الإنسان ورموز المكان والتاريخ

الإنسان ورموز المكان والتاريخ

الأزمنة

السبت، ٨ نوفمبر ٢٠١٤

زهير جبور
يستمد خزان الذاكرة عناصر تحفزه من المكان الذي يحركه الإنسان لتتكون عاطفته ليس من فراغ، بل من تجذر نفسي يدفعها متغلغلة في الأوردة. متدفقة كالينابيع ويمكن لهذه أن تجف مع الزمن لتبقى العاطفة دون نقصان. هي معادلة قائمة، وحين يرجع الفرد السليم إلى ما حن إليه وفصلته عنه سنوات البعد سوف يتأجج إحساسه الذي يتطلب شرحه المزيد من صياغة جمل للشعور، ومفردات للتباعد. التقارب. الشوق. هكذا دخلت الحالة أثناء زيارتي لبلدة القرداحة، ووجدت أن إنسانها لم يتغير بل بقي على ما كان عليه من عفوية وصدق برغم الاسمنت الذي أخذ مكان الطبيعة، ليظل جذرها بالنفوس كما هي جذوع السنديان على قمم الجبال.
•    تفاصيل
تبعد القرداحة عن اللاذقية 30كم، تقع جنوب شرقها، من الغرب يحدها السهل الساحلي، وشرقاً سهل الغاب. هي منطقة سياحية مهملة ففيها ما يميز تضاريسها من وديان، وجبال منتشرة تحيطها لتنتهي غرباً عند شاطئ البحر وهي تتوسط القسم الشمالي من سلسلة الجبال الساحلية، أصل كلمة قرداحة سرياني. وتعني قردح الإقرار بما يطلب منه. وفي العامية قردح أجرى إصلاحاً على السلاح، وفي معنى قدح أي أشعل النار، وكغيرها من المدن تعرضت للكثير من قذائف الإرهاب قبل دحرهم وإبعادهم، وكان لهم من ذلك أهدافهم الخاصة ولن يتمكنوا من تحقيقها، وجيشنا العربي السوري يواجههم في كل مكان بالعقيدة والإيمان بسورية الواحدة. وجميع شبان وشابات الريف الساحلي مستعدون للشهادة دون تردد في مواجهة التخلف المتعفن الذي يسعى لهدم الحضارة. ونشر الظلامية وإرجاعنا إلى الوراء مئات السنين. وهو المرفوض حتماً من كل أبناء الوطن. مجمل السكان ينتمون أصلاً لمجتمع زراعي جمع بين خصوبة السهل وقسوة الجبال وهم يحملون معاناة كل السوريين من غلاء وشح للدخل. ومعظمهم يعتمد على المرتب الوظيفي الذي لا يكاد يؤمن الحاجة للطعام.
الواقع الحالي:
لم تشهد القرداحة التي عرفت عالمياً ذلك التطور العمراني الكبير. لم تقم فيها ناطحات سحاب. ولا فنادق نجوم. ولا تلك الأضواء التي تبهر البصر. ظلت كما هي ضمن حركة عمران وتطور عاشتها البلاد بكاملها دون أي تمييز، وبداخلها اليوم مطاعمها الشعبية العادية وسوقها الواقعة في الشارع الرئيس الممتد من دوارها الغربي الضيق وصولاً إلى نهايته بطول 500م فقط وتوزع الحوانيت العادية جداً على طرفيه. ويعتبر مركزاً اقتصادياً لجميع البلدات المحيطة في حال عدم الذهاب إلى سوق جبلة أو اللاذقية. وبداخلها ضريح القائد الخالد حافظ الأسد يخيم عليه الإجلال. وجامع السيدة ناعسة الذي يؤمه المصلون ليؤدوا صلواتهم راكعين للخالق جل جلاله بمظلّته ورحمة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم والصحابة والصالحين أجمعين. وكان من المطلوب أن تتحول مع مرور الزمن إلى منطقة سياحية بامتياز لكن ذلك لم يحصل. وتتوفر فيها كل عناصر الجذب السياحي من مناخ معتدل إلى طبيعة ساحرة متنوعة. خلابة. لا نبالغ إذا قلنا أن في بعض مواقعها ماهو نادر الوجود في العالم..
•    هذه الندرة:
إذا عدنا للتاريخ فثمة ما يثبت ذلك، ونظراً لأهمية موقعها فقد أجريت أولى الدراسات الجيولوجية عنها عام 1891 من قبل الجيولوجي الألماني (بلانكتهورن) الذي حدد أعمار الصخور إلى دور (البالوجين) من 65 إلى 23 مليون سنة. ومن ثم النيوجين من 23 إلى 2 مليون سنة، ونشر الجيولوجي (دوبرتويه) تقريره في منتصف القرن الماضي ليشير إلى أنّ قمم الجبال ترجع إلى دور (الجوراسي) من 200 إلى 135 مليون سنة. وينبغي التوقف عند الآثار المهمة جداً التي لم تحصل على حقها من الاهتمام والدراسة وهي كثيرة منها الظاهر، أو غير المنقب عنه. وجميعها ليست مدروسة، والقليل جداً ما لحظته الجهة الأثرية المختصة ولم تصنف في جداولها حسب معلوماتنا. وإذا سألنا لماذا؟ فسوف نعثر على الجواب عند الذين تسلموا مهام وزارتي السياحة والثقافة في الماضي متجاهلين تماماً كنوز الجبال الساحلية ومواقعها والسياحة الجبلية التي لم يتم التركيز عليها.
•    نيننتي
ضمن جولتنا في المنطقة وصلنا بلدة نيننتي التي تبعد عن القرداحة 10كم. بلدة صغيرة سكنها الإنسان الأول، مليئة بالآثار, وجروفها الصخرية ذات هندسة فنية أوجدتها الطبيعة وفيها مدافن قديمة. وتأتي أهميتها من وجود مقام السيدة العذراء وإلى جانبه نبع ماء, وتقام به سنوياً مراسم أعياد الفصح، ويحضر إليه الزوار. وهو متموضع على سفح جبل صخري بشكل كهف مربع حفر في قلب الصخر الذي تمركز بضخامته على الجانبين, تظلله كثافة أشجار السنديان ويقدر عمرها بمئات السنين. عرفه أبناء المنطقة قديماً. وثمة حكايا شعبية توارثتها الأجيال تحمل في مضمونها قيمة دينية. لم تمتد إلى قداسته أي يد. زرنا المقام الذي وجدناه تحفة فنية منحوتة في صخر بوحي بمقدرة خارقة جعلته متميزاً, متفرداً تعلوه في المدخل الحجري المربع صورة للسيدة العذراء تبعث لمجرد رؤيتها الطمأنينة في الروح. والخشوع في النفس. وكان من الممكن جعله موقعاً لسياحة دينية لا تقتصر على جماعة بعينها, ولو تم ذلك بقليل من الإعلام والترويج والاهتمام لحصل المكان على سمعة عالمية. وهو يعود حسب المصادر الشعبية للمسيحية الأولى. وضمن إمكانياتهم يعمل أبناء المنطقة على صيانته بشكل طوعي، مرحبين بزواره, مقدمين لهم الخدمة المطلوبة. واسم نيننتي مأخوذ من الآلهة الأوغاريتية (نانو) الذي ورد في رقيمات أوغاريت. أما نبع الماء فيتدفق من الصخر عبر فتحة يتسرب من المصدر العلوي للجبل. هو ما رأيناه وسوف نسعى مع بعض المختصين لدراسته، لتتمكن من الإعلان عنه موثقاً بالصور والتواريخ الدقيقة. وفي حال تم ذلك فينبغي أن تقوم الجهة المختصة بما عليها من مسؤولية تجاه تحميله على خارطة السياحة الدينية. وحسب توقعنا فإن جميع المقومات متواجدة بالموقع.
•    ليس هذا فقط
أينما اتجهنا في القرداحة ومحيطها سنجد الأثر, والموقع, والمكان, والإنسان. وهناك دير حنا الذي لا يبعد عن مقام السيدة العذراء إلا 2 كم فقط. ولا بد أن يكون للتسمية علاقة تاريخية به. وفي القرداحة الوادي الذي يطل عليه مشفى القرداحة الحالي. وكان كهفه القديم المصدر للحصول على العسل البري بسبب تكاثر النحل وإنتاجه للعسل بداخله. إلى جانب وادي بكرما وصولاً إلى مقامات بني هاشم التي ترتفع عن سطح البحر 1150م. مطلة على السهل الساحلي وعلى سهل الغاب، في أجمل لوحة يمكن أن تبدع بها ريشة فنان قدير يدرك قيمة مزج الألوان وتقنيتها المعبرة.
وكلما مررنا بمكان سنجده في تضاريسه مختلفاً عن الآخر. وهو ما فسح لنا الوقت القليل لتأمل طبيعة غنية مداها بوسع البصر. وقلبها ينبض بسوريتها, ورموز أماكنها تحمل ذلك في التأكيد المطلق الذي لا يمكن لأية مؤامرة مهما كان بطشها وخرابها أن تمس بذلك التاريخ ولن يمحى أبداً وسيبقى متجدداً مع كل نبض مؤمن بسورية وشعبها العريق..