التواصل المعرفي بين الماضي وما ينتجه الحاضر

التواصل المعرفي بين الماضي وما ينتجه الحاضر

الأزمنة

الأحد، ١٥ فبراير ٢٠١٥

زهير جبور
جرت العادة أن يدرج اسم المتحف في جدول الزيارات الرسمية التي تتم بين الدول خاصة للوفود المعنية بشؤون الثقافة والتراث والتقاليد الشعبية وغيرها، وهذه المواقع تعطي دخلاً متفوقاً جداً في بعض الدول التي أحسنت استثمارها وحافظت عليها، وجذبت الزوار والسياح إليها، وعندما كنا نتغنى ببلادنا بتلك الحضارات التي تركت آثارها لنا كان الاهتمام ينصب بعيداً عنها، بل ونهملها على حساب ما زعمنا أنه التطور في إقامة كتل الإسمنت محاذية للشاطئ تماماً، وطمس المشهد الطبيعي واستبداله بالمزيف، وطمر المعالم الأثرية دون دراسة كونها في حال الإعلان عنها ستعوق تنفيذ المشروع الفندقي الذي ينجز، وهذه الحالة تكررت كثيراً، وبمباركة من الجهة الرسمية المسؤولة، وأجابني أحد المسؤولين عندما طرحت عليه السؤال قديماً حول ذلك أن الساحل السوري بكامله وأينما اتجهت فيه ستجد في باطنه الأثر، وهذا ما يعني أننا لا نستطيع أن نقوم بأي مشروع إذا طبقنا ما تريده الآثار، وعليه طمر ما طمر، وخرب ما خرب، حتى داخل المدينة القديمة ذات الحماية الخاصة التي تحصنها قوانين صارمة تم خرقها في الكثير من المواقع واستبدال القديم ببناء حديث تجاري، وهي الحال التي تظهر نفسها دون تستر.
•    أهمية المكتشف
نعود للقيمة التاريخية والمواقع الأثرية وحتى الآن لا يتجاوز عددها العشرات، وهناك أضعاف هذا الرقم لا تزال تنتظر الاكتشاف، واللاذقية بحاجة لجهود كبيرة ومخلصة لسبر أغوارها، وكذلك الساحل السوري.. ففي طرطوس امتداد للتاريخ وصولاً إلى أوغاريت، وبين جبل وبحر تنتشر تلك المواقع، وبين وقت وآخر تلعب المصادفات دورها في الاكتشافات، كما حدث ببلدة عين سالم القريبة من مدينة جبلة حين أظهرت فلاحة الأرض كنزاً من الفسيفساء لكنيسة قديمة، كما حددت الدراسات سور المكان وأجل العمل به، وغيرها الكثير جداً، ومن المستغرب أننا نفتقد إلى اليوم وجود متحف وطني كبير يضم المكتشفات، ويأخذ مكانه بين المتاحف الكبرى في العالم، وما عندنا في اللاذقية هو (خان) قديم حوّل إلى متحف صغير لم يطرأ عليه أي تطور، وفي طرطوس وحالها أفضل يعود أصل المتحف لكنيسة قديمة جداً، ولا ذكر له في مدينة حمص، وما حصل أن قطعة الأرض التي خصصت كمتحف للاذقية بجانب دار الثقافة أهملت وتركت، وتحولت إلى كراج لوقوف العربات، مع أنها تجمع على أرضها أعمدة تاريخية منها الرخامي مرمية في إهمال شديد، منظر يبعث على الحزن فعلاً، ويجعلنا نستدرك قيمة نحتفظ بها لتاريخنا الذي نمجد به إعلامياً ولا نعمل حياله أي شيء يذكر.
•    هذا الموقع
ونحن نتحدث مع السيد المهندس إبراهيم خير بك مدير متحف اللاذقية أشار إلى عدة ملاحظات هامة بخصوص المتحف المطلوب لتراث اللاذقية وعلى نطاق أوسع الساحل السوري، والأرض الحالية حسب رأيه لا تصلح لمثل هذا العمل، منها ضيق المكان، وخاصة أن ارتباط المتحف بالحديقة الفسيحة أمر علمي ومطلوب ومنفذ في جميع المتاحف التي قام بزيارتها، وعرض التماثيل أو التوابيت يحتاج لهندسة تراثية خاصة، وهذا ما لم نطبقه في بلادنا ولم نعره أي اهتمام، وفي اللاذقية وبساحتها الرئيسية تقع مدرسة جول جمال الأثرية التي خرّجت أجيالاً من أبناء المحافظة، وهي بموقعها تصلح لأن تكون ذلك المتحف ومساحتها تستوعب المعروضات، وجعل المتحف الحالي الذي نحن فيه الآن كلية للفنون التطبيقية والتقاليد الشعبية، ويعود تاريخ البناء إلى نهاية القرن السابع عشر، كما ورد لدى المؤرخ اللاذقاني (الياس صالح) في مخطوطه (آثار الحقب في لاذقية العرب) وكان خاناً يتوسط الجهة الغربية من المدينة، مجاوراً للميناء وتفصله عن البحر حديقة (المنشية) وهي المعروفة اليوم بأشجارها القديمة جداً ويطلق عليها اسم (البطرنة) التي تحاذي مبنى (الكازينو) الأثري أيضاً، ومساحة المتحف 2750م2 وبداخله حديقة مساحتها هكتار ومؤلف من 6 غرف ومجموعة من القناطر الحجرية وتم افتتاحه متحفاً عام 1981 وأصبح من الضرورة إيجاد البديل المناسب له.
•    النشاط العام
