العمرانية وازدياد عدد السكان والضغط السكاني في المدن الكبرى، ما ولد مشكلات جمّة بينهما واستدعى تدخل المشرع أكثر مرة للتوفيق ما أمكن بين تلك المصالح. تبعاً لتحلي أحكام الإيجار بميزة وسمة خاصتين كجزء هام من الحقوق المدنية، وارتباطهما الوثيق بالحياة الاجتماعية والاقتصادية.
والقضاة والمحامون الذين يعالجون تلك القضايا ويقفون على وجهات نظر كل من المالكين والمستأجرين، هم أولى من يتصدون لاستشفاف مكنون وجهات النظر هذه توخياً لإيجاد الحلول الملائمة، ضمن إطار مبادئ العدالة، للمشكلات الناشئة عن العلاقات القائمة بين فئتي المالكين الذين يطالبون بحرية التعاقد وتطبيق قاعدة "العقد شريعة المتعاقدين" التي ظفروا بها بموجب قانون الإيجارات الجديد رقم 6 لعام 2001، في إطار "عقود الإيجار المحددة المدة" المبرمة في ظل أحكامه، والمستأجرين الذين يتمسكون بقاعدة "الحقوق المكتسبة" وأحكام "التمديد القانوني الحكمي" لعقود إيجاد المساكن المستأجرة في ظل قانون الإيجارات السابق الصادر بالمرسوم التشريعي رقم 111 لعام 1952، التي حافظ عليها قانون الإيجارات الجديد مع استحداث نص يتيح للمالك إنهاء العلاقة الإيجارية القائمة حول هذه المساكن مقابل التعويض على المستأجر بنسبة معينة من قيمة المسكن المأجور بوصفه شاغراً.
وانطلاقاً من الواقع المتقدم، سوف نستعرض القضايا الإيجارية في نطاق "دور السكن" لما يحف بها من إشكالات وتعقيدات تشغل القضاء، وصولاً إلى اقتراح بعض الحلول التي نرى أنها تشيع في نفوس المواطنين الهدوء والاستقرار وتحقق المساواة والعدالة والتوازن فيما بين شريحتي المالكين والمستأجرين على النحو الذي يساعد على توطيد العلاقات القائمة فيما بينهما بروح التعاون تحصيناً للبنية التحتية للمجتمع الذي تكونانه.
ولعل أهم ما يظهر تعارض المصالح بين هاتين الفئتين، يتجلى في نوعين رئيسيين من الدعاوى الإيجارية هما دعوى "تحديد أجرة المسكن" أو ما تطلق عليه تسمية "التخمين" ودعوى "إنهاء العلاقة الإيجارية" لاسترداد العقار المأجور للسكن، المشمول بأحكام التمديد القانوني.
أولاً: دعوى تحديد المسكن (التخمين)
تتناول هذه الدعوى العقار المأجور للسكن، المشمول بأحكام التمديد القانوني الحكمي، والتي يدعي فيها أحد طرفي عقد الإيجار المبرم في ظل قانون الإيجارات السابق (م. ت 111 لعام 1952)، المالك أو المستأجر، بالغبن في بدل الإيجار، خلافاً للعقود المحددة المدة المبرمة في ظل قانون الإيجارات الجديد رقم 6 لعام 2001، التي تخضع لإرادة المتعاقدين.
والآلية المتبعة بوجه عام في دعوى الادعاء بالغبن (التخمين) المقامة من المالك على مستأجر عقاره المأجور، تتلخص بما يأتي:
- يعيّن القاضي الصلحي خبيراً أو ثلاثة خبراء لتقدير قيمة المسكن، على أن يتفق طرفا الخصومة عليهم، وفي حال عدم اتفاقهما، يسمي كل طرف خبيراً عنه من جدول خبراء المحاكم، ويعين القاضي الخبير الثالث.
- يجري الكشف من قبل المحكمة على المسكن المأجور بمعرفة الخبراء المستعان بهم للنهوض بمهمة الخبرة بغية تقدير قيمته الشرائية بوصفه مؤجراً بتاريخ الادعاء كمبدأ لسريان بدل الإيجار المخمن الذي يحدد بالنسبة القانونية وهي 5% من القيمة المقدرة.
- والخبراء إما أن يتفقوا على قيمة المسكن ويعدون تقرير الخبرة بإجماع الآراء، أو أن يختلفوا بين أكثرية وأقلية، ويأخذ القضايا بتقرير الأكثرية ما لم يجد ضرورة الاستيضاح منهم عن سبب الاختلاف أو يقرر إعادة الخبرة إذا رأى أن ثمة نقصاً أو غموضاً يكتنفان تقرير الخبرة، ينالان من سلامة التقدير.
- والواقع الذي يلمسه العاملون في مرفق العدالة، قضاة ومحامون، هو أن اختلاف الخبراء حول تقدير قيمة المسكن المأجور غالباً ما ينشأ عن انحياز كل خبير للطرف الذي اختاره ومحاباته، فينضم خبير المحكمة لأحدهما إذا لم يفلح في التوفيق بين رأييهما والتوصل إلى رقم موحد لقيمة المسكن يجمعون عليه، بحيث لا يكون تقدير قيمة المسكن في معظم الحالات مطابقاً للحقيقة والواقع، ويصدر تقرير الخبرة بالأكثرية ويأخذ به القضايا ويبت بالدعوى على أساسه بقرار يقبل الطعن بطريق النقض.
وتكمن الخطورة في دعاوى "التخمين" الراهنة، بأن معظم الخبراء ينطلقون في تقدير قيمة المسكن المأجور من انخفاض القوة الشرائية للعملة السورية وارتفاع سعر صرف الدولار الأميركي في السوق المحلية، مع أن سورية دولة مستقلة ذات سيادة ويتعامل مواطنوها بالعملة الوطنية، الأمر الذي أدى لزيادة بدلات الإيجار والارتفاع بها بشكل مذهل وغير مسبوق دون ضوابط ومعايير سليمة ومقبولة، إلى أضعاف مضاعفة عما كانت عليه قبل الأزمة التي تمر بها البلاد حالياً، على نحو بات معه المستأجر ينأى عن تحمل أعبائها ويعجز عن الوفاء بها ويضحى عرضة للإخلاء لعلة التقصير عن دفع الأجور وتتعرض أسرته للتهجير والتشريد من مسكنها، وهنا تقع المأساة الإنسانية الكارثية في مثل هذه الظروف الصعبة التي تحيط بالمواطنين وتزيد من معاناتهم القاسية.

حق الملكية وحق السكن
لا مشاحة أن حق الملكية مصون بالدستور والقانون، وهذه مسألة لا تقبل الجدل أو المناقشة، إلا أنه لا غرو أيضاً أن حق السكن هو من أولى حقوق الإنسان ومن واجب الدولة تأمين "إيواء" رعاياها وتوفير المساكن لهم توخياً للحياة المستقرة والكريمة وعدم تعريضهم للتشريد والتهجير في خضم أزمة السكن الخانقة والمستشرية وتفاعلها في غمرة المفارقات التي تعتور مؤسسة التخمين في الدعاوى القضائية التي تطال المساكن المشمولة بأحكام التمديد القانوني، ما بات يحتم حماية قاطنيها الذين يعود تاريخ إشغالهم إياها إلى النصف الثاني من القرن الماضي، حيث كانوا شباباً وكان بدل إيجار بيوتهم يتناسب مع دخلهم المحدود، وقد تقدموا في السن عبر العقود المنصرمة وبلغوا من العمر عتياً وأحيلوا على التقاعد وانحسر نشاطهم وتضاءلت مواردهم ولم يعد بوسعهم مجاراة ارتفاع بدلات الإيجار السنوية التي أجج أوارها تذرع خبراء المحاكم بتدني القوة الشرائية للعملة السورية وارتفاع سعر صرف الدولار الأميركي في السوق المحلية، وهذا ما يلمسه العاملون في مرفق العدالة من خلال الشطط والغلو في تقدير قيم تلك المساكن في دعاوى التخمين رغم قدمها وعدم طروء أي تبدل على كيانها الإنشائي.
إزاء هذا الوضع الشاذ ذي الأبعاد الخطيرة على مستقبل الأسر التي تقطن في المساكن المشمولة بأحكام التمديد القانوني، لا مناص من تدخل المشرع وذلك بوقف دعاوى التخمين التي تتناول هذه المساكن مدة زمنية معينة ريثما يتاح له إعادة النظر في قانون الإيجارات وإيجاد الصيغة الملائمة لهذه المعضلة انطلاقاً من مبادئ العدالة، بما يحقق التوازن في العلاقات القائمة بين فئتي المالكين والمستأجرين دون طغيان مصالح إحداهما على الأخرى، وبالتالي، يوفق بين دخل المستأجر لمسكنه القديم العهد وبدل الإيجار الذي يؤديه عنه.
وكحل بديل لدعوى "التخمين" التي يجيز القانون للمالك إقامتها على المستأجر بصدد تلك المساكن في كل ثلاث سنوات مرة واحدة، يجدر العزوف والاستعاضة عنها بزيادة بدل إيجارها السنوي بنسبة مئوية محددة بصورة دورية في كل ثلاث سنوات مرة واحدة أيضاً.
ولا غضاضة في تدخل المشرع في قضايا الإيجارات في مثل هذه الظروف الصعبة والاستثنائية التي تعصف بالبلاد وتنعكس سلباً على حياة ومصالح المواطنين بوجه عام ومستأجري المساكن المشمولة بأحكام التمديد القانوني بوجه خاص، فقد سبق له أن تدخل في هذه القضايا أكثر من مرة كلما شعر بأن لتداعياته السلبية طابعاً اجتماعياً واقتصادياً ووطنياً، وأن ثمة حاجة ملحة لإيجاد التوازن بين القيم الحقيقية للعقارات وأجورها، وضرورة القضاء على التوتر في العلاقات الإيجارية بين المالكين والمستأجرين ضماناً لحسن سيرها وتوطيدها على أسس قوية وعادلة لما فيه مصلحة المجتمع.
- فبموجب المرسوم التشريعي رقم 24 الصادر بتاريخ 25/1/1965، خفضت بدلات إيجار المساكن بنسبة 25%، مع أحقية كل من المؤجر والمستأجر بالادعاء بالغبن، أي بإقامة دعوى التخمين، إذا كان بدل الإيجار بعد التخفيض يزيد أو ينقص عن النسب المحددة في القانون.
وقد انطلقت الأسباب الموجبة لهذا المرسوم التشريعي من "أن الطبقات الشعبية الفقيرة ليست بوضع يساعدها على طرق أبواب القضاء لإقامة دعاوى التخمين" ومن "الحرص على تخفيف أعباء السكن على المواطنين وخاصة ذوي الدخل المحدود الذين يدفعون نسبة كبيرة منه أجوراً للسكن".
- وبموجب المرسوم التشريعي رقم 187 الصادر بتاريخ 7/9/1970، خفضت بدلات إيجار العقارات المؤجرة لسكن العرب السوريين بنسبة 25%، وحجب عن المالك حق الادعاء بالغبن بصددها مهما امتد زمن إشغالها.
وقد انطلقت الأسباب الموجبة لهذا المرسوم التشريعي من "الارتفاع المفاجئ لقيمة العقارات والذي لا مبرر له عملياً وتأثير هذا الارتفاع على تقدير قيمة العقارات عند التخمين".
- وبموجب المرسوم التشريعي رقم 13 وتاريخ 4/2/1971، حدد التخفيض الذي استحدثه المرسوم التشريعي رقم 187 لعام 1970، بحيث "لا يجوز أن ينزل بدل الإيجار عن النسب القانونية المحددة في قانون الإيجارات الصادر بالمرسوم التشريعي رقم 111 لعام 1952، على أساس القيمة المقدرة للعقار في التخمين المالي من قبل الدوائر المالية، وفي ذلك إنصاف لكل من المستأجر والمالك".
فقمين بالمشرع إذن، عملاً بقاعدة "لا ينكر تبدل الأحكام بتبدل الأزمان" أن يتدخل اليوم أيضاً في قضايا الإيجارات، انطلاقاً من المعطيات التي بني عليها تدخله في السابق من خلال المراسيم التشريعية المشار إليها، بخاصة أن الظروف الصعبة التي فجرتها الأزمة الراهنة وتحيط بالمواطنين تقتضي مثل هذا التدخل دون تراخ تصحيحاً للمسار الخطير الذي يرسمه خبراء المحاكم في دعاوى التخمين، حماية للطبقات الفقيرة وتخفيف أعباء السكن على المستأجرين من ذوي الدخل المحدود، الذين يستحقون الرعاية درءاً لتهجير وتشريد أسرهم من المساكن التي تأوي إليها، وتجنيبهم المزيد من المآسي والمعاناة الإنسانية.
يتبع....