أثرت الأحداث المؤسفة التي تمر بها البلاد على كامل جوانب الحياة العامة دون استثناء، ومحافظة مثل اللاذقية كان اعتمادها الرئيس على السياحة لابد أنها تعاني كثيراً، خاصة أن سياحتها توقفت تماماً وأصابها الشلل ما أدى إلى إيقاف النشاط الأثري وهو المرتبط بالسياحة والزوار، ويمكن أن نقدر أن زوار (أوغاريت) الذين كانوا يحضرون على شكل مجموعات سياحية قد انعدموا تماماً، وكذلك القلاع، والمواقع الأخرى، وهذا لا يعني بالضرورة إهمال التخطيط للمستقبل والعمل من أجله، وإرادة الانتصار لا بد أنها ستحقق هدفها المنشود، لكن الحياة ينبغي أن تتواصل مهما كانت الظروف، ولهذه الأسباب دخل المتحف الحياة الاجتماعية ولم يقتصر عمله على دوام الموظفين فقط، بل أرادت إدارته أن تجعله تفاعلياً وتعمل على إقامة مركز البحوث الأثرية والسياحية، وهذا ما لم يفكر به أحد، ومن قبل لم يكن العمل الأثري والسياحي يخضع لدراسات علمية تبرز الخلل أو السليم في العمل، وعليه جاءت سوق الاستثمار السياحي التي أعلنت عنها وزارة السياحة ارتجالية، تفتقر للمخططات، وهي تشكلت من عمل موظفين كانوا بحاجة لثقل خبراتهم قبل المباشرة، ونشهد اليوم نتائج تلك السوق، مشاريع متوقفة، وقروضاً تم الحصول عليها بطرق ملتوية، مع أن السيد وزير السياحة وجه بضرورة التنفيذ والمباشرة، وحتى الآن لم يتحقق ذلك، وفي الشق الثاني للمركز إعادة إحياء اللغة الأوغاريتية التي شغلت العالم واهتم بها أكثر من اهتمامنا والرجوع إليها كونها لغة سورية أصيلة، وقد حافظ أبناء معلولا ومحيطهم على لغتهم التي ورثها الأجيال للأجيال فيما الأوغاريتية انقرضت ولا ذكر لها، ولا بأس من أن تكون إحدى مهام هذا المركز إحياء الأوغاريتية.
•    الجانب الاجتماعي
تقوم شعبة ثقافة الطفل حالياً بتنفيذ نشاطات طفولية داخل المتحف الغرض منها ربط الطفل بآثاره والتعريف بها، ويرتاد المتحف يومياً مجموعة من الأطفال يلقون فيه التوجيه والمعرفة وكان آخر ما فعلوه أنهم تلقوا درساً ميدانياً عن صناعة الفخار وتم استحضار أدوات الصناعة ووضعت في مكان مناسب وقام الأطفال بالعمل، وكان من المقرر أن الدرس بوقت محدد، إلا أن رغبتهم جعلتهم يمددونه، وثمة مجموعة أخرى سميت المهندس الصغير انحصر عملها في رسم الآثار بإشراف مختصين، والغرض التربوي يظهر من خلال العمل، واللافت أن الأطفال يتقبلون دروسهم ويحضرون في مواعيدهم، وهم يركزون على المعلومات ويطرحون الأسئلة التي تثير الدهشة أحياناً كما قالت إحدى المشرفات، وفي المتحف أيضاً ركن للقراءة والمحاضرات والهدف هو التوعية، والحرص على الآثار، وإبراز أهميتها في الحياة اليومية، والتأكيد على حضورها، وإذا نظرنا لمناهجنا الدرسية فسوف نجد ثمة غياب للتربية الأثرية أو التعريف بها كما ينبغي، وحتى رحلات الاستكشاف التي كانت تتم قديماً، تراجعت كثيراً، وإن حصلت فهي تأخذ طابع التسلية دون دمجه بالمعرفة، أي إننا اليوم بحاجة لشبه نهضة تربوية تصب في مفهوم تعرف على بلادك، وخاصة أن الأزمة اللعينة باعدت فيما بينها وأفشلت تواصلها، لكنها لم تتمكن من إبعاد المواطن السوري عن شعوره بالانتماء لسورية الوطن الحاضن للشعب على كامل أراضيها، والآن ينبغي أن نعمل في تصعيد روح الانتماء لدى الأطفال من خلال التاريخ والجغرافيا. المدن. والمواقع. السوري الذي لا ينفصل عن أخيه السوري مهما كان حجم المعاناة والتآمر.
•    نظرة للقادم
هي ما يتطلع إليها السوريون وينبغي من خلالها تحديد اتجاهاتهم المستقبلية ولعل ما تلقيناه من درس صعب يجب أن يبعدنا عن الإحباط أولاً والانطلاق صوب الجديد في مفاهيمنا، وممارسة حياتنا، وأساليب عملنا، والتحرر من مرض الأنا الذي ابتلينا به قبل سنوات من الفاجعة ولنعمل جميعاً بوفاء وإخلاص، ونحارب مظاهر السلب التي طغت على حياتنا وهي من الأسباب التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه، فهل سنفعل وننطلق؟ والشعوب الواعية تستفيد من أخطائها وتعمل على تجنبها والخلاص منها، ولا بأس أن يكون دور المتحف كالمدرسة والمركز الثقافي والنادي الرياضي وجميعها تصب في البناء النفسي والاجتماعي في طريق التقدم والازدهار.. أليس هو الحلم الذي يشغل نفس كل شريف سوري مؤمن بوطنه؟